شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
أدغار موران
«أدغار موران»، هو فيلسوف ومفكر وعالم اجتماع فرنسي، صاحب نظريّة التّعقيد والفكر المركّب، أنار، بأعماله ومؤلفاته، أكثر من جانبٍ في عصرنا الحالي نتيجة سعة اهتماماته، وأهمّية مؤلّفاته، وأحقّية مواقفه، وهو أحد المفكّرين المعاصرين الذين يُستمع لآرائه لأنّه من القلائل الذين ما زال بالإمكان إطلاق صفة «الالتزام» عليهم، فهو مشهور باستمرارية دفاعه عن القضايا العادلة أينما كانت، وعدم توانيه عن اتخاذ مواقف صريحة من القضايا المطروحة، ساعيا إلى فهم تعقيداتها، لا إلى إثبات آرائه بشأنها، لهذا فهو لا يتشبّث بمواقفه الإيديولوجية، إذا تأكّد له خطأها وعدم تماسكها بل يسعى إلى تجاوزها أو تطويرها لتتماشى مع القيم الإنسانيّة كالحقّ والعدل والحرّية. 

في بداية القرن العشرين هاجرت أسرة «أدغار موران» - وهي من يهود سفارديون- من سالونيك في اليونان إلى مرسيليا ثُم إلى باريس حيثُ ولد إدغار هناك يوم 8 جوان 1921. توفيت والدته وهو في سنّ العاشرة. درس في باريس وتحصّل على الشهادة الجامعيّة في التاريخ والجغرافيا، وأخرى في القانون عام 1942، ونال دكتوراه فخرية من 14 جامعة عالميّة. خلال السّتينيات، أمضى ما يقرب من عامين في أميركا اللاّتينية، حيث قام بالتّدريس في كلّية أميركا اللاّتينية للعلوم الاجتماعيّة في «سانتياغو» بتشيلي. ثمّ عاد إلى فرنسا أين نشط كعالم اجتماع ومفكر وباحث في المركز الوطني للبحث العلمي، ورأس الوكالة الأوروبية للثّقافة بمنظمة الأمم المتّحدة للتّربية والتّعليم والثّقافة (يونسكو).انخرط «أدغار موران» في شبابه في المقاومة، شيوعيّا، لكنّه تركها اعتراضا على فظائع السّتالينيّة وغياب الحدّ الأدنى من ممارسة الحرّية داخل الحزب الشّيوعي. وقد جعلته تجربته مع الفكر الشمولي ـ الشيوعي، شديد الحساسية حيال الحريات العامّة وحق التعبير عن الرأي وقاده إيمانه بفشل الثورات على النمط السوفييتي أو الماوي ـ الصيني إلى التفكير في البحث عن سبيل جديد للنهوض والتفتح الإنساني. ناضل «أدغار موران» ضدّ معاداة السّامية، وأيّد استقلال الجزائر، وفي عام 1955 كان من بين أربعة مثقّفين فرنسيّين، منهم جون بول سارتر، أسسوا حركة تعارض حرب الجزائر. وهو من المفكرين الأوروبّيين القلائل الذين ناصروا القضيّة الفلسطينيّة وتعاطفوا معها،حيث عرف بمواقفه المؤيّدة لحقّ الفلسطينيّين في إقامة دولة خاصّة بهم، وقد قاده مقال كتبه في صحيفة لوموند وندّد فيه بالسياسة الإسرائيلية إلى المحاكم الفرنسية عام 2004 حيث اتّهم، وهو اليهودي الأصل، بمعاداة السّامية. ونتيجة لهذه المواقف وغيرها فقد تعمّدت كبريات الصّحف والمجلات في فرنسا التعتيم كلّية على كتابه «العالم الحديث والقضية اليهودية»، المنشور عام 2006.