كلمة حرّة

بقلم
علي الطرهوني
الديمقراطية أو الترويض الجديد للبشرية.. هل من سبيل للخروج !؟

إنّ المهتمّين بالشأن الديمقراطي في بلادنا يستعملون مصطلح الديمقراطية ككلمة حق أريد بها باطل. فإذا كانت مجتمعات أوروبا بالأمس قد حملت معها أفكار الثورة الفرنسية من حرية وعدالة ومساواة، فإنّ الإنتلجنسيا العربية في عالمنا الفكري والسياسي لا تزال تردّد هذه الشعارات ولم تقدّم الحلول لأنّها لم تربَّ على مفهوم احترام الآخر واحترام الذات البشرية. فكيف يمكن أن يطالب الفقير بالتعامل بنفس المعايير ومفاهيم الحياة المتاحة للأغنياء ؟ وهل بإمكان المعدم اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا أن يكون ديمقراطيا أو يحكم بالمعايير نفسها التي يختار بها الأفراد في الغرب ناخبيهم وحكّامهم ؟ ما مفهوم التحضر والرّقيّ ؟ هل هو المال والصناعة والمشاركة في القرار أم بالأخلاق واحترام الغير واحترام القانون ؟ إنّ أغلب سكّان العالم من الفقراء. ففي فرنسا وحدها يوجد أربعة ملايين عاطل عن العمل أي أربعة أضعاف ما في بلادنا ولم نسمع أحدا اعتصم أو قطع طريقا !؟ إنّ بناء الوطن وبناء الإنسان يبدأ بالتربية أي تربية الإنسان على قيم المواطنة والديمقراطية والحوار المشترك بين مكوّنات المجتمع المدني لكأنّ الحرية التي ثار من أجلها المجتمع أصبحت حرية التظاهر والتجمهر والاعتصام : حرية المطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية بدون القيام بالواجبات !...

 

قد تكون الديمقراطية هي الغطاء السياسي الجديد لما يسمّيه البعض بالاستعمار الأمريكي للعالم قاطبة. فهؤلاء يقولون أنّ الديمقراطية سلاح اخترعه المستعمر الجديد الذي يستطيع من خلال الاقتصاد وأدوات السّوق إيصال من يريد إلى الحكم والتخلي عن حلفائه الحاكمين المستبدّين. لم تنجح العولمة في تقليص عدد الفقراء في العالم كما ادّعت بحلول عام 2015، بل ازداد الأمر سوءً وفسادا وفوضى. وبعد أن دخلنا روضة الديمقراطية هل صرنا نملك أن نعيش في دولة صالحة للعيش ؟ هل اقتنعت أحزابنا في لعبة الديمقراطية أنّ فائز اليوم قد يخسر غدا ؟ وهو ما يجرّنا إلى الحديث عن العناصر التالية للخروج من ظلام النفق.

 

إعادة التأهيل : ليس من السّهل على العالم العربي أن ينتقل فجأة بآلامه وجهله وفقره من عالم متخلف مستبدّ إلى عالم متفتّح ديمقراطي. إنّ الأمر يحتاج إلى تأهيل جديد ووقف ابتزاز الغرب لموارد العالم العربي. فإصرار الولايات المتحدة وحلفائها على دمقرطة العالم العربي له أسباب لا علاقة لها بالشعوب العربية. كانت الوصفات المقترحة قبل الثورة تنهج نهج تغيير المناهج التعليمية وكبح جماح الجماعات الإسلامية في إشارة واضحة لضرورة إرساء نظم ديمقراطية متشدّدة تخوّل للمواطن العربي التعبير عن رأيه بمنتهى الحرية والتأثير في الشأن السياسي الوطني. يتفق الكثير من الباحثين العرب أنّ المجتمعات العربية تعاني من اختلالات هيكلية تمنعها من التطوّر إلى مرحلة الحرية والديمقراطية وعلى رأسها الفقر والأميّة. لقد كتب أحد المفكّرين الغربيين كتابا سمّاه "محنة الديمقراطية" يقول فيه أنّ الديمقراطية ديكتاتورية مقنّعة، فالذين يتحدثون عن قواعد اللعبة الديمقراطية لا يمارسونها.

