فواصل

بقلم
د.ناجي حجلاوي
المطالب العالية (الحلقة الأولى)
 عندما تنزّل القرآن تلقته العقول بالقبول. تلك العقول التي آمنت به وصدّقت بما ‏احتواه من أنباء وأخبار علما بأنّ الخبر معلومة شهوديّة حضوريّة « يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ ‏أَخْبَارَهَا»(1) وأمّا النّبأ فمعلومة غيبيّة «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ(1) عَنِ النَّبَإِ ‏الْعَظِيمِ(2)» (2) ولمّا حثّ هذا الوحي المنزّل على التدبّر والتّفكر ‏في أكثر من آية.‏ والملاحظ أنّ هذه الآيات (3) قد تضمّنت فعل «تدبّر» في صيغة المضارع المنفتح على ‏الصّيرورة الزّمانية في كلّ مراحلها إلى يوم الدّين. إلاّ أنّ العقل الدّيني لم يُعر هذه الصّيغة أهميّة ‏منذ القرن الخامس للهجرة. فقد اقتنع القائمون على الشّأن الفكري والثّقافي بضرورة التّقليد و‏الاتّباع لما توصّل إليه الأوائل من مفسّرين وفقهاء وأصوليين. والغريب بالنّسبة إلى الدّارسين ‏هو كيف سقط الفعل الثّقافي في الاجترار والّتقليد والإعادة لما سلف بسهولة والحال أنّ بين ‏أيديهم أقوالا وقرائن تشير إلى عكس ذلك تماما من قبيل أقوال أغلب الفقهاء والعلماء أن ‏آراءهم هي مجرّد أقوال شخصيّة واجتهادات فرديّة تمثّل أحسن ما لديهم وأنّ من جاء بخير ‏منها فهو أولى بالصّواب.‏
‏ ‏إنّ الطريف في المسألة هو أنّ الجماعة تقرّ بأنّ الشّافعي أفتى في مصر بغير ما أفتى به ‏في العراق في ذات المسألة بسبب الاختلاف في العرف وإن كان ذلك في الزّمان ذاته. فكيف يتمّ ‏القبول بالآراء الفقهية والتفسيريّة ذاتها رغم الاختــلاف في الزّمـــان والمكـــان على امتداد أكثر من ‏عشرة قــرون؟ لابدّ أنّ أمرا ما أصاب هذا العقل ودبّ في أوصال هذه الأمّة ممّا يدعو إلى مزيد ‏من النّظر والتّحليل لوضع الإصبع على الأدواء الحقيقيّة والعميقة فهي التّي تعرقل إمكانيّة ‏النّهوض والتحرّر من أسباب التخلّف الحضاري والرّكود الفكري. ‏
إنّ الّلافت في الوعي الدّيني هو أنّه تدحرج من مستوى «قال الله» إلى مستويات عديدة ‏أخرى دون ذلك، بدءا من «قال الرّسول»، علما بأنّ أكبر عمليّة تزوير وتقوّل على الرّسول ‏بدأت منذ القرن الأوّل وهي حركة الوضع. وقد تصدّى عمر بن الخطّاب منذ البداية إلى ظاهرة ‏الرّواية عن الرّسول وقد سَجَن ثلاثة من الصّحابة لهذا السّبب سنتين كاملتين، ومنهم من مات ‏داخل السّجن(4)،‏ وبعد ذلك تدحرجت الثّقافة إلى مستوى «قال الصّحابة» ثمّ قال التّابعيّ ثم تابعُ ‏التّابعي ثمّ قال العالم ثمّ قال الفقيه. والطّامة الكبرى هي أن ثقل الإسلام والدّين قد تحوّل من ‏القرآن إلى المرويّات وضاعت الحقائق المشرقة والقيم النّبيلة والأفكار الحيويّة وتحوّل كلّ ذاك ‏إلى حجاب يحول دون فهم الكتاب، وأصبحنا على حدّ عبارة «جورج طرابيشي» أمام إسلامين: ‏إسلام القرآن وإسلام الفقهاء. ولعلّنا، في حقيقة الأمر، إزاء أكثر من إسلامين. 
إنّ الحقيقة الدّينيّة ‏قد وصلتنا، تبعا لهذا التّقليد والتّفريط في كتاب الله مذرّرة مشتّتة: الجوانب القانونيّة والتّشريعيّة ‏لدى الفقهاء والجوانب الأخلاقيّة لدى المتصوّفة، والجوانب العقاديّة لدى علماء الكلام. وأمّا ‏الفلاسفة فلا شيء لديهم إلّا الزّندقة والهرتقة والمروق. فلا عجب حينئذ أن ينتصر كتاب «تهافت الفلاسفة» على «تهافت التّهافت» وأن يتغلّب «فيصل التّفرقة بين الإسلام والزّندقة» ‏على «فصل المقال». وهكذا ترسّب في الوعي ما سنّه المستعصم بالله من غلق باب الاجتهاد ‏وفتح باب التّقليد.
الهوامش
(1) ‏سورة الزلزلة - الآية 7
(2) سورة النبأ - الآيتان 1 و2
(3) سورة «النّساء» - الآية 82 وسورة «المؤمنون» - الآية 65 وسورة «ص» - الآية 29 وسورة «محمّد» - الآية 24.‏ 
(4) وفي هذا الصّدد يمكن العودة إلى شمس الدّين الذّهبي في سير أعلام النّبلاء.‏