اسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
من هو الله؟ ‎) ‎بحث في أسمائه الحسنى‎ (‎ الحلقة الخامسة : الحكيم
 ورد هذا الإسم المنسوب إلى الحكمة في الكتاب العزيز تسعين مرّة ومرّة أخرى وهو في المرتبة الثّالثة من ‏حيث وروده مفردا لا مركّبا مثل ( خير الحاكمين أو أحكم الحاكمين ) أو مقرونا بإسم آخر من مثل ( العزيز ‏الحكيم ) وذلك بعد أن احتلّ إسم ( العليم ) المرتبة الأولى  واحتلّ إسم ( الرّحيم ) المرتبة الثانية، وهذا يعود بنا ‏إلى إحدى أكبر الخلاصات التي أثيرت في أول حلقة من حلقات هذه السّلسلة ( من هو الله ) وهي أن الله ‏سبحانه يريد أن يعلمنا أنّه : عليم بنا أوّلا، فإذا تعلمنا ذلك واعتقدناه علمنا أنّه سبحانه رحيم ثانيا فلا نيأس من ‏رحمته بسبب علمه الواسع الذي لا يندّ عنه شيء، فإذا إعتقدنا ذلك علمنا سبحانه أنّه حكيم وهو ما نراه اليوم إن ‏شاء الله. 
ورد الإسم المنسوب إلى الحكمة 38 مرّة معرّفا ( الحكيم ) و40 مرّة نكرة ( حكيم ). كما ورد مقرونا ‏بأسماء أخرى منها العزيز وهو الإقتران الأغلب بين هذين الإسمين إذ إقترنت الحكمة هنا بالعزّة في 47 ‏موضعا ومنها صفة العلم بمقدار 25 مرّة ثمّ صفة الخبرة بثلاث مرّات، كما اقترن بأسماء أخرى منها : التّوبة ‏والحمد والعلوّ والسّعة. كما يكون الإقتران بالعلم من لدن هذا الإسم (الحكيم) أحيانا بتقديم الحكمة فهو الحكيم ‏العليم (أو حكيم عليم) وجاء ذلك في سبعة مواضع وأحيانا بتقديم العلم فهو العليم الحكيم أو (عليم حكيم) ‏وجاء ذلك في ثمانية عشر موضعا ليكون الإقتران الإجمالي بين إسمي العلم والحكمة في 25 موضعا. وهكذا ‏كما هو الحال مع أكثر الأسماء إذ يرد الإسم مفردا ومضافا ومركّبا أي مقترنا كما يرد الإسم معرّفا ونكرة وذلك ‏لنعلم أنّ الله سبحانه حكيم حكمة تتقلّب في كلّ الصّور والأحوال وذلك بحسب السّياق طبعا كما هو معلوم.
صفة الحكمة نالت أشياء أخرى
جاء في القرآن الكريم أنّ الذّكر حكيم وأنّ القرآن حكيم وأنّ الكتاب حكيم وهي أسماء ثلاثة لمسمّى واحد وهو ‏القرآن العظيم. ومن باب أولى إذا كان الله حكيما أن يكون كلامه سبحانه حكيما وأن يكون الكتاب الأخير الذي ‏اختاره دستورا هاديا للبشريّة جمعاء قاطبة حتّى يوم القيامة متربّعا على عرش الحكمة. كما نالت صفة الحكمة ‏لقمان الحكيم (ولقد آتينا لقمان الحكمة) وأوتي بعض الأنبياء حكما وعلما من مثل سيدينا موسى ويوسف عليه ‏السّلام وذلك لمّا بلغا أشدّهما ومن باب أولى وأحرى مرّة أخرى أن ينال النّبي ( كل نبي ) من الحكمة حظّا ‏وفيرا إذ هو من يهدي به الله النّاس إليه.
ما هي الحكمة ؟
ترد الحكمة في القرآن الكريم نسبة إلى الحكم ونسبة إلى الميزان معا. الله سبحانه حكيم بمعنى أنّه يحكم لا ‏معقّب لحكمه سواء حكما قدريّا (جريان الشّمس مثلا) أو حكما شرعيّا للإنسان فيه حرّية الإختيار وهو سبحانه ‏حكيم بمعنى أن تكون تشريعاته وأقداره متوازنة معتدلة، ذلك أنّ الحكمة في القرآن الكريم مرادفة للميزان إذ قال ‏سبحانه مرّة ( وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ) وقال مرّة أخرى ( وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة ) ولمّا ‏أخبر عن وظيفة محمد عليه الصّلاة والسّلام قال ( ويعلّمهم الكتاب والحكمة ) ولمّا أخبر عن أمّهات المؤمنين ‏قال ( وأذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ). وغير ذلك ممّا يعلمنا أنّ الله سبحانه أنزل إلينا كتابين ‏في الحقيقة ( عدا الكتاب المنظور أي الكون والتّاريخ ) وهما : القرآن الكريم وهو الكتاب المسطور في زماننا ‏وكان في زمانه عليه السّلام وزمان الصّحابة كتابا مسموعا وليس مسطورا. والكتاب الثاني المنزل هو : ‏الميزان الذي عبّر عنه في مواضع أخرى بالحكمة كما مرّ بنا هنا. وبذلك يستنبط المرء بيسر أنّ الميزان هو ‏الحكمة وأنّ الحكمة هي الميزان وهي وظيفة محمد عليه الصّلاة والسّلام وأنّها منزلة جنبا إلى جنب مع القرآن ‏الكريم. وبذلك ندرك أنّ حكمة الله سبحانه هي أنّه حكيم في الخلق وفي التّشريع، فهو تشريع ينطق به كتاب ‏‏( أحكمت آياته ) وهو ( القرآن الحكيم ) وأنّ أنبياءه حكماء وأنّ الحكمة هي الميزان العقلي الذي به يميّز المرء ‏بين مستويات التّشريع ومقاصد الخلق ومواضع التّنزيل وإنّما نسب ذلك إليه عليه الصّلاة والسّلام لأنّ سنّته ‏وسيرته معا يعلّمان النّاس الحكمة في أجلى صورها. الحكمة في حدّها التّقليدي المعروف هي وضع الشّيء في ‏مكانه المناسب بما ينشئ ثقافة الإجتماع وينمّي فقه التّنظم والتّراتبية المعروفة عند النّاس عرفا فلا يقدّم الصّغير ‏على الكبير في التّهنئة والتّعزية والصّفوف وغير ذلك ممّا وقر في الجبلات وإنّما جاء الدّين يذكّيه ويذكّر به ‏وليس هو له منشئا إبتداء.
أي علاقة بين الحكمة حكما والحكمة تناسقا
بداهة لا بدّ من علاقة بسبب الإشتراك في الجذر اللّساني إشتراكا كلّيّا. العلاقة هي أنّ من يكون حكيما بمعنى ‏الحكم والسّلطان والهيمنة والقهر لا يكون كذلك إلاّ عندما يكون حكيما بمعنى أنّه يضع كلّ شيء في مكانه ‏المناسب زمانا وحجما وغير ذلك من الدّقائق التي لا يحيط بها المرء سيّما في تناسق الأكوان وتناغم الأقدار ‏وتوافق الأشياء وتراتب الأمور وكلّ ذلك يعلم بالتّدبر والتّفكر والتّأمل. فلا يكون الحكيم مطاعا حكما حتّى يكون ‏محلّ إعجاب حكمة ولذلك يطيع النّاس ملوكهم الذين يحكمونهم بالحكمة أي بوضع السّيف في مكانه حزما لقهر ‏الظلمة والسّفاحين والبغاة والقلم في مكانه تنويرا للعقول. أمّا في شأن الله سبحانه فهو الحكيم قهرا إذ لم تندّ عنه ‏الشّمس والقمر والنّجوم والسّموات والأرض التي يمسكها أن تزول وما تخلف شيء من خلقه عن مساره ‏المداري قيد أنملة وهو في الآن نفسه سبحانه الحكيم أقدارا غلابة إذ يأخذ الظّالم عندما تأخذه الغفلات الطّويلة ‏وعندما يظنّ النّاس أنّ الأمر له إستتب وكلّما غلب اليأس على النّاس وركن الظّالم إلى أمره أملى الله له ومدّ ثمّ ‏يأخذه أخذ عزيز مقتدر. وهو حكيم سبحانه في تشريعاته كما سنرى بعد قليل بحوله سبحانه. الحكمة إذن حكما ‏وقهرا والحكمة ترتيبا وتساوقا وتجاوبا وتناظما وتوافقا ينبجسان من وعاء دلالي واحد.
