ترنيمات

بقلم
حنين
  في أواخر عطلة الرّبيع، أقوم صباحا على صوت حركة الوالدة حين تشرع في مخض الحليب، حيث تعلّق والدتي (الشكوة) - وهي وعاء من جلد الماعز، يقع تطهيره ودبغه وتعريضه للشمس تعقيما - ، بحبل يُشدّ إلى عمود خشبيّ في سقف البيت، بعد أن تسكب فيها الحليب الرّائب الذي تخمّر في الوعاء الطيني (البُرمة)، ثم تبدأ في دفع الشكوة وجذبها، حتى تجهز وذلك بفصل الزّبدة عن الحليب الذي يسمّى بعد ذلك لبنا.
حين أقومُ أجد الإناء الفخّاري قد ملئ حليبًا رائبا، وإلى جانبه وعاء التّمر الذي عادةً ما يكون من نوع (العليق الذي أحبّه لعذوبته وطراوته)، مع شطر (جردقة، وهي خبز مطهو في الطابونة، التي هي فرن طيني)، من قمح صرا ورتان ذائع الصّيت، فأقبل على الوجبة بكل نهم وشراهة وانشراح، حتى إذا أتيتُ عليها، أعدّت لي الوالدة بيضتين في (البرّاد، وهو إناء طبخ الشاي)، فألتهمهما على إيقاع مخضِها ودندنتها ببعض الأغاني البَدوية الشهيرة من مثل (زعرة مصقولة الناب ..). 
أطلّ من باب البيت وأتطلع إلى الحوش الواسع فأرى الدجاجات يلتقطن بعض الحَب، والكلبَ باسطا ذراعيه في ظل جدار الحوش، وأحيانا تحت شجرة التين. اتمطّط قليلا متثائبا متكاسلا، ثم أغادر البيت.
يحلو لي أن أخرج إلى الجبل الصخري المجاور (رأس الكاف)، ممتّعا بصري بالرؤية المطلقة ونسائم الربيع و عبق الحقول الممتدة، سواء ما كان منها مُزهرا ومنوّرا ومغمورا بالأعشاب ومعَدّا فقط للرّعي، أو ما كان زرعا تمشّطه النسائم، فإذا هو أشبه ما يكون بأمواج البحر الخفيفة، فلِله ما أبهى وما أروع أن تجد نفسك في أحضان البهجة وارفة العطر والشّذى والدّفء، فلا تسمع غير شدو العصافير الزاهية المغتبطة بالمشهد البديع، أو ثغاء الخرفان تنط بين العشبة والأم، أو خوار بقرة منتعشة بمأدبة الله في الأرض. 
النّحل يخترق الصمت بطنينه وهو ينتقي مواقع الإغراء في الأعشاب والأزهار، وينتخب ما يروق ويحلو من الرّحيق الذي يتحول بعد ذلك إلى عسل. كنت مع باقي الأصدقاء شغوفين بجمع قوقعات الحلزون التي تكون مليئة بالعسل المجَفّف، حيث تُحسن النّحلة رصفه داخل القوقعة وتغلقها بصمغ من الحشيش الأخضر بعد أن تطحنه، فما أطيبه وما ألذه ! 
حين نتمرّغ في الحقول المزدانة زرابيَّ مبثوثةً، نرفع رؤوسنا إلى السّماء الزرقاء النقية الصافية، فنلمح غيمة بيضاء تتهادى في اختيال، ونلمح بعض العصافير التي تنقل الطعام لفراخها في الأعشاش، فيسعد الوجدان وينشرح الصدر ونستسلم للهوى وحديث الشوق، وطيش اللغة. أذكر ذلك، وتغيب بعض التفاصيل الغائمة التي تستدعيها الذاكرة، فأشهق بالحنين.