الأولى

بقلم
فيصل العش
بعد سبع سنوات من صدورها، هل كسبت «الإصلاح» الرهان؟
 الحرّية مطلب وسلاح
لم تنطلق مجلّة «الإصلاح» من فراغ ولم تكن مشروعا عبثيّا لممارسة هواية الكتابة لاغير، بل كان وراءه غاية وأهداف أهمّها «الحرّية». يقول صاحب الفكرة : «ليعلم الجميع أنّني لا أبتغي من وراء إصدار هذه المجلة غير تمكين نفسي وأصدقائي من التّعبير بحرّية وأن نكتب ما نشاء بدون رقابة تذكر. نتبادل الأفكار والآراء، نتناقش بحرّية، نتدرب على “كتابة المواطنة” لنحقق جزءًا من مواطنتنا التي نعمل على بنائها خطوة خطوة...»(1) فبعد التّصحّر الفكري والكبت الدّيني الذي عاشه التّونسيّون أكثر من نصف قرن، كان من البديهي أن تظهر بعد الثّورة أفكار متعدّدة ومتباينة في أغلب الأحيان، وما لازمها من تجاذبات عديدة انعكست في صراعات داخل السّاحة الفكريّة وخارجها، تجاوزت أحيانا حدود نقد الفكرة بالفكرة وقرع الحجّة بالحجّة،  لتتحوّل إلى محاولات إقصاء طرف لآخر. وهو ما لا يخدم مسار التّغيير من سلطة الإستبداد إلى سلطة الشّعب  ومن الخطّ الواحد إلى التّعدد والتّنوع  ومن رفض الآخر إلى قبوله والتّواصل معه بل والاستفادة منه. 
تعيش المجتمعات العربيّة الإسلامية أزمة «حرّية» حقيقيّة ذات جذور موغلة في التّاريخ وذلك في مجالات الحياة المختلفة وخاصّة السّياسية منها. فمن نافلة القول أنّ الفترات التي بزغت فيها شمس الحرّية في هذه المجتمعات قصيرة لا تمثّل شيئا يذكر في التّاريخ أمام فترات الاستبداد السّياسي وقمع الحرّيات، ولأنّ الحرّية كقيمة إنسانيّة هي من فطرة الإنسان وهي المنطلق والمقصد بالنّسبة لحركة الإنسان وفعله على وجه الأرض، وهي إحدى الدّعائم الأساسيّة في بناء الحضارات وتقدّم الأمم، فإنّ مسألة «الحرّية» كانت حاضرة بقوّة في مختلف أعداد مجلّة «الإصلاح» وهي بالنّسبة للقائمين على هذه الدوريّة قيمة ثابتة في فلسفة التّكوين وإحدى ركائز عمليّة الإصلاح المرجوّة وهي في نفس الوقت قيمة مناضلة ومقاومة للانحراف الذي أصاب المجتمع سواء في المجال السّياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. فهي إذا مطلب أساسيّ وسلاح لاغنى عنه. ولأنّ الأصل في الحرّية الإطلاق بما أنّ ارتقاء الإنسان لاحدّ له يقف عنده، فهو ساير من المحدود إلى المطلق، فإنّ مجلّة «الإصلاح» أخذت على عهدها أن لا تضع حدودا لحرّية الكتابة على أعمدتها وفتحت صفحاتها لكلّ من أراد أن يعبّر عن رأيه مادام هذا الرّأي لا  يدعو إلى عنف أو تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدّين ولا يتضمّن شتما أو قذفا للآخرين. 
