في الصميم

بقلم
عمر بن سكا
الخوف من التعلم وعلاقته بالفشل الدراسي
  مقدمة:‏
بحكم انتمائنا إلى أسرة التّربية والتعليم، كثيرا ما طرحنا أسئلة تتعلّق بالأساس ‏بأدوار المدرّس في إيجاد سياق مفعم بالحيويّة والإيجابيّة يوفّر للمتعلّمين أرضيّة ‏مناسبة للتّعلم الذي يجدون فيه ذواتهم وتلبية لحاجاتهم المختلفة، ويكون له معنى عندهم ‏يحفّزهم على التّعلم ويولد لديهم رغبة فعليّة في الانخراط فيه.‏
في البداية لابدّ من التّأكيد على أنّه من الضّروري أن نقطع مع التّصورات ‏التّقليدية السّائدة والمهيمنة على الممارسات البيداغوجيّة في حقل التّربية والتّعليم، ‏وخاصّة تلك النّظرة الضّيقة والاختزاليّة التي ترجع أسباب الفشل أو التّعثر الدّراسي ‏دائما إلى عوامل خارج الذّات المتعلّمة، كما تركّز على المعالجات التّربوية الشكليّة ‏المحصورة في الدّعم التّربوي أو المراجعة أو إعادة الدّروس، أو اللّجوء إلى الحلّ ‏الأسهل وهو اتخاذ قرار تكرار السّنة في الفصل الدّراسي بالنّسبة للذين لم يوفّقوا في ‏اكتساب التَّعلمات الأساسيّة.‏
وفي المقابل يتمّ غضّ الطّرف عن أسباب أخرى مؤثّرة بقوّة كتجاهل تمثّلات ‏المتعلّمين وعدم استثمارها بالطّرق الأمثل، ومثل استبعاد الهواجس والإكراهات ‏الدّاخلية التي يشعر بها المتعلّمون أثناء احتكاكهم بالوضعيّات التّعليميّة، والتي ‏تؤثّر سلبا على وظائفهم الفكريّة وقدراتهم العقليّة. ومن الضّروري بمكان أن ‏نستشعر كمربّين مدى خطورة أن يرفض الطّفل أو المراهق التّعلم من أساسه، وبنفس ‏القدر ألاّ يجد هؤلاء معنى لما يتعلّمونه في المدارس. وقد حاول العديد من الباحثين في ‏حقل التّربية التّأكيد على أنّ المتعلّم يجب أن يبني المعرفة بنفسه خطوة تلو الأخرى، ‏حيث يتبوّأ موقع الباحث، بينما ينحصر دور الأستاذ في دور الوساطة المعرفيّة (1)، ‏ويبقى تحفيز المتعلّم على الانخراط في بناء المعرفة مع تذليل الصّعوبات التي تعوقه ‏في سيرورة التّعلم أولى الأولويّات في هذه الشّراكة، ما دامت المعرفة تتّسم بالديناميّة ‏وليس بالثّبات.‏
‏ يحذّر الأستاذ «محمد بوبكري» في هذا السّياق أثناء حديثه عن ثنائيّة «الحبّ ‏والمعرفة» من إطفاء جذوة السّؤال عند الطّفل وتجاهل المجتمع لرغبته في المعرفة ‏قائلا: «يلاحظ السّيكولوجيون أنّ الأطفال يطرحون في سنّ مبكّرة أسئلة كثيرة على ‏ذويهم  بدافع رغبتهم الفطريّة الملحّة في المعرفة، لكن غالبا ما تنطفئ هذه الجذوة ‏بسرعة نتيجة ردود الفعل السّلبية لمحيطهم على أسئلتهم، لذلك عندما لا يستجيب ‏المجتمع لرغبة أطفاله في المعرفة ويشجّعها عبر إثارتها باستمرار يتوقّف هؤلاء ‏عن التلهّف على طرح الأسئلة، ويفقدون الرّغبة في المعرفة، فتنشأ أجياله على ‏عدم الاهتمام بها»(2)‏. ولهذا لابدّ من تنويع الوضعيّات التّعليميّة المحفّزة، والمدرّس ذاته ‏هو من ينبغي أن يشرف على عمليّة بناء المعرفة انطلاقا من تمثّلات المتعلّمين....‏
ونعتقد أن تجاهل المدرسين للأبعاد السيكولوجية المشكّلة لبنية الطفل، وللسّلوكات ‏الغريبة التي يبديها المتعلّمون خلال انخراطهم في الوضعيّات التّعليميّة التي نلزمهم بها ‏أمر خطير، وفيه ظلم كبير لهؤلاء الأطفال الذين يقعون بالفعل تحت تأثير مخاوف ‏وهواجس يصطدمون بها في الفصول الدّراسية، وتشوّش على تفكيرهم وتعوق ‏اكتسابهم للمعارف الجديدة التي نودّ تبليغهم إيّاها، وهم في أمس الحاجة إلى وسيط ‏ينتشلهم من تلك الورطة.‏
‏(‏‎1‎‏) حقيقة الخوف من التّعلّم:‏
التّفسيــر الموضوعي لظاهرة الخــوف من التّعلّم تحتّم علينا النّظر إلى سلوكات الطفل ‏أثناء التّعلـّـم على أســاس كونهــا تصرّفات وردود فعل تصدر عنه من أجل تحقيق الحماية ‏والأمن لذاته، أو بتعبير «‏Serge Boimare‎‏»(3) فتلك السّلوكات لها معنى يتمثّل في كونها ‏عبارة عن استراتيجيّات ضدّ التّعلم ‏‎(Anti-apprentissage)‎‏ تطفو على السطح أثناء ‏انخراط الطّفل في الوضعيّات التعلّمية من أجل تحقيق الحماية بالنّسبة لطفل يلج المدرسة ‏دون أن يتوفّر على الحدّ الأدنى من الكفايات النّفسية الضّرورية من أجل مجابهة إكراهات ‏التّعلم(4)‏. ذلك أنّ القدرة على تحمّل وطأة الإحباط والفشل، والرّغبة في تحقيق الذّات ‏والحصول على الاستقلاليّة تعدّ جميعها أسسا في القدرة على تطويق الرّفض الذي يستهدف ‏الوظائف الفكريّة التي يتطلّبها التّعلّم(5)، وهو ما ليس مُؤمَّنا لدى الأطفال، ويجب على ‏المدرّسين والمربّين أخذه بعين الاعتبار.‏
حينما يُعوِز المتعلمين مثلُ هذه الكفايات أو المؤهّلات النّفسيّة يجدون أنفسهم تلقائيّا ‏أسرى أفكار سلبيّة تنبثق إزاء وضعيّات التّعلّم، وتدعوهم إلى عدم الاكتراث وبالتّالي رفض ‏التّعلّم من أساسه(6). والمتعلّم قبل أن يلج فصول الدّراسة لا شكّ أنّه قَدِم من محيط اجتماعي ‏أمضى فيه زمنا من عمره وخضع فيه لتجارب متباينة قد تكون حاسمة في بلورة تمثُّلاته ‏وشخصيته، وغالبا ما يكون عالمه محكوما بظروف تتّسم بغياب الانسجام والاتساق الذي ‏يحتّمه اكتساب المعرفة المنّظمة، وعالم المدرسة مختلف عن عالمه الأول الذي ألفه وفيه ‏تكون معاني الإحباط أو التّثبيط بالنّسبة إليه لا تشكّل تهديدا حقيقيّا لكينونته.‏
‏(2)  كيف يتشكّل الخوف من التّعلّم؟
حينما نقترح وضعيّة تعلُّم جديدة أمام الطّفل تنبثق لديه استراتيجيّات ضدّ التّعلّم ‏تغطّي خوفه من الفشل والشّعور بالإحباط وهيمنة المشاعر والأفكار السّلبية التي قد ‏تكون امتداداتها قديمة جدّا، وذلك يحصل وفق المراحل التالية:‏
‏-‏ وضعيّة التّعلّم تعني له تهديدا لتوازنه الشّخصي.‏
‏-‏ تبعا لذلك تنبعث في نفسه أحاسيس مشوّشة، تدفعه إلى عدم ‏تثمين التعلُّمات والإقبال عليها، وكذا رفضه التلقائي الانخراط فيها بسهولة.‏
‏-‏ تلك الأحاسيس والأفكار تتحوّل إلى خوف عميق قد تمتدّ جذوره ‏إلى المراحل الأولى من عمر المتعلّم.‏
‏-‏ حينها يبدأ المتعلّم في تفعيل اضطرابات سلوكيّة باعثها الأساس ‏هو محاولة منع أو تقليص وطأة تلك المشاعر والأفكار المخيفة يصحّ أن ‏نطلق على تلك السّلوكات «استراتيجيّات ضدّ التّعلّم».‏
ومن هنا تأتي أهمّية وعي الممارسين التّربويين بهذه الأبعاد السّيكولوجيّة التي ‏يمرّ عبرها المتعلّم أثناء انخراطه في وضعيّات التّعلّم الغريبة عنه والجديدة بالنّسبة ‏إليه. وبالتّالي فليس كلّ فشل أو تعثّر في التّعلّم يفسّر بكون التّلميذ غبيّا أو مستهترا...‏
وقد يطرح سؤال هنا عن متى وكيف تتمظهر تلك السّلوكات التي يعبّر التلاميذ ‏من خلالها عن الهواجس والمخاوف التي تسكنهم؟ ويكفي كجواب أوّلي أن نقول انظر ‏إلى ما يقوم به جلّ تلامذتنا داخل فصول الدّراسة عند خروج الأستاذ من قاعة ‏الدّرس، وعندما تتاح لهم فرصة التّعبير بحرّيّة مطلقة، فهنالك تنطلق العديد من ‏الرّغبات الحيويّة الدّفينة، فيسارعون إلى تقديم أجوبة جماعيّة وعشوائيّة، وقد يندلع ‏الشّغب في صفوفهم وأحيانا تبزغ مظاهر أخرى للسّلبيّة والعنف.‏
وربّما قد يختار البعض من التّلاميذ الخيار الآخر الذي لا يقلّ خطورة عن سابقه ‏وهو الانزواء والتقوقع حول الذّات وكبت المشاعر التي يحسّون بها.‏
‏ ‏‏(3) كيف نعالج ظاهرة الخوف من التّعلّم لدى الأطفال؟
من الجميل أن نبدأ بما انتهى عنده (‏Serge Boimare‏)‏(7)حينما قال: «لا ينبغي ‏أن نترك منتجي ألعاب الفيديو والطّائرات الورقيّة ينفردون باسترعاء ‏اهتمام أطفالنا وتلامذتنا...الخوف من التّعلم لا يجب أن يفقّر نظامنا التّربوي، ‏ويحصر أدوارنا‎ ‎‏-كمربّين- في التّلقين وترديد المعرفة الجامدة في الوقت الذي يسعى ‏فيه البعض إلى جعلنا كذلك»(8).‏
إنّ الخوف من التّعلّم - كنوع من الإكراه الذي يجده المتعلّم أثناء التّعلّم، وكنوع ‏من الهواجس الدّفينة التي تسكن الأطفال المتعثّرين(9) خصوصا - يتطلّب معالجة سيكو-‏بيداغوجيّة تراعي هذه الأبعاد النّفسية المؤثّرة في شخصيّة الطفل، وتستلهم الحلول ‏العميقة للانتقال بالمتعلّم من عالم الخوف والإحباط إلى عالم المعرفة في مجالها العام ‏والكوني، وتضمن خلق الرّغبة والدّافعيّة في التّعلّم لديه.‏
في هذا السّياق يقترح بعض المهتمّين ما أسماه بالوساطة أو المعالجة الثّقافية التي ‏تعدّ حلاّ ناجعا في مقاربة تلك الأسئلة المقلقة، لأنّها تتوسّل بالعودة بالمتعلّم إلى جذور ‏الفضول المعرفي حيث يتمّ عرض تلك المخاوف والهواجس وتقديمها بشكل رمزي ‏وتمثيلها على شكل استعارات تفتح أمام الطّفل آفاق الانتقال إلى العام والكوني ومفتاحه ‏هو المعرفة. وفي نفس الوقت توفّر الخيط الرّابط الذي يضمن تجاوز تلك الهواجس ‏المشوّشة على الفكر وإعادة استثمارها.‏
ولكي تؤتي هذه المعالجة ثمارها لا مناص من مراعاة ما يلي:‏
‏-‏ استثمار خيال المتعلّم واقتراح استعارات مناسبة تعبّر عن تلك ‏المواقف المقلقة والهواجس التي يشعر بها المتعلّم وتسيطر على ذهنه ‏وتسبّب لديه الخوف من التّعلّم.‏
‏-‏ توفير الخيط الرّابط الذي يضمن استبعاد تلك الهواجس بعد ‏استحضارها تمهيدا للتّخلّص منها.‏
‏-‏ فسح المجال الحرّ أمام المتعلّمين من أجل التّعبير والتّساؤل وإبداء ‏الرّأي في سبيل إعطاء معنى لما يتعلّمونه.‏
ومن المقترحات الجديرة بالاهتمام في هذا السّياق هو الاعتماد على النّصوص ‏الأدبيّة، والقصص والحكايات الأسطوريّة التي تصوّر التّجارب الأولى للبشريّة في ‏صراعها مع قوى الشّر، وتحكي انتصارات الأبطال الخالدة ضدّ الألم والخوف، وكيف ‏تمكّن الإنسان من تشييد صرح الحضارة على الرّغم من الإكراهات المتعاقبة. ولمَ لا ‏أيضا الرّجوع بالأطفال إلى سير وتاريخ الأنبياء والمصلحين في سعيهم الحثيث نحو ‏إصلاح مسار البشر والنّصح لهم...الخ
إنّ تلك الوساطة الثقافيّة قادرة على تخفيف حدّة القلق والتّوتر الذي يصاحب ‏سيرورة اكتساب المعرفة، وخاصّة إذا تمكّن المدرس من إدخالهم في عالمه واستطاع ‏أن يستحضر هواجسهم وانشغالاتهم في صور رمزية واستعارات أو ألغاز ذات معنى ‏يدركون مغزاها، دون نسيان الهدف الأسمى من ذلك كلّه وهو الانتقال بهم عبر تلك ‏الوساطة إلى التّجريد والتّعميم وإدراك المفاهيم الجديدة، وأيضا التّوظيف الكامل ‏لقدراتهم وأدواتهم الفكريّة والعقليّة. ومن باب التّوضيح نقتبس ما قاله (‏Boimare ‎Serge ‎‏) في هذا الصدد:‏
