قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
أزمة في القيادة
 كانت لدى الشّعوب في العالمين العربي والاسلامي قابليّة للإستعمار متعدّدة الأسباب ولم يكن ‏من العسير على الدّول الاستعماريّة دخول أيّ بلد مهما كان مترامي الأطراف ومهما كانت قدرته على المقاومة، لقد ‏بدت بلاد العرب والمسلمين قبيل الاحتلال أشبه ما تكون بالرّجل المريض الذي لا يقدر على شيء ممّا كسب ولا طاقة ‏له برد أي مكروه . وإذا كان من الحتميّ أن تجتاح بلادنا جحافل المستعمرين ممّن كانوا أشدّ منّا قوّة وأكثر قدرة ‏على الحركة والتّأثير، فإنّ السّؤال الذي لا نجد له إجابة، لماذا ضللنا عاجزين مسلوبي الإرادة طوال عقود من التّحرّر ‏بعد خروج المستعمر واستقلال بلادنا واحدة تلو الأخرى رغم اعتقادنا أنّ مرحلة الاستعمار قد ولّت وأنّنا أصبحنا ‏نملك زمام أمرنا من جديد؟ وهل مردّ هذا العجز أنّنا أطردنا المحتلّين ولكنّنا أبقينا على الإحتلال كما صار يتردّد الآن ‏في أكثر من مكان؟ أم هل أنّ القابليّة للإستعمار ظلّت على ما هي عليه رغم ما دفعه أجدادنا من ثمن ورغم ما عشناه ‏من وهم التّحرّر؟.‏
لقد تحرّرت بلادنا من حذاء المستعمر وثكناته وكلّ مظاهر الاحتلال وجاء حكّام من ‏المفترض أنّهم وطنيّون من أبناء جلدتنا قارع الكثير منهم الإستعمار وذاق من أجل ذلك ويلات من النّفي والسّجن و‏التّعذيب فهل كان هؤلاء الحكّام بارقة أمل للشّعوب التي حكموها بعد أن حرّروها من المحتل أم كانوا كارثة عليها وعلى بلادها؟.جاءت الدّولة الوطنيّة بديلا عن دولة المستعمر وكان من أوكد مهامها إعادة بناء ما تهدم واستئناف ‏نسق ما توقّف منذ مئات السّنين من حضارة وتقدّم ورفاه، ولئن كان الأمر في ظاهره ممكنا أمام سيل الأحلام و‏الأمنيات التي كانت تتقاذفها أمواج الشّعوب التّائقة للحرّية والنّماء، فقد بدا في الحقيقة صعب المنال منذ السّنوات ‏الأولى وأصبح بعد ذلك عسيرا حين تحوّلت الدّولة الوطنيّة إلى استبداد مطلق وكابوس يجثم على رقاب الشّعوب و‏ثرواتها ويحوّلها من شعوب حالمة مليئة بالأمل إلى شعوب خانعة مستكينة لا همّ لها إلا السّلامة والبقاء. ‏
رفعت «الدولة الوطنية» شعارات كثيرة لعلّ أهمّها شعار التّحديث ومقاومة التّخلف. كانت ‏المجتمعات في حينها في حاجة ملحّة للتّحديث غارقة في التّخلف المادّي والحضاري، ولكن الذين تصدّوا للقيادة فى ‏تلك المرحلة لم يكن همّهم الأول العمل مع شعوبهم من أجل بناء مجتمع حديث مقاوم للتّخلف، فاعل في مجاله ‏الجغرافي والحضاري وإنّما كان همّهم فرض نمط من الحداثة بعينه بغض النّظر عن إرادة هذه الشّعوب وبعيدا عن ‏تطلّعاتها. بل إنّ هذا التّحديث كان تحديثا قسريّا محكوما بارادة الحاكم والنّخبة التي حوله متناغما مع إرادة المستعمر ‏ونظرته للحداثة أكثر من تناغمه مع هويّة الشّعوب ووجدانها. وقد ظهر ذلك جليّا في نمط التّعليم والثّقافة وفي ‏المنوال التّنموي والاختيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وكلّ ما له علاقة بالسّؤال القديم الحديث أي مجتمع نريد؟ و‏أي حداثة نريد؟.‏
كانت النّتائج كارثيّة على مجتمعات ما بعد الاستعمار إذ عوض الانتقال من نير الاستعمار إلى ‏روعة   الاستقلال أو من التّخلف إلى الحداثة كما كانت تريد وجدت نفسها وقد انتقلت إلى نبر الاستبداد والتّبعية و‏من ظلم المستعمر إلى ظلم أشدّ منه في ظلّ استبداد مستحكم لا هوادة فيه وحاكم بأمره لا يرى في المجتمع الذي ‏يحكمه إلاّ قطيعا يسوقه حيث يشاء. 