الشّّعار يختزل القصد
اصطفّت المجلّة إذا منذ البداية في خندق التّغيير لكنّ الأسلوب الذي تبنته لم يكن راديكاليّا، لهذا جعلت من كلام الله على لسان النّبي شعيب عليه السّلام «إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت...»(2) شعارا، فالهدف الأسمى للمجلّة هو المساهمة في إصلاح الواقع الذي أصبح مشوّها نتيجة عقود من الاستبداد والفساد. ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ من خلال أفكار وازنة بعيدا عن الطوبويّة ورفع الشّعارات الرّنانة التي لا تغيّب عادة الواقع ولا تأخذ بعين الاعتبار مختلف المؤثرات التي تفعل فيه سلبا أم إيجابا. وهذا ما عبرّ عنه باعث المجلّة منذ الوهلة الأولى: «نريد من خلالها المشاركة في بلورة فكرة وسطيّة تتفاعل مع محيطها وتقترح عليه الحلول لمختلف مشاكله الفكريّة والسّياسيّة والإجتماعيّة. نريدها حاضنة لأفكار ورؤى  تناضل من أجل بناء دولة فلسفتها خدمة المواطن، ومجتمع مبنيّ على التّعاون والتآزر والعيش المشترك في كنف الحريّة والمساواة. نريدها منبرا للتّحليل واقتراح البديل من دون تشنّج إيديولوجي ولا تعصّب لفئة دون أخرى. نحلم أن نواصل ما بدأه المصلحون، دون تقديس لهم  أواجترار لأفكارهم، منطلقين من الواقع الذي نعيش فيه، متمسّكين بهويتنا العربية الإسلاميّة ومنفتحين على العصر وعلى كلّ فكرة أو مشروع يؤدّي إلى الإصلاح»(3) . 
إنّها ببساطة مجلّة همّها الأساسي المساهمة في الخروج «من نجاسة الاستبداد إلى طهارة حكم الشّعب» (4)
تمسّك بالهوية وانفتاح على العصر
لم تبحث المجلّة لنفسها عن هويّة، بل سعى القائمون عليها منذ البداية إلى إبراز هويّتها بوضوح في تناسق تامّ مع منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل الذي تبنّى المجلّة والذّي يعرّف نفسه بأنّه منتدى «عروبيّ إسلامي» ويجعل من أهدافه «تعميق الوعي الجمعي بمعنى الإنتساب إلى العروبة والإسلام وايجاد التّعبيرات الثّقافيّة الكفيلة بتجسيد هذا الإنتساب»(5). يتجسّد هذا الانتساب من خلال «اعتبار الإسلام (وحيا وتجربة تاريخيّة وأفقا حضاريّا) مرجعيّة تتجذّر فيها البدائل»(6) التي نطمح أن ننجزها من أجل تغيير الواقع وتحقيق النّهضة.
يقول صاحب فكرة بعث المجلّة ورئيس تحريرها : «لا أفشي سرّا إذا ذكرت أنّ «الإصلاح» تصدر عن خلفيّة عروبيّة إسلاميّة تجديديّة وتنويريّة، ترى أنّ بناء الإنسان الحرّ القادر على الإبداع لا يكون بالتنكّر لهويّته والانسلاخ عنها وإنّما بالانطلاق منها والاستفادة من مخزونها الثّقافي والفكري الغنيّ بقيم الإسلام الخالدة وتعاليمه السّمحة باعتبارها القاعـدة الأساسيّة للصّمود ومواجهة التّحديات»(7)
 لم تكن المجلّة منبتّة عن واقعها بل كانت وسيلة للتّأثير فيه ومحاولة  الرّقي به نحو الأفضل. «الإصلاح» منذ عددها الأول حدّدت خطّا تحريريّا بَوْصَلَتُه نشر الفكر الإصلاحي المستنير المتعلّق بهويّته وانتمائه للوطن الصّغير والكبير، وفتحت الباب على مصراعيه للذين يسعون إلى بناء فكر جديد يساعد على الخروج من خندق التخلّف والتّبعيّة ويساهم في إصلاح جذري لثقافة المجتمع عبر مقاومة ثقافة الخوف والرّهبة والاستكانة وثقافة التّواكل والاستسلام وثقافة الكسل ونبذ العمل والابتكار. إصلاح عميق يقضي على معيقات النّهضة والتحرّر ويؤسّس لمجتمع يكون فيه الإنسان إنسانا بأتمّ معنى الكلمة وتنتشر فيه قيم العدل والحريّة والكرامة. مجتمع يؤمن بالإختلاف والتّنوع ويرفض النّمطيّة مهما كان مأتاها. 
