في العمق
بقلم |
عبدالرحمان بنويس |
الفكر التدبري في الكون «بين مآلية الرؤية الواقعية وإلزامية الشريعة» |
مفتتح التقديم
إنّ مصطلح الفِكر يراد به «ترتيب أمور معلومة للتأدّي إلى مجهول أو تردّد القلب بالنّظر والتّدبر بطلب المعاني»(1) ويقابله الحدس والفطنة والنّباهة في الفكر وذو مِرَّةٍ أي سرعة انتقال الذّهن من المبادئ إلى المطالب وتفسير الأحكام وإدراك تصوّرها الشّامل.
وأمّا مفهوم التّدبر فهو «عبارة عن النّظر في عواقب الأمور، وهو قريب من التّفكّر؛ إلاّ أنّ التّفكّر تصرف القلب بالنّظر في الدّليل، والتّدبر تصرفه بالنّظر في العواقب»(2). وأمّا الكون: «عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم لا من حيث أنّه حقّ، وإن كان مرادفًا للوجود المطلق العام عند أهل النّظر»(3) وأمّا المآل فالقصد به هو نتائج الأفعال والأحداث من حيث وقوعها ووجودها سلبا وإيجابا، والرّؤية بالتّاء هي النتائج المرغوبة على وجهها الشّرعي المصلحي للنّاس على الوجه العام أو الخاصّ، وأمّا الإلزام هو الحثّ والطّلب على وجه التّكليف التّعبدي الذي أراده الشّرع الحكيم من العبد.
الغرابة الفكريّة بين الخيال والواقع:
نعيش أحيانا عالما افتراضّا غريبا، ليس في مواقع التّواصل الاجتماعي فحسب، بل في أذهاننا وفي أفكارنا الدّاخلية، وكلّما تعمّق التّفكير كلّما أحسّ الإنسان بشيء غريب في عقله، ووصل إلى حلول وفرضيّات تلخّص مساره الحياتي، فما الفوائد التّربوية لعمليّة الفكر؟ وهل يؤثّر الفكر على الإنسان؟ هل يصل الإنسان بفضل غوصه الذّهني إلى حلول سحريّة؟.
لعلّ المتأمّل في هذه الأسئلة الفلسفيّة يفترض أنّ التفكير هوعملية ذهنيّة ونتاج فكريّ لمجموعة من المعلومات والأفكار والحقائق والأباطيل والأوهام والتّمثّلات الجدليّة، وهي إمّا أنّها توصلك إلى حقيقة الذّات أو تبيّن للمرء أنّه يسير في الاتجاه المعاكس، مماّ يفرض تغيير نمط سلوكه وتعامله وحركاته الفكريّة اليوميّة.
لتمحيص ما سبق نبدأ بآخر سؤال، فحين يحصل للإنسان عمليّة توليد الأفكار، وهي مرتبة عليا من النّضج الفكري يحصل له انفجار علمي بين المواقف وتضارب منهجي في فلسفة تصوّراتها وإدراك معناها، حتّى إذا أراد الفكر الإنساني الذّاتي أن يستقرّ على حالة واحدة، تساقطت عليه الآراء من كلّ حدب غير متوقّع، وكلّ فكرة منها تطلبُ موقعها ضمن التّراث العارم من أفكار الذّات، فقد يحدث للإنسان صراع معرفيّ يجعله يطيل التّفكير من أجل أن يصنع في ذهنه جملة الرّأي السّديد، ويصفِّيه بمصفاة المنطق والدّليل، حتّى لا يسقط في مهبَّة الظّن والوهم والظّن أكذب الحديث، وبذلك يتصوّر حقيقة هذه العمليّة الذّهنيّة وآفاقها المستقبلية على الفرد والمجتمع.
وأمّا حقيقة السّؤال الثّاني فيمكن اختصارها بالتّركيب الفلسفي الآتي، فما دام المرء على مقولة ديكارت «أنا أفكر فأنا موجود» فهو في صراع دائم مع عالم المعرفة، إمّا المعرفة الجديدة التي ترغب في أن تتغلَّب على القديمة وتمحها محو الزّلال، أو أنّها الفرد ينفصل عن عقله من خلال صعوبة إزالة تمثّلات المعرفة القديمة وقبولها للطّرح الجديد، والقول الفصل في الحفاظ على المعرفة القديمة، والبناء على أنقاضها المعرفة الجديدة، ممّا قد يؤثر على الإنسان سلبا من خلال الإصابة بأمراض نفسيّة وعقد مؤلمة، لا تحلّ بدورها إلاّ بالأفكار، وإمّا ستؤثّر عليه إيجابا من خلال اكتساب أسرار وحكم من هذه الحياة الفانية فيحثّه تأمّله وتفكيره على البحث عن الحقيقة من خلال القرآن الكريم والعيش مع درره وذخائره، وقد صدق الله في محكم تنزيله بالحثّ على التّفكير في أكثر من موضع بالقول: «أفلا يتفكّرون» (4) «أفلا يعقلون»(5) «أفلا يتدبّرون»(6) «لعلّكم تعلمون» (7) والنّاظر فيها يدرك أنّ من أسرار القرآن التّركيز على إصلاح العقل ابتداء من كلّ المعتقدات والأفكار السّلبية وضمّه إلى عالم مليء بالحقيقة، ولذلك نفسّر إجابة السّؤال الأول.