قراءة سريعة في إقتران الحكمة ببعض الأسماء الأخرى
رأينا فيما أنف ذكره أنّ الحكمة مقترنة مع العزّة في زهاء خمسين موضعا وذلك يعني أنّ الحكيم سواء بمعنى ‏القهر والغلبة أو بمعنى التّناظم والتّوافق لا بدّ أن يكون عزيزا أي قويّا قديرا قهارا يعزّ أن تجد له نظيرا. فلا بدّ ‏للحكيم من عزّة يمضي بها حكمته ومن كان حكيما بلا عزّة فهو يجلس على عرش من ورق سرعان ما يهوي ‏به في السّفوح، ومن كان حكيما بلا قدرة وعزّة تجعله ينفذ إلى الأشياء والأمور لتكون تحت سلطانه فيناظم بينها ‏ويوافق فلا حكمة له. لذلك لا بدّ للحكمة بالمعنيين من عزّة أي من قدرة وغلبة وقهر. 
كما إقترنت الحكمة بإسم ‏العلم إذ لا يكون الحكيم حكيما حتى يحيط بالعلم والخبرة سواء تعلق الأمر بعلم الغلبة والقهر والسّلطان أو ‏بتوفير التّوافق والتّناظم والتّراتب والعلاقات الجميلة بين الأشياء والأمور. لا بدّ إذن للحكمة من علم. والأمر ‏نفسه بالنّسبة لإقتران الحكمة بالخبرة لأنّ الخبرة ضرب من ضروب العلم. كما إقترنت الحكمة بالتّوبة حتّى لا ‏ييأس النّاس من رحمة الله سبحانه فتغلب عليهم ـ أو تبهرهم ـ صفة الحكمة الإلهيّة قهرا أو توافقا، فيقنطون ‏ويتسلّل إليهم الشّيطان ليوحي إليهم أنّ مثل هذا الإله لا يأبه بالعبد الصّغير الحقير أن يتوب عليه لأنّه عليّ ‏حكيم قهّار في عليائه وهو الظنّ الواهم نفسه الذي سال في أفئده المشركين في مكّة قديما، فإتخذوا لهم واسطة ‏تقرّبهم زلفى من الله سبحانه ولك هنا أن تتفكّر في تسلّل العقائد الفاسدة كيف تنبجس في الأفئدة حتّى لتكون لها ‏لأوّل وهلة وجاهة ومعقوليّة ولذلك إمتلأ القرآن الكريم كلّه إمتلاء عجيبا بالكشف عن هويّة الله سبحانه. نحن ‏اليوم ـ مسلمو الوراثة ـ لا ندرك هذا ولكن الذين يفيئون إلى الإسلام من ظلمات المسيحيّة أو دركات اليهوديّة أو ‏غيرهما من الدّين الضّال يكتشفون بيسر يسر العقيدة الإسلاميّة. كما اقترنت الحكمة بالحمد إذ أنّ من يكون ‏حكيما قهرا أو توافقا لا يكون عند عباده عدا حميدا أي مثار حمد، فإن لم يحمده عباده أو لم يفعلوا ذلك كما هو ‏مطلوب منهم فإنّ الخلق المكره ( الخلق الكوني ) لله سبحانه حميد ولكن لا ندرك لا حمدهم ولا تسبيحهم. ألا ‏ترى كيف أنّ النّاس يحمدون ملكهم إذا كان حكيما إدارة وعدلا أو حكيما ذوقا، فيجعل كلّ شيء في مكانه فلا ‏ييأس ضعيف من عدله ولا يطمع قوي في حيفه؟
حكيم وليس حاكم
أكثر أسمائه سبحانه واردة في صيغ مبالغة على وزن فعيل وفعول وفعال وفعلان وقليل منها ما ورد بصيغة ‏تخالف ذلك لأنّه يريد أن يعلّمنا أنّه مستو فوق عرش كلّ محمدة ومكرمة وإليه يفيء الكمال فيئا ومنه يضوع ‏الجمال ضوعا ويبسط جلاله سبحانه على خلقه بسطا. فهو بالغ الحكمة بالمعنيين الواردين أعلاه
من مظاهر حكمته سبحانه
لا يمكن مجرد عدّها بله إحصائها. ومن يرصد القرآن الكريم يظفر بحظّ وفير من ذلك. فهو سبحانه حكيم فيما ‏أنزل من فرائض عائليّة في سورة النّور وعادة ما تكون الحكمة فاصلة قرآنيّة في إثر تشريع ما وخاصّة ‏التّشريعات التي ستلقى في الأيام إعتراضات كما هو حال تشريعات كثيرة في حقل الأسرة والمرأة. 
في فاصلة ‏حدّ السرقة مثلا عقب بقوله ( عزيز حكيم ) لأنّ النّاس اليوم يعدّون ذلك قسوة بالغة وهي فعلا قسوة بالغة ولكن ‏القسوة عندما تكون في موضعهـــا المناسب لحماية حقّ الإنسان في ماله، فلا تسمّى قسوة عند العقلاء بل تسمّى ‏حكمة. في فاصلة آية الصدقات في سورة التّوبة مثل آخر ليعلّمنا أنّ الحكمة كلّها هي في توزيع الأموال لأولئك ‏النّاس من الفقراء والمساكيـن وغيرهم، فإذا وزعت لغيرهم خرجنا من الحكمة إلى الجـــور. وغير ذلك ممّا يمتلأ ‏به القرآن الكريم ولكن تضيق عنه هذه القالة المقتضبة فمن تتبّع مواضع الحكمة ظفر بعلم وفير وإيمان أوفر.
هل للإنسان من الحكمة نصيب
مرّ بنا أنّ من أسماء الله سحبانه ما نتمثله ومنها ما هو خاصّ بــه ( المتكبّر والرّحمان مثلا ). للإنسان من حكمة ‏الله سبحانه نصيب مقدّر، إذ عليه أن يطلب الحكم ويرشّح نفسه له إذ آنس في نفسه مهارة لذلك وعصبية ‏بالتّعبير الخلدوني ( عصبيّة اليوم هي عصبية الإنتخابات ) لأنّ الحكمة ـ حكما ـ صفة لا بدّ منها، فإمّا أن ‏تصرف لأهلها ويكون بها عــدل وقسط ورحمة وإجتمــاع وإمّا أن تصرف لغير أهلها فيكون جور وقهر وحيف. 
‏وعلى الإنسان كذلك تمثّلا لهذه الصفة الإلهيّة أن يطلب الحكمة بمعنى توفير التّوافق والتّناظم والتّناسق في ‏ملبسه ومطعمه ومشربه وهيئته وفكرته ولسانه وعمله وعائلته وحركته في النّاس. الحكمة إذن صفة إلهيّة يجب ‏على الإنسان تمثّل ما يمكنه منها لأنّ ( الله جميل يحب الجمال ) و( يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ولأنّ ‏‏( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضّعيف ). وما مدح الأنبياء بالحكمة وزكّاهم بها تزويدا إلاّ ‏لنتمثل ذلك كلّ بحسب ما يحتمل واديه.
كلمتان أخيرتان في الحكمة
الحكمة كما ورد في قصة لقمان الحكيم هي : الشكر لله سبحانه ولذلك تكون الحكمة جبلة نفسية تردّ الفضل ‏لأهله من ناحية وتكون خلّة عقليّة تهدي صاحبها إلى التّفكر والتّدبر والتأمل ومن فعل ذلك شكر الواهب قطعا ‏مقطوعا. خلّة الشّكر هي أعسر عبادة لأنّ الإنسان مبناه الفجور، فإذا أصابته نعماء قلّما يشكر ومن يشكر وليّ ‏النعمة بما أنعم عليه مجتنبا العلو والأثرة فهو الحكيم حقّا وعدلا وصدقا. 
الحكمة كما ورد كذلك في القرآن الكريم ‏من يؤتاها فقد أوتي خيرا كثيرا والعجيب أنّه تعقيب جاء في يمّ الحديث عن الإنفاق ومن ذا نعلم أنّ الحكمة ـ ‏عمليا ـ في حياتنا هي بسط الإنفاق للمحتاجين وهو ضرب من ضروب الشّكر. الحكمة هي إذن سلوك الفضل ‏مع الله ومع النّاس وليست كما ورثنا : قدرة عجيبة على تكديس الدّنيا والإفلات من العقاب المستحقّ ومهارة في ‏الخديعة وإمعانا في المكر.