متطوعون لا أجراء
تدخل الكتابة في مجلّة «الإصلاح» في باب التطوّع، فالذين أثّثوا الأعداد المائة والأربعين هم من المؤمنين بأنّ الكتابة رسالة وأنّها شكل من أشكال النّضال في زمن قلّ فيه العطاء بدون مقابل وبات فيه النّضال مشوّها ومحصورا في العمل الحزبي. لهذا كانت دعوة الإصلاح باستمرار تتّجه إلى الذين يشاركون القائمين عليها حلم بناء فكر جديد قادر على الإجابة عن الأسئلة الحارقة التي تشغل بال أبناء الأمّة، ويقاسمونهم الطموح في بلورة مشروع يقوم على قيم المواطنة والحرية والعدالة يؤدّي إلى إصلاح عميق يقضي على معوقات النهضة، ليساندوهم في تأثيث المجلّة بمقالات أو بحوث شرط أن تتوفر فيها اللّغة السليمة والنقد بالحجّة والبرهان والفكرة التي تساعد على الخروج من خندق التخلّف والتبعيّة. 
من القطريّة إلى الاهتمام بهموم الأمّة قاطبة 
كانت النواة الأولى لأسرة تحرير المجلّة تونسيّة، لهذا كانت في بداياتها قطريّة حيث اهتمّت في أعدادها الأولى بتونس منطلق ثورات الرّبيع العربي وما يشغل هذا القطر ويهدّد تحوّله الدّيمقراطي الناشئ، لكن انتشارها خارج البلاد وتوسّع المجال الجغرافي لقرائها وللمساهمين فيها من جهة وإيمان القائمين عليها بأن الإصلاح الحقيقي (خاصّة الثقافي) لا يمكن أن يكون قطريّا من جهة أخرى، دفعها إلى أن تتجاوز قدر الإمكان القطريّة في طرح المواضيع، فأصبح الاهتمام بما يشغل كلّ المسلمين والعرب أينما كانوا يدخل في المهام الأساسيّة للمجلّة. فقراء المجلة وكتّابها ليسوا كلّهم تونسيين بل ينتمون إلى الوطن الكبير فمنهم من المغرب وليبيا والجزائر ومصر واليمن ومنهم من جاليتنا العربية في الخارج سواء في أوروبا أو أمريكا وفي الدول الإفريقيّة أيضا ولهذا فإنّ مجال اهتمامات المجلّة توسّع ليشمل المجال العربي كلّه وأكثر.
الكترونيّة لا ورقيّة
يتساءل عدد كبير من القراء والأصدقاء: «لماذا لا تتحوّل المجلّة إلى ورقية وتغادر العالم الإفتراضي؟». فنجيبهم بأنّ ما يشهده عالم التكنولوجيات من تطور منقطع النّظير وما يوفّره هذا العالم من امكانيات وتسهيلات لا يوفّرها العالم «الورقي»، فإنّ المستقبل سيكون حتما للدّوريّات الإلكترونيّة. ومن يجد اليوم صعوبة ما في قراءة مقالات المجلّة الإلكترونيّة نتيجة عدم تأقلمه مع عالم التكنولوجيا الحديثة أو رفضه اللاّشعوري لما هو بديل عن الموجود، سيغيّر موقفه حتما في القريب العاجل لأنّ الأدوات المتوفّرة من حواسيب محمولة و«أي باد» وشبكات تواصل إجتماعي وواب وبرمجيات متطوّرة سهلة الإستعمال، ستمكّنه من ولوج العالم الإفتراضي بسهولة إذا ما توفّرت لديه الإرادة. 
من مزايا النّشر الالكتروني أنّه يساعد على تخفيض المدّة التي يستغرقها نشر العمل ويفتح المجال أمام عدد كبير من المؤلفين المبتدئين وهو مع كلّ هذا قليل التّكلفة ومربح للوقت وسهل التّخزين والتّبويب. ومع الصّعوبات المادّية التي تتعرّض إليها الدّوريات الورقيّة وارتفاع نسبة استعمال الوسائط التكنولوجيّة لدى النّاس فإنّ الدّوريات الورقيّة ستسير نحو الاندثار والفناء مهما كانت القوى التي تدعّمها وتسهر عليها وستتحوّل عاجلا أم آجلا إلى الكترونيّة (8). ولأننا نراهن على الشّباب الماسك بتلابيب التكنولوجيا والكهول الذين يؤمنون بأن الأميّ ليس من لا يعرف القراءة والكتابة بل الأميّ هو من لا يعرف كيف يستخدم الحاسوب ويستفيد من جميع الامكانيات التي توفرها التكنولوجيا الحديثة، لأننا نراهن على هؤلاء وهؤلاء فإننا سنواصل تحقيق حلمنا «الالكتروني» وسنعمل على تدعيمه.
 
 أرقام ودلالات 
بدأت مجