نقاط على الحروف

بقلم
سعيد السلماني
في معنى العنف الإرهابي:محاولة في فهم الظاهرة من أجل عالم يسع الجميع
 تمهيد:‏
من المقرّر عند علماء الإسلام قديما وحديثا أنّ الدّين الإسلامي الحنيف جاء لحفظ ‏الضرورات الخمس: الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وبناء على هذه الضرورات بنيت ‏الأحكام والأوامر، وحرّم بالمقابل اي نوع من انواع الاعتداء عليها. من هذا المنطلق فقد تقرر ‏في الفكر الاسلامي ان الدين الاسلامي جاء لحفظ الامن والدفاع عنه ورعايته، وما فرضت ‏الحدود والعقوبات الا من اجل هذه الغاية.‏
وإذا كان الامر كذلك، فلماذا نلاحظ في السنوات الاخيرة صعودا كبيرا لجماعات ‏العنف الارهابي التي تصطبغ بصبغة الإسلام وبمفاهيمه...؟ وما المقصود بظاهرة العنف ‏الارهابي؟ وما منطلقاتها؟ وكيف ظهرت وتطورت؟ وما السبيل الى الخروج من هذا الواقع ‏العنيف الى واقع أرحب يسمح للإنسان بالعيش بسلام وامن وامان؟ ثم هل ظاهرة العنف ‏الارهابي خاصة بالانسان المسلم فقط، ام انها ظاهرة كونية تبرز كلما توفرت الشروط لذلك؟  ‏
رغم كوننا مسلمين ويضرنا ما نسمعه ونشاهده من عنف ارهابي التصق بالمسلمين، ‏ورغم رفضهم وشجبهم له، فان الاعلام المغرض يحاول ترسيخه كحقيقة واقعية، وكأن الدين ‏الإسلامي لا ينتشر إلا بقوة السلاح. وهذه الورقة ستسعى الى اثبات عكس ذلك، منطلقة من ‏فرضية أن «العنف الارهابي» ظاهرة عالمية عرفها الغرب وخبرها جيدا، وتبرز كلما توفرت ‏الشروط لذلك. ‏
من هذا المنطلق سأعالج الموضوع من زاويتين: الاولى في معنى ظاهرة العنف ‏الارهابي، والثانية نقف عند تاريخية الظاهرة لفهم التداعيات والحيثيات التاريخية المولدة ‏للظاهرة، والقواسم المشتركة بين العنف الإرهابي أينما وجد، واخيرا خلاصات واستنتاجات ‏لمحاولة الخروج من المأزق ما أمكن.‏
(1) في معنى العنف الارهابي
ما معنى العنف الارهابي؟ ‏
يعتبر العنف ‏‎(violence)‎، ممارسة إنسانية قديمة متجددة، تعددت معانيها واختلفت ‏تعاريفها باختلاف الرؤى والمقاربات المنهجية المتعددة. فقد عرّف المعجم النقدي لعلم ‏الاجتماع العنف ‏‎(violence)‎‏ بأنه «سلوك لا عقلاني، يعود أصله إلى مركّب من الميول ‏والمصالح المتخاصمة التي تسبب إلى حد ما انحلال المجموعة نفسها، وأنه في كثير من ‏الحالات سلوك قمعي ومتلازم مع عملية اختلال النظام»(1). والعنف حسب تعبير أمارتيا سن ‏هو «الشكل الأكثر وضوحا لعدم الاحترام، وهو مؤشر مجتمعي بامتياز بأن الاحترام والتفاهم ‏قد تحطّما»(2). ويتخذ العنف أشكالا متعددة، ويمكن استجماعها في شكلين: عنف مادي ‏‏(جسدي) وعنف رمزي (نفسي). وفي كلتا الحالتين فالأمر يتعلق بشخص الانسان؛ أي الهجوم ‏على إنسانية الانسان. ‏
يعتقد علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي أن الذكريات المؤلمة والمعاناة والقلق ‏والأمراض النفسية المختلفة، قد تدفع الانسان الى العنف احيانا، وقد يرتبط فعل العنف ‏بمنظونة القيم الاجتماعية والدينية والاخلاقية في تحقيق التوازن الاجتماعي والنفسي. كذلك، ‏قد يرتبط بانعدام الحرية والاستقلالية الفردية والاضطهاد السياسي والاجتماعي والكبت ‏الجنسي واستعمال المخدرات وغيرها التي تقود الى الانحرافات في السلوك البشري(3).‏