 

لقد أصبحت الديمقراطية اليوم شرطا محدّدا من شروط العلاقات الدولية بعد أن تخلت واشنطن عن دعم عملائها من المستبدين والحكّام الفاسدين. فأمريكا تريد عولمة الديمقراطية بل من شروط تقديمها للمعونات لعديد الدول الفقيرة هو اعتماد الديمقراطية كأساس للحكم. هناك أمر إيجابي جاءت به العولمة هو أنّه للمرّة الأولى في التاريخ نجد أنفسنا في عالم يعيش أكثر من نصف سكّانه ضمن أنظمة ديمقراطية، لكن الأمر السّلبي هو انعدام التوزيع العادل للثروات ومواصلة نشر الحرية وتكريس المحاسبة. ولكنّ الملفت للانتباه هو مراجعة مفاهيمنا للحرية وأن نعيد تعريف الديمقراطية كي لا تنقلب إلى فوضى ومن ذلك تحديد مفهوم المواطنة. فرغم احتفالنا بالديمقراطية فإنّ معظم شعوبنا تشعر بالقرف حول كيفية عملها على أرض الواقع. هناك مخاوف من الديمقراطية في الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية بسبب صراع المفاهيم من جهة والعادات المستحكمة من جهة أخرى. والعملية معقدة وصعبة.

 

إنّ الحرية هي رمز الديمقراطية في كل العصور لكن العالم لم يعرف بعد الطعم الحقيقي للحرية. كتبت الفرنسية "روايال" في كتابها "السّبيل" (La voie) مفهومها الجديد للديمقراطية كبديل عن فشل المشروع الغربي التقليدي سمّته "الديمقراطية التشاركية" ومثيلتها في البرازيل حيث يقوم السكّان بالتحقيق في الميزانية. وتقترح الباحثة مفهوم الديمقراطية القاعدية باعتبارها تكملة للديمقراطية البرلمانية والمؤسسية التي يمكن مثلا أن تقرّر مثل بناء طريق سيّارة أو إحداث مصنع أو مدرسة...

 

لسائل أن يسأل : هل تعكس الديمقراطية في ربيع الثورات العربية أزمة في الفكر السياسي العربي وفي البديل المجتمعي ؟ وكيف نخرج من هذا النفق المظلم ؟

يمكن للإجابة عن هذا السّؤال أن نشتغل في مجال التربية والتعليم كأن نعمل على بناء ديمقراطية تشاركية خصوصا إذا فعّلنا مضخّة تجديد المواطن وتغيير فكره. وهنا لابدّ من إنشاء معاهد جديدة تكرّس فيها هذه المفاهيم نظريا وسلوكا وندرّس فيها للمواطنين القضايا السياسية الكبرى. صحيح أنّ الأحلام الاشتراكية العربية قد تهاوت وأنّ الثورة قد تنحرف عن مسارها وتأكل أبناءها لكنّ الأمل مازال قائما. إنّ الوهم الذي عشناه في تونس طيلة عقود من الزمن لم ينتج إلاّ وهما أفضع والملفت للانتباه أنّ نظام الحكم السّابق قد دجّن المثقفين واستعمل العديد من الفزّاعات كمحاربة الإرهاب والأصولية الدينية والخيانة العظمى فأقام محاكم التفتيش وزجّ في السّجون ونجح في تدمير القوى الديمقراطية المناضلة.