الرغبة في التّدبر والتّفكّر:
لنتساءل من جديد: لماذا لا نعيش مع ذواتنا بالصّراحة العلميّة التي تقتضي الإفصاح عمّا تجود به قريحتنا؟ الحقيقة المرّة التي تجعلنا نخفي الكثير من أسرارنا عن ذواتنا هي «تلك النّزعة التي قد تقتل الإبداع في أيّة لحظة»، كما يمكن أن يحصل الاستهتار إذا لم يكن الانطفاء، لأنّ تحليل الذّات لنفسها أحيانا يفسّر على غير حقيقته، نظرا لاستصحاب الكثير من التّأويلات الزّائدة عن القدر المحدود !!! ثمّ لكون تفسيرات من لم يدرك التّفسير يؤدّي بالنّفس إلى الاكتئاب والاضطراب والوسواس القهري، ولذلك فالإنسان لا يخسر كلّما رفع من قيمة الأشياء الحسنة وفسّرها بوجه حسن، وأمّا تفسير الأسرار فهي موكولة إلى الله حقيقة، غير أنّ اجتهاد الإنسان فيها وتأويلها يبقى بمثابة إلهامات تحتمل وتحتمل.
مآل التأمل في الفعل والقول حسب الشّريعة:
إنّ التّصريح بالمشكل والتّشاور مع الذّات مهمّ جدّا خصوصا إذا كان عندنا ضمير يقظ، لا يكثر من التّأويل الفاسد، ولا يغترّ بقدر زائد، لأنّ ذلك من مهلكات الإبداع، وعدم التّفكر في النّقد الذاتي هو أيضا من قواصم الضّلال والعياذ بالله، ولذا يوثر عن عمر رضي الله عنه قوله: « حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ - أَوْ قَالَ: أَيْسَرُ - لِحِسَابِكُمْ، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتَجَهَّزُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (7)» (8) وهذا من قواعد النّقد الذّاتي المآلي، لأنّ ذلكم المهيع يؤدّي بالمرء إلى التّمكين وتوظيف جميع الآليّات الإدراكيّة لمعرفة حقيقته على وجه الأرض، وعدم توظيف ذلك يؤدّي بالمرء إلى الوبال كما أكّده تعالى في قوله:« وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» (9). فالإنسان المتأمّل المتدبّر الذي أدرك حقيقة التّمكين في الأرض يوقن بأنّه إلى التّراب أقرب منه إلى الصّعود السماوي، ويدرك حقيقة الحياة، بين جدليّة التّوفّر على المال والعيش الكريم والعبادة المخلصة والعمل الصّالح والطّالح والرفقة الفاسدة... فمن اليقين أنّ تفكيره يؤدّي به إلى التّفكّر في مستقبله ويسعى إلى بناء ذاته ونفعها وإبعادها عن كلّ المهلكات، ويسعى إلى تنزيل مفهوم الخلافة والاستعمار النّافع لنفسه ولأهله ولمجتمعه ولأمّته، ولولا التّدبر لما أسلم الصّغار والكبار والنّساء والعبيد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
إكراه المراجعة الفكرية في الواقع
وحتى نكون صرحاء غير مبالغين، فالمجتمع بجميع مكوناته أصبح سلطة قوية تفرض عليك تضارب أفكارك، وتجعلها تتغيّر باستمرار إن لم تنكر بعضها وتتّخذ أخرى ، وهذا المنهج قد يشنعه عليك الكثير من الأصدقاء والزّملاء بل وحتّى الإخوة، ويصبح هذا الإنكار آلة حادّة ذات وجهين، غير أنّ المرء الحكيم والعاقل هو الذي يصفّي أفكاره ويعزل السّلبيّة فلا يلقي لها بالا، ويحرض على البنّاءة ويحاول أن يكيفها مع الواقع، لأنّ الغرض الإلهي من خلق الإنسان هو الاستخلاف، وقد صدق الله إذ قال «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (10) وقال أيضا: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» (11).