وفي مقارنة بسيطة بين عنف الانسان وعنف الحيوان نلاحظ الآتي: أن الحيوان ‏يمارس العنف من اجل البقاء، ولا يمارس العنف ضد فصيلته، فالأسد لا يلتهم أسدا عكس ‏الانسان، ومن الملاحظ أيضا أن الحيوان لا يستطيع التفنن باستخدام وسائل وأساليب وأدوات ‏العنف كالانسان الذي يحوّل العلم والتقنية الى وسائل ابادة وتدمير، ما يطرح علينا سؤالا حول ‏قيمة المعرفة في ظل تبعيتها للسياسة؟ في عالم الحيوان واثناء الصراع الضعيف يخضع ‏عندما يعجز عن المقاومة إما بالهروب او بالانبطاح على الأرض تجنبا للموت. أما في عالم ‏الانسان فلا يسير الامر بالطريقة نفسها، ذلك أن الناس لا يخضعون تلقائيا للأقوى دوما، ‏وإنما يقومون بأعمال عنف لا تنتهي(4). وما العنف الارهابي الاّ دليل على ذلك.‏
ورغم الفظاعة التي قد تحدثها أنواع العنف المشار إليها، إلا أنه يجب تمييزها عن ‏‏«العنف الإرهابي». فضحايا الهجمات الإرهابية يمكن أن يكونوا من مجتمع الإرهابيين أنفسهم، ‏بينما الهدف هو السلطة، وتكسير القواعد الإنسانية الأساسية في السلوك بطريقة مقصودة. وقد ‏تكون الدوافع معقدة: كأن يحاول القائم بالعنف الإرهابي فرض مطالب، والتأثير في الرأي ‏العام، أو جذب الانتباه إلى قضيته، ويمكن أن يقوم بذلك نتيجة اليأس. لكن في بعض الحالات، ‏يوجد عامل رمزي أقوى بكثير لا يمكن إنكاره: فالمجموعة الإرهابية ضعيفة التنظيم، تروم – ‏علاوة على جذب الانتباه- إلى الظلم الواقع عليهم، بأن تثير السلطات «القوية» عبر ردة فعل ‏مبالغ فيها، الأمر الذي سيدمر مكانتها وسلطتها المعنوية على الصعيدين المحلي والدولي(5). ‏
وبناء عليه، فإن العنف الارهابي هو عنف منظم يهدف الى احداث الفزع في صفوف ‏الآمنين، منطلقا من مقولة ماكيافيلي «الغاية تبرر الوسيلـــة»(6)، فالغاية من الفعل الارهابي ‏هو احداث الفزع ومحاولة ارباك الدولة /الدول. فالإرهاب كفعل عنيف، هو تأكيد لم ينتج عن ‏غريزة عدوانية محضة، فلو كان الأمر كذلك لسهلت معالجته، لكن المسألة أعمق من ذلك، ‏فهناك عوامل ودوافع متعددة؛ اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ودينية وأخلاقية..، يجب ‏دراستها وتفكيكها وتحليلها ونقدها بمداخل عدة أملا في الوصول الى حل ممكن.‏
إن السؤال ما هو الارهاب بالضبط؟ سيظل مطروحا نظرا لتداخل المصالح السياسية ‏والاقتصادية والاجتماعية والخلافات الايديولوجية. لكن، بوسعنا الان – بعدما لاحت في ‏الأفق خريطة الارهاب العالمي والتداخل القائم بين الارهاب والسلطة والمال – أن نخط دباجة ‏أولية تسهم في تحديده فنقول: إن الارهاب ثقافة ومنهج في القتل، يرمي الى إثارة الفزع ‏الأكبر في المجتمع وتوريط الدولة ما أمكن، فالإرهاب بهذا المعنى يسعى إلى إظهار أقوى ‏الأسلحة عديمة الجدوى ولا قيمة لها في أيدي صناع القرار السياسي والعسكري(7).‏ فنحن إذن أمام عنف متمركز حول ذاته، وهذا ما أطلقنا عليه بـ«العنف الإرهابي» ‏بدل «العنف» أو«الإرهاب». فالعنف لفظ عام يشمل كلّ أشكال العنف بما في ذلك الإرهاب ‏بأشكاله المختلفة، أمّا الإرهاب فهو مفهوم ملغم لم يتفق على تحديده سياسيا وفكريا، وأصبح ‏يستخدم لأغراض دنيئة تغذي العنف بدل القضاء عليه. ‏
من هنا فالعنف الإرهابي هو كل عمل عنف مسلح يرتكب بغرض سياسي أو اجتماعي ‏أو اقتصادي أو ايديولوجي أو ديني ينتهك المبادئ العامة لحقوق الانسان. فهو إذن، عنف ‏إرهابي موجه ومؤطر ثقافيا ومتمركز ذاتيا ومنغلق هوياتياً.‏
(2)  في تاريخية ظاهرة العنف الارهابي
تاريخيا استخدم مصطلح الارهاب أول مرة عام 1795م، وأصل الكلمة من اللغة ‏terrere,‎‏ وتعني التخويف، واستخدمت الكلمة لوصف أساليب استخدمها مجموعة من اليعاقبة ‏السياسية بعد الثورة الفرنسية. وفي بداية القرن العشرين كانت كلمة الإرهابي تستخدم بصورة ‏عامة لوصف الجهات أو الأشخاص الذين لا يلتزمون بقانون الحرب، وكل المعارضين الذين ‏يحملون ايديولوجلية يسارية. وفي الاربعينيات من القرن العشرين استخدمت كلمة الارهاب ‏لأول مرة من قبل سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين أثناء الحملة الواسعة التي شنتها ‏للقضاء على سلسلة من الهجمات التي استهدفت مدنيين فلسطينيين، وأطلقوا على هذه الحملة ‏‏«الحرب على الارهاب» (8) ‏ ‏.‏
فالإرهاب قديم قدم الانسان، ويعتقد الباحثون أن أول منطقة عرفت الارهاب المنظم ‏كانت أرض فلسطين في القرن الأول الميلادي عندما تمردت على حكم روما جماعة يهودية ‏صغيرة حملت اسم «زيلوت» أو الغيورون وطالبت بالاستقلال اعتبارا من السنة السادسة ‏للميلاد، غير أن سلطات روما نكلت بهذه الجماعة أبشع تنكيل، وكانت الجماعة بدورها تقوم ‏بأعمال عنف بشعة، فكانت تذبح ضحاياها أمام الملأ وفي الأماكن العامة والأسواق(9).‏
وفي العصور الوسطى في عهد السلاجقة كانت هناك منظمة أرهبت المدنيين والحكام، ‏وهي الطائفة الاسماعيلية النزارية المعروفة باسم الحشاشين، وكان لها مقرات في إيران ‏وسوريا، ومن أبرز زعمائها «حسن الصباح». ومن أهم الاعمال الارهابية التي نفذتها تمثلت ‏في اغتيال الوزير الأول للسلطان السلجوقي « ألب أرسلان» نظام الملك، فكان هذا أول عمل ‏عنف ارهابي منظم في التاريخ الوسيط، وكان لهذه المنظمة في ذلك الزمن صدى مشابه ‏للأثر الذي أحدثته عملية اغتيال «ارشيدوق النامسا»، أو هجمات الحادي عشر من سبتمبر ‏‏2001 في وقتنا الراهن(10). ‏
ورغم أن ظاهرة العنف الارهابي قديمة قدم الانسان إلا أن ثمة نقص ملموس في ‏المصنفات التاريخية الرصينة التي ترجع بها إلى جذورها وبداياتها الأولى في الأزمنة ‏المعاصرة، وهذا الامر جعل الظاهرة أكثر تعقيدا وسهل الطريق أمام الحاقدين وبائعي الوهم ‏لاستغلال البسطاء في نشر العنف على نطاق واسع ولهم في ذلك مآرب أخرى. ‏
من هذا المنطلق يمكن القول: إن العنف الإرهابي بأشكاله ومظاهره الحديثة ليس وليد ‏القرن الواحد والعشرين، فقد انفجرت أول قنبلة في لندن زرعها أحد أعضاء احدى الجمعيات ‏الإيرلاندية سنة 1883م، وأول هجوم انتحاري كان على رئيس وزراء روسيا سنة 1878م، ‏وأول شحنة ديناميت وضعت في طائرة كان عام 1907م من طرف المتطرف بوريس ‏سافنكوف. أما انفجار أول سيارة مفخخة فكان في وول ستريت بنيويورك سنة 1920 ‏ميلادية(11). وكل هذه الأعمال العنفية البشعة وغيرها كان محركها أطماع سياسية ‏وايديولوجية واقتصادية، ومن أجل تطبيع البشاعة يلجأ مهندسو العنف الإرهابي الى المقدس ‏لدغدغة العواطف، وشرعنة القتل.‏