‏»‏la médiation culturelle permet le passage précieux du ‎perceptif (où il suffit de voir pour savoir, ou l’association est ‎directe et facile) au représentatif où il faut prendre de la distance, ‎se détacher de ses propres images pour saisir une notion nouvelle ‎ou accéder à une nouvelle opération mentale‏ . (10) «‏‎ ‎ 
خاتمة:‏
في خاتمة هذا الموضوع، نقول إن هذه القراءة لظاهرة الفشل الدّراسي من ‏منظور السيكو-بيداغوجيا لا تعني إطلاقا استبعاد العوامل الأخرى المفسّرة لتعثّر عدد ‏ليس بالقليل من التّلاميذ الذين يغادرون المدرسة سنويّا، كما لا يعني التّنكر للمقاربات ‏الأخرى التي تبحث في منطق التّعلّم عند الطّفل. وقد حاولنا توجيه أنظار الأساتذة ‏والمربّين إلى رؤية مهمّة تفسّر السّلوكات الغريبة التي تصدر عن المتعلّمين ودوافعها ‏الدّاخلية، ولعلّ ذلك يقدّم لهم بعض الحلول للمشاكل التي يواجهونها داخل الفصول ‏الدّراسيّة. وبقي أن ننبّه إلى ضرورة القطع مع أساليب الاستبداد والتّسلط من قبل ‏المربّين أثناء التّعامل مع نفور التّلاميذ من المعرفة.‏
الهوامش
(1) Élève chercheur, enseignant médiateur ; Donner du sens aux apprentissages, Britt Mari Barth ; ‎Edition Chenelière ;2013 ; p :23‎
(2)‎ ‎محمد بوبكري، الحب والمعرفة، أقلام، منشورات الجمعية المغربية لخريجي مركز تكوين مفتشي التعليم، العدد: 7، 2015، بتاريخ ‏‏27 يوليوز 2015، ص:1‏
(3) ‏Serge Boimare est Directeur pédagogique du Centre Claude Bernard à Paris. Ses travaux tendent à ‎mettre en évidence l’appareillage psychique que l’enfant doit mobiliser pour accepter d’apprendre. La ‎restauration de l’image de soi passe selon lui par la prise en compte des dimensions identitaires et ‎symboliques. Pour cela, il prône la médiation culturelle avec, entre autres, l’usage des contes et récits ‎mythologiques dans les classe.‎
(4) ‏Serge Boimare, « Revenir aux sources de la curiosité avec l’aide de la médiation culturelle ». Le ‎nouvel éducateur, N72, Octobre 2005 ; P :23‎
(5) Ibid. p :23‎
(6) La culture pour dépasser l’échec scolaire, Serge Boimare. ‎Dialogue N135, Janv 2010; p :25‎
(7) l’enfant et la peur d’apprendre ; Serge Boimare ;Edition Dunod ;2004.‎‏ ‏
(8) Ibid. p24 ;(Ne laissons pas les fabricants de jeux vidéo, de feuilletons violents être les seuls à ‎intéresser nos élèves, la peur d’apprendre des enfants ne doit pas appauvrir notre pédagogie et nous ‎limiter au rôle de répétiteur …).‎
(9) هناك من يرجع المخاوف والهواجس التي تسكن الطفل في هذه الحالة إلى إكراهات تدور في فلك العنف أو السادية والتجارب المؤلمة ‏التي عاشها هؤلاء في المراحل الأولى من حياتهم. ‏
(10) L’enfant et la peur d’apprendre…p162‎