الدعوة إلى إعمال آلة العقل:
وصريح الآي في القرآن الكريم وحديث الرّسول صلى الله عليه وسلم كثير في الحثّ على التأمل والتّدبر لكشف رمز الحياة وحقيقتها، وإدراك حركيّة الكون وسرّه وسيرورة النّبات، وكلّها علامات دالّة ثابتة لله، شاهدة على وجوده مثبتة لقدراته العظيمة، وأنّه القادر على الخلق والتّحريك والكونيّة وبيان النّعم لمن تنعّم بالبصيرة وطمسها على المستكبرين من خلقه، وقد صدق رسوله بالقول: «تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ »(12) فحقيقة هذا الحديث تحثّ على التّأمل في المخلوقات الوجوديّة والمشاهدة من أجل كشف خباياها التي خلقت من أجلها، وإلاّ فالقرآن على وجه التّشريع العام قد ضرب لنا أمثالا عن تأثّر الجماد ترهيبا وترغيبا من أجل الاقتداء بها والاهتداء بفعلها، ولنضرب مثالا لا حصرا قوله تعالى: « لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (13) قال محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «من شأنه، وعظمته، وجودة ألفاظه، وقوّة مبانيه، وبلاغته، واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب أنّه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية القسوة وشدّة الصّلابة وضخامة الجرم خاشعا متصدّعا، أي: متشقّقا من خشية الله سبحانه حذرا من عقابه، وخوفا من أن لا يؤدّي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله، وهذا تمثيل وتخييل يقتضي علوّ شأن القرآن وقوّة تأثيره في القلوب، ويدلّ على هذا قوله: وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون فيما يجب عليهم التّفكر فيه ليتّعظوا بالمواعظ وينزجروا بالزّواجر، وفيه توبيخ وتقريع للكفّار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره، والخاشع: الذّليل المتواضع» (14)
على سبيل الختم
إنّ النّاظر في الكون تأخذه الإشارات إلى إدراك سبب صنعه، ولإدراك حقيقة الكائنات حوله، ويعرف وظائفها وأدوارها، ويتأكّد من محورها ونواتها، ويعرف مصير الإنسان فيها وعلاقته بغيره وبنفسه، وإنّه سوف يرجعه إلى أصل خلقته ومادّته، ممّا يجعله في تفكير دائم، تلك العبادة التي افتقر إليها النّاس حالاّ، وأصبح الكثير يتأمّل في طرق العيش وفي التلذّذ بالدّنيا متغافلين مصير مرور هذه المرحلة العمريّة القصيرة، ولذلك فالكثير من النّاس أصبح يعاني الوساوس والأمراض في غياب شبه تامّ للطّبيب الشّرعي الموجّه إلى إعادة النّظر المعتبر في العقل الإنساني، وفي إدراك طبيعته، هل يقوم بدوره في علاقة تناغميّة مع الرّوح والجسد؟ أم يريد الاستقلال عند إخوته المكونة للجسم الإنساني؟
الهوامش
(1) التّعريفات الفقهية لمحمد عميم الإحسان المجددي البركتي، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1424هـ - 2003م ج1/167.
(2) كتاب التّعريفات لعلي بن محمد بن علي الزّين الشّريف الجرجاني (المتوفى: 816هـ( تحقيق جماعة من العلماء بإشراف النّاشر، دار الكتب العلمية بيروت –لبنان، الطبعة: الأولى 1403هـ -1983م ص54.
(3) المصدر السابق ص188.
(4) وقد تمّ تكرار هذا اللّفظ بهذه الصيغة في القرآن 24 مرّة للدّلالة على قوّة هذه الصّيغة وفعاليتها، والمصطلح القرآني لا يكرّر لفظا إلاّ لبلاغته وقوّته.
(5) وقد تمّ ذكر هذا اللّفظ بصيغته مرّتين، ولعلّ أبلغها تأثيرا قوله تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» سورة محمد الآية 22-23-24.
(6) وأمّا هذا اللّفظ الدّال على العلم فقد تمّ تكراره في القرآن 56 مرّة، وشرفه يمكن في كون أول آية نزلت لتنبيه النّاس إلى الحرص على العلم، قال تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)» سورة العلق.
(7) الآية من سورة الحاقة - الآية 18
(8) الزهد والرقائق لأبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التركي ثم المرْوزي (المتوفى: 181هـ( باب الهرب من الذنوب والخطايا رقم الحديث 306 تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية – بيروت ج1/103
(9) سورة الأحقاف - الآية 26
(10) سورة البقرة - الآية 30
(11) سورة الحديد - الآية 7
(12) المعجم الوسيط لسليمان أبي القاسم الطبراني باب الميم معجم محمد رقم الحديث 6319 لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَالِمٍ إِلَّا الْوَازِعُ، تَفَرَّدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ»
(13) سورة الحشر - الآية 21
(14) فتح القدير لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ( دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى - 1414 هـ ج5/246
|