دافع «موران» عن ثورات الربيع العربي، واعتبر أنّ المفاهيم السّياسيّة السّائدة في العالم العربي سواء كانت بوليسيّة أمنيّة علمانيّة أو دينيّة تواجه رياح التّغيير، وإنّ الدّيمقراطيات الغربيّة دعّمت الاستبداد في العالم العربي، والعرب الذين أنهوا الاستعمار السّياسي هم الآن بصدد إزالة الاستعمار الفكري، لتبقى عمليّة إزالة الاستعمار الاقتصادي. كتب «موران» العديد من الكتب والمؤلفات التي تناولت قضايا فكريّة مختلفة، وترجمت للعديد من اللّغات، أهمّها «الأحمق الغبي هو من لا يفكر» وهو مؤلَّف موسوعي من 100جزء. وأصدر أوّل كتبه «عام ألمانيا صفر» عام 1950، ثمّ «النقد الذاتي» عام 1959 وتطرق فيه لقطيعته مع الشّيوعية.خلال الفترة ما بين 1977 و2004 نشر مؤلفه الضخم «المنهج» في ستّة أجزاء طرح من خلالها مفهوم فكره المركّب وعبّر فيه، بشكل واضح، عن المهمّة التي اختارها لنفسه: إقامة صلاتٍ بين ما لا يتواصل، ويتمّ فصله، أي بين قارّات المعرفة الأربع التي تشكّل أسس الحضارة الأوروبيّة: الطّبيعة (الفيزياء)، الحياة (بيولوجيا)، الأفكار (المعارف)، والبشريّة (أنثروبولوجيا). فمن خلال العمل عليها معا، أو تشغيلها معا، يسعى «المنهج» إلى توليد نوعٍ جديد من المعرفة، متفلّتٍ من كلّ أشكال التّأطير الخاضعة لنظم مقفلة، ووضع نموذجٍ يقوم على التّعقيد والتّركيب، الجمع والتّفريق.وفي 1989 نشر كتاب «فيدال وعائلته»، ثم كتاب «الثقافة والبربرية الأوروبية» عام 2005 فـ«التجوال» عام 2006، و«أين يسير العالم» عام 2007 و«طريقتي» عام 2008. كما أصدر كتابا في مجال السّينما بعنوان «السّينما أو الإنسان المتخيّل» . وفي 2013 صدرت للمفكر الفرنسي مذكرات تحت عنوان «يوميات»، تتألّف من مجلّدين، وكان قد بدأ في كتابتها عام 1962.ولموران علاقة فكريّة وطيدة مع المفكر الإسلامي «طارق رمضان» حيث أصدر معه كتابا مشتركا عام 2016 تحت اسم «خطورة الأفكار: تساؤلات حول كبرى القضايا المعاصرة»، وهو عبارة عن حوار بين المفكرين. ودافع «موران» عن رمضان الذي يتابع قضائيّا في فرنسا على خلفيّة اتهامات له بقضية اغتصاب، وقال في حوارات له مع صحف فرنسيّة عام 2017 معلّقا على قضيّة رمضان إنّه يرفض الانضمام إلى «الإعدام الإعلامي دون محاكمة»، وقال أيضا إنّ رمضان مع إسلام أوروبي يقبل الدّيمقراطية والمساواة، وإنّه أظهر فكرا إنسانيا مطابقا لموقفه. نقد «موران» بشدّة في كتاباته الغرب الأوروبّي الذي سقط - حسب رأيه - في مركزيّة تعتبر الشّعوب الأخرى في حالة من التّخلف والبدائيّة منحبسة داخل  الفكر السّحري. والواقع أنّ ما تغافلته هذه المركزيّة هو حضور العقلانيّة في كلّ شكل من أشكال الحضارة، ففي كلّ مجتمع كما يقول موران «يوجد وبشكل متزامن فكر عقلانيّ تقني وعملي وفكر سحريّ أسطوريّ ورمزي».