ماذا بعد حادثة نيوزيلاندا؟
لقد قلنا سابقا أن العنف الارهابي لا دين له، ويظهر كلما توفرت الشروط لذلك، ‏والعنف الارهابي الذي وقع في نيوزيلاندا لا يختلف عن باقي الأنواع المنتشرة في العالم، فكل ‏عنف مخطط له يندرج ضمن العنف الارهابي، فالحوادث مثل واقعة نيوزيلاندا كثيرة، فقد ‏علق أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات على أن هذه ‏الجريمة لا تختلف عن المذبحة التي نفذها المستوطن الإرهابي الإسرائيلي الذي ذبح 29 ‏مصليا مسلما في المسجد الإبراهيمي الشريف بمدينة الخليل عام 1994، معتبرا أنها نتيجة «الأيديولوجية المتطرفة التي تزرع بذور الحروب الدينية»(12). السؤال المطروح الان ماذا ‏بعد واقعة نيوزيلاندا؟
بعد الرسالة التي تركها الارهابي برينتون تارنت لم يعد هناك مبرر للتأويلات ‏والطمس الاعلامي. ومحاولة إلصاق تهمة العنف بالإنسان المسلم، فقد كانت وسائل الاعلام  ‏العالمية تحاول دائما صبغ الاسلام بأنه دين الارهاب، وعليه فإن أي مسلم كيف ما كان يشكل ‏بعبعا يجب الحذر منه، وفي أيّ لحظة يمكن أن ينفجر.‏‎ ‎ورغم أنّ الغالبيّة العظمى من الذين ‏يحملون صفة «مسلم» يستنكرون مثل هذه الأعمال المدمّرة، لكن «الإعلام يميل إلى التّركيز ‏على مثل هؤلاء النّاس والجماعات مقابل تهميش 99.5 بالمائة من المسلمين الذين يرفضون ‏هذه الجماعات المتطرّفة، الأمر الذي يشوّه الصّورة العامّة للإسلام». والكلّ يعلم أنّ الترسانة ‏الإعلاميّة لها كل القـدرة على فبركة الحقيقة. فمن يملك الإعلام يمتلك الحقيقة، بل يصنعها ‏ويتحكّم في تفاصيلها(13).‏‎ ‎ومما لا شكّ فيه أنّ هذه الخرافة تحطمت بعد واقعة مسجد النور ‏بنيوزيلاندا.‏
إن أحداثاٌ عنفية كثيرة شهدتها دول مختلفة من العالم  وتهديدات مختلفة بالأعمال ‏العنيفة التي أصبحت مشكلا يؤرق العالم. حادثة نيوزيلاندا أعادت إلى الأذهان مصطلح ‏‏«الإسلاموفوبيا»، فقد كتب الصحفي المرموق الدكتور «عبد الباري عطوان» في مقالة له ‏نشرها في صحيفة «رأي اليوم» الإلكترونية؛ عن أوضاع المسلمين في الغرب عقب ‏التفجيرات التي هزت فرنسا في شهر نوفمبر 2015 كلاما غاية في الاهمية نعيد التذكير به ‏مرة أخرى، فقال: «..المسلمون في العواصم الغربية يعيشون أوضاعاً صعبة هذه الأيام، ‏وتواجههم نظرات التّشكيك وأعمال التحريض في أيّ مكان يذهبون إليه»(14). والسؤال ‏المطروح اليوم من صنع هذا الخوف؟ هل وحده الانسان المسلم من يتحمل المسؤولية؟ أليست ‏السياسات العنصرية التي تمارس وبدعم من الترسانة الاعلامية الغربية هي المسؤولة عن ‏العنف الارهابي العالمي؟ ماذا بعد واقعة نيوزيلاندا؟ هل ظاهرة العنف الإرهابي وصلت إلى ‏نهايتها أم أنها لم تكتمل بعد؟ أسئلة كثيرة تطرح، لكن الإجابة عنها تبقى معلقة الى حين ‏اكتمال المشهد وكيفية التعامل معها سياسيا واعلاميا. هذا ما يدفعنا الى تسجيل بعض ‏الخلاصات لعلها تكون مفيدة في خاتمة هذا المقال.‏
(3) استنتاجات:‏
نخلص مما سبق الى الاستنتاجات الآتية:‏