واليوم ليس من السّهل مقاومة جيوب الردّة أو تغيير النظام بإزالة رأس النظام فهذه أنظمة كانت تقتات من الفساد، وكانت باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان تنشر الأكاذيب وتخدّرنا بالأوهــــام. أليست الديمقراطيـــة سلاحا ذو حدّيـــن ؟ أوَلا تعني في بعض وجودها طغيان الجماعة على الفرد ؟ حين نعود إلى بداياتها مع اليونان، ألم تكن المدرسة السوفساطئية بارعة في فنّ الجدل وقلب الحقائق ؟ ألم تكن تدافع عن الأطروحة ونقيضها بنفس حماسة الصحفي برهان بسيّس ؟

 

إنّ خدمة الحقيقة هي أقسى أنواع الخدمات كما يقول الفيلسوف "نيتشه". نعم، الحقيقة تقتل والمثقف الحقيقي هو المقتول بالفعل وقاتله جاهل، بل أكاد أقول أنّ كلّ من يحب الحقيقة أكثر من اللزوم يتعرّض للمصائب والدّسائس والمؤامرات. هذا هو الدّرس الأول الذي تعلمناه من تاريخنا السّياسي الحافل بالدّسائس وهو ما علمنا إيّاه الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم والمسيح عيسى وديكارت وابن رشد... وهذا هو المعيار الحقيقي بين المثقف الحقيقــي أو ما يسمّيــه نيتشـه بالمشاكـــس (le perturbateur) وبين المثقف المزيّف المتسلّق على السلّم والغوغائي.

 

حين يغضب الناس يقودهم ثوّار يعدون الناس بالعدل والديمقراطية ويبدؤون في قطع رأس الحربة. ولكن سواء كان هذا الرّأس اسمه المخلوع أو القذافي أو مبارك أو الأسـد أو صالـح... فإنّ جســم الحيّة لا يموت بل يلد عشرين رأسا بدل الرّأس الأول ويطلع واحد من هذه الرّؤوس مكانه باسم الأحزاب أو المجالس أو مصلحة الشعب أو هيبة الدولة، لا تهمّ المسمّيات. وتتنوّع الأساليب والهدف واحد : أن تبقى الأمور كما هي ويمرّ الجميع بلا محاسبة ويؤمّن الرئيس مستقبل أولاده. وفي انتظار ذلك سنتظاهر نحن الشعب بأننا سعداء وأنّ الوطن في رقيّ والمستقبل واعد. يقول فيلسوف يوناني : « إنّ الشعب هو التشكيل الأبله لذلك الصرح المتعالي المتكبّر الذي لا اسم له غير الدولة ».

 

وتقول الأديبة الجزائرية "أحلام مستغانمي" : « لا يليق بك أن تسأل فأنت في كرنفال الحرية وأنت تلميذ عربي مبتدئ يدخل روضة الديمقراطية ننتمي إلى شعوب قاصرة اعتادت بذل الدم والحياة ونحرت خيرة أبنائها قربانا للنزوات الثورية للحاكم ودرجت على تقديم خيراتها للأغراب. والشعوب التي تفتدي بالروح وبالدم جلاّدها لا يرحمها الآخرون بل لا قيمة لها ».

 

خاتمة :

إنّ الديمقراطية لفرط تداولها أصبحت فخّا أو وهما تحوّلت إلى عملية تجميل لصورة الحاكم وهي مفهوم ينطوي تحضّرا على التعدّد والاختلاف، فهي لا تعني الفوضى والتسيّب وإنّما تحتاج أيضا إلى سلطة تحميها من تغوّلها.

إنّ الديمقراطية السياسية بدون ديمقراطية اجتماعية وتربوية تصنع شعبا مثقفا تصبح عديمة الجدوى بل قد تنتهي كما انتهت في التاريخ ثورة الزنج سنة 647 هـ ضد الخلافة العباسية لا سمح الله. بعدها لن نقول يا لله كم هرمنا، بل نقول يا لله كم كبر الوطن. وسيبقى الوطن كبيرا بمبدعيه ورجاله المثقفين.