ويتحدّث «موران» عن تطور النّزعة البربريّة الأوروبيّة ويعطي أمثلة متنوعة عن ذلك بدءًا من «العصر القديم» لدى الإغريق والرومان، وصولاً إلى «العصر الحديث» مع تشكُّل «الأمم الأروبية الحديثة: إسبانيا، فرنسا، البرتغال، إنكلترا» ثمّ بروز «التوليتاريّات» في القرن العشرين كالنّظام السّتالينيّ والهتلريّ الذين يعتبران بالنّسبة إليه إنتاجا كارثيّا للبربريّة الأوروبيّة. وفي ذلك كلِّه، يؤكّد «موران» على تلازم مستعصٍ بين الحضارة والبربريّة، جعل أوروبا تختبر كلَّ «أشكال البربريّة الخاصّة بالمجتمعات التّاريخيّة»، كالتّعصب الدّيني، والتّطهير العرقي، وتصفية المجتمعات الصّغيرة العريقة، والاسترقاق، والاستعمار، ونشر الأمراض.يبقى الوعي بالنّتائج المتحصّلة المأساويّة للقرن العشرين: (مخيمات الاعتقال والإبادة “أوشفيتز” ألمانيا النازيّة و”الغولاغ” السوفياتي و”هيروشيما” أمريكا) وما حصل من تصفيات جماعيّة، واسترقاق وترحيل واضطهاد وما عرفه التّقدم المطّرد للعلم الذي وضع في خدمة «مشروع تصفية تقنيّة_علميّة لجزء من الإنسانيّة». هذا الوعي – بما حصل – ينبغي أن يقود حسب «موران» لا إلى النّدم فقط وإنّما إلى الاعتراف، إلى امتلاك القدرة على التّفكير في البربريّة الأوروبيّة لتجاوزها، من خلال إدماج البربريّة في الوعي الأوروبي من جهة والتّركيز على أنّ أوروبا يجب تنتج عبر الإنسيّة الكونيّة ترياق بربريتها الخاصّة.إن الوعي ببربريّة أوروبا يقتضي، برأي إدغار موران، «المطالَبة بإنسيّة جديدة»، تتمّ عبر الاعتراف بجميع الضّحايا، بحيث لا يُقرأ تاريخ المأساة الإنسانيّة فقط انطلاقًا من معاداة السّامية، وإنّما يشمل كذلك السّود والغجر والأرمن وسائر جغرافيّات الاستعمار الغربي، من دون نسيان الفظاعة النّووية الأمريكيّة في هيروشيما. فحتّى لا تبقى أوروبا أسيرة وعي شقيّ، لا بدَّ من أن «يُدمَج في وعي البربريّة الوعيُ بأنّ أوروبا تنتج، عبر الإنسية، الكونيةَ [العالميّة] والتّطورَ التدريجيَّ لوعي عالمي، كما تُنتج ترياقَ بربريتها الخاصّة».ويؤكّد موران أن الحضارة الرّاهنة تعطي الأولويّة لما هو «مباشر» وللتّكنولوجيا في إطار الثّورة الرقميّة وتقلّص بالمقابل من معرفة الماضي و«تكريس الانتباه على الحاضر والمباشر يقود للنّسيان». ويرى أن الإنسانية تدرك للمرّة الأولى في التاريخ، أنّ كلّ البشر معنيّون بمشكلات مشتركة في جميع قارّات العالم. وبالتّالي، ينبغي العمل من قبل الجميع، لتجنّب الكوارث التي يتّجه نحوها الجميع. وفي مقدّمة الأخطار، التّدهور الكبير الذي تعاني منه البيئة، تعاظم ظواهر التزمّت في مختلف مناطق المعمورة، فقدان الضّوابط لتنظيم الاقتصاد، ارتباط العلم والتكنولوجيّات بقوى عمياء بدرجة كبيرة. لقد كان «إدغار موران» سبّاقا في تحسّس القادم وقراءة الحاضر واستشراف المستقبل، فكتب قبل الآخرين، لا بل قبل الأوان، عن أوروبا، وقضايا التّربية والتّعليم، والأضرار التي تتعرّض لها البيئة، ومواضيع أخرى كثيرة جعلت من هذا الفيلسوف والباحث الذي اشتهر بنزعته الإنسانيّة، وسعة علمه، وقدرته على التّعاطي مع التّضاد والتّناقض، رقما صعبا يستحيل تحجيمه أو تفاديه.