- رغم الاهتمام العلمي والنقاش الفكري الواسع الذي حظي به مفهوم الارهاب إلا أن ‏تحديده بشكل دقيق لم يتم الاتفاق عليه. ونعتقد بأن الامر سيظل هكذا قياسا على كل الظواهر ‏الانسانية التي لا يمكن تحديدها تحديدا دقيقا نظرا لخصوصية الظاهرة الانسانية، لأن الفاعل ‏المركزي فيها هو الانسان. وبما أن هذا الأخير كائن مركب فمقاربة ظاهرة العنف الإرهابي ‏ينبغي أن تكون بمقاربة منهجية مركبة تتجاوز التخصصات والتخوم الفاصلة بين العلوم ‏والمعارف، وخصوصا في العلوم الإنسانية إذ يصعب فصل الجوانب الاجتماعية عن ‏مكوناتها الثقافية، فيما يتعذر فصل هذين المستويين عن المستوى السياسي، فضلا عن ‏عناصر ومكونات اقتصادية تارة وتنموية في طور ثالث، ما يعني ضرورة الالمام بهذه ‏الوجوه المتفاعلة والمتعددة لظاهرة العنف الإرهابي(15) ‏.‏
-‏ رغم قدم ظاهرة العنف الارهابي وانتشارها الا ان هناك نقصا في التصنيف التاريخي ‏الجاد الذي يؤرخ للظاهرة تأريخا منفصلا دارسا إياها من كل الجوانب ومصنفا أشكالها ‏بحسب الدوافع والأنواع والايديولوجيات.‏
- في حديثنا عن الارهاب ينبغي أن نميز تمييزا ضروريا بين العنف الارهابي ‏والمقاومة. فالعنف الارهابي عنف منظم يهدف الى تحقيق أهداف محددة وتقوم به منظمات ‏ايديولوجبية مختلفة، ويستخدم أدوات وأساليب متعددة. لتحقيق غاياته، دون الأخذ بعين ‏الاعتبار القواعد والمعايير الاخلاقية، أما المقاومة المشروعة فيها عنف محدد وموجه نحو ‏هدف أخلاقي هو تحرير الوطن من الاختلال والاستغلال والتخلص من الظلم والقمع أو الدفاع ‏عن النفس، وهو عنف مضاد ورد فعل على أعمال عنف تقوم بها منظمة سياسية أو دولة ‏ضد دولة معتدية، كما يحدث في فلسطين حيث تقوم الصهيونية وأدواتها القمعية إسرائيل ‏بأعمال قتل وهدم وتشريد وإبادة للشعب الفلسطيني الأعزل، لترد عليها ثورة الحجارة ‏‏(المقاومة) دفاعا عن النفس والوطن والعيش بأمن وأمان في وطنها المستلب، وكذلك ما ‏يحدث في العراق وافغانستان...الخ(16).‏
-‏ في تحليلنا لظاهرة العنف الارهابي ينبغي التمييز بين حديثها وقديمها، وهذا يحتم ‏علينا أن نولي اهتماما واضحا لكيفية تطور الظاهرة وتحولها من السياق المحلي أو الاقليمي ‏المحدد قديما، إلى المنحى التصاعدي الذي طرأ على الظاهرة منذ النصف الثاني من القرن ‏العشرين، بفضل تظافر عوامل سياسية واقتصادية وتقنية، حتى بتنا نتحدث عن «عولمة ‏العنف الإرهابي».‏
- وبما أن العنف الارهابي ظاهرة كباقي الظواهر الاجتماعية فإن التركيز ينبغي أن ‏ينصب على ثقافة العنف الارهابي وكيف تتشكل وتتطور، ومن ثم فان علاج الظاهرة ينبغي ‏أن يتجه صوب العوامل الحقيقية التي تساهم في استفحالها. من هنا أهمية التركيز على دراسة ‏ظاهرة العنف الارهابي في اجزائها المتعددة؛ كالتقنية والارهاب، العولمة والارهاب، ‏الاستعمار والارهاب، الاقتصاد والارهاب، الدين والارهاب، التدخل الخارجي والارهاب، ‏الاستبداد والارهاب، الظلم والارهاب، الهوية والارهاب،...الخ. ‏