يبدو الأمر محزنا حدّ البكاء حين تعود القابليّة للاستعمار بقوّة عند شعوب أغلبها ‏من الشّباب بسبّب ما ترتّب عن توليّ قيادات رعناء زمام الأمر في شعوب لم تختر تلك القيادات ولا شاركت بشيء في ‏مصيرهـــا، وليس شرطا أن تخرج تلك الشّعوب في مظاهرات من أجل المطالبــة بعودة الاستعمار حتّى نصدّق بوجود ‏هذه القابلية وإنّما يكفي أن نرى جحافـــل المهاجرين إلى بلاد الاستعمــار من كلّ الفئات الاجتماعيّة غنيّة وفقيرة، ‏متعلمة وجاهلة. ويكفي، نرى تفاقما في أزمة الهويّة وهذا الدّفاع المستميت عن لغة المستعمر وثقافته ونمط ‏لباسه وأكله وسلوكه، وهذا التّوق الجـــارف نحو محاكاته في كل شيء وكأنّ أجدادنا الذين قاوموه كانوا مخطئين ‏أو كأنهم لم يكونــوا على تماس معه في لسانه وعيشه ونمط حياته وكلّ ما كانوا يرون عارا في اتباعه.
 لقد كان جليا ‏أنّ الأزمة في القيادة ولكن هل كان للشّعوب يد في هذه الأزمة التي ما تزال تستفحل يوما بعد آخر؟ الإجابة نعم بلا أي ‏شكّ.‏
لا تنحصر أزمة القيادة في القيادات التي قادت الدّولة والنّظام ما بعد الإستقلال فقط، ويكفي ‏أن نلقي نظرة على كل الأحزاب والقوى والفعاليّات التي نشأت قبل الإستقلال وبعده لنرى قيادات قد شاخت، و‏أخري ورثت أبناءها وثالثة لم تجد حرجا في التآمر وتغيير السّياسات والولاءات في سبيل البقاء قائدة رغم تفاقم ‏الأزمات داخل الكيانــات التي تقودهــا حتى أدّى الأمر ببعضهــا إلي الدّخول في مغامرات أودت ببلادها إلى مهلكة ودمار. ‏
في شرق البلاد كما في غربها، مازلنا نعطي الأولويّة في القيادة للشّيوخ والزعماء والولاءات، ومازلنا لا ندرك ‏أهمّية التّغيير وترك المجال للمجتمعات كي تفرز قيادات جديدة تقطع مع الماضي وتكون بحقّ تعبيرا حديثا عن ‏تطلّعات مجتمعات حيّة تتفاعل داخلها المشارب والآراء في ولاء للأوطان دون غيرها.‏
لعلّ من نافلة القول أنّ لكلّ حركة أو مشروع أو سلطة قيادة، ومتى كانت الأزمة في ‏القيادة كان الأمل في التّغيير وتحسن الأوضاع ضئيلا ولنا في ثورات الرّبيع العربي أفضل مثال. لقد كان من ‏شأن هذه الثّورات إحداث التّغيير المرجو رغم كلّ المخاطر لو استطاعت الدّفع بقيادات وطنيّة حكيمة لا تختزل في ‏شخوصها كلّ شيء ولا ترى لنفسها بديلا وإن بلغت أرذل العمر. 
إنّ إحداث تغيير ما لا يأتي بالتّضحيات فقط فكم ‏ضحى الشّعب السّوري أو المصري أو اللّيبي وما زال، ولا يكون فقط باستنساخ أنماط الحكم التي ساهمت في ‏تغيير واقع الشّعوب الأخرى دون أن تكون لنا الإرادة الحقيقية للتغيير، إنّنا بحاجة لحلّ معضلة القيادة حتّى نتمكّن من ‏تغيير الواقع، قادة كالأنبياء يكون همّهم رسالاتهم قبل شخوصهم ومبادئهم قبل ولاء النّاس، قيادات تجعل الشّعوب ‏والأحزاب والكيانات أشدّ حرصا على مقاومة الاستعمار بجميع أشكاله من حرصها على القيادة حتى نكون في منآى ‏عن إعادة انتاج المستعمر لنتخلص نهائيّا من القابليّة للإستعمار.‏