- وأخيرا ينبغي إعادة النظر في المقاربة العسكرية التي لم تأت أكلها في القضاء على ‏هذا الوباء، ذلك أن «العنف الذي ترتكبه الجماعات بتحريض ممنهج لا يشكل على وجه ‏الحصر تحديا عسكريا، ولا هو كذلك في المقام الأول»(17). والامر لا يقتضي استبعادها ‏إطلاقا ولكن إن استدعت الضرورة التدخل العسكري فليكن الامر مدروسا بشكل جيد ‏ومصحوبا بمبادرات مدنية فعّالة.  ‏
نختم بالقول: ليس هناك كائن انساني لا يعي خطورة العنف الارهابي، وتهديده ‏للإنسانية جمعاء. ومهما حاول الانسان أن يسبغ المشروعية والعقلانية على أفعاله التدميرية ‏والتخريبية، فإنه لن يقنع في الأخير سوى ذاته. والغريب في الأمر، أنه في الوقت الذي كان ‏جدير بالعلم أن يسير في اتجاه خدمة الانسان، ها نحن اليوم نراه يسخّر من أجل تطوير ‏وسائل وأدوات لممارسة العنف في أقصى صوره، لذا حقٌّ من قال: «إن الانسان أصبح يقتل ‏باسم الانسان نفسه»(18). وكأن الانسان بقدر ما يتحضر يتوحّش أو كأن تحضره من ‏توحشه(19). ‏
ألم يفهم الانسان بعد المغزى الحقيقي من وجوده في هذا الكون؟ أليس العنف الارهابي ‏في النهاية دليلا على عدم فهم الانسان لحتمية الاجتماع البشري والعيش المشترك في هذا ‏الكون الذي يسَع الجميع؟ ‏
الهوامش
 ‎(1) ‎ ج.ر. بودون وآخرون، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة سليم حداد، ديوان المطبوعات الجامعية، دمشق، 1986.‏
 (2) ‎أمارتيا سن، السلام والمجتمع اليموقراطي، ت، روز شوملي مصلح، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، ط 1، ‏‏2016، ص، 79.‏
(3) ‎الحيدري إبراهيم، سوسيولوجيا العنف والارهاب، دار الساقي، بيروت، ط،1، 2015، ص، 26. ‏
(4) ‎‏ نفس المرجع، ص، 30.‏
(5)‎ ‎نفس المرجع، ص، 80-81.‏
(6) ‎نيكولاس ماكيافيلي، الأمير، ترجمة عبد القادر الجاموسي، دار الأمان، الرباط، 2006.‏
(7) ‎جان ماري مولر، ترجمة عبد الجليل محمد، في مواجهة الارهاب، لا، فرنسا ليست في حالة حرب، مقال منشور على ‏موقع معابرhttp://www.maaber.org
(8) ‎الحيدري إبراهيم، مرجع سابق، ص، 32.‏
(9) ‎ميسون أبو الحب، تاريخ الارهاب قديم، مقال منشور على موقع إيلاف.‏‎ ‎https://elaph.com/Web/Culture/2017/9/1168996.html
(10) ‎‏ نفس المرجع.‏
(11)‎ ‎نامق كامل، تاريخ ثقافة الارهاب، جريدة الشرق الأوسط. ‏http://archive.aawsat.com/details.asp?issueno=10992&article=503026#.XIpEJyhKjIU
(12)  ‎تقرير قناة الجزيرة على جريمة نيوزيلاندا ‏
(13)  ‎السلماني سعيد، الاسلام والمستقبل رؤية عالم المستقبليات الدكتور المهدي المنجرة، مجلة الاصلام الاكترونية عدد ‏‏116 السنة 5، ص، 24.‏
(14) ‎السلماني سعيد مرجع سابق.‏
(15)‎ ‎أبو حلاوة كريم، ثقافة العنف بحث في الأسباب والتداعيات والحلول المحتملة، سلسلة دراسات اجتماعية، مركز دمشق ‏للأبحاث والدراسات(مداد)، 2016، ص، 5.‏
(16)‎ ‎الحيدري إبراهيم، مرجع سابق، ص، 35.‏
(17)‎ ‎أمارتيا سن، السلام والمجتمع الديموقراطي، مرجع سابق، ص، 9.‏
(18) ‎بهاوي محمد، مفهوم العنف، ضمن كتاب الفلسفة لتلاميذ الباكالوريا، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة – ‏الدار البيضاء، ط، 2، 2012، ص، 135.‏
(19) طه عبد الرحمان، سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية، المؤسسة العربية للفكر والابداع، بيروت، ط 1، 2017،  ‏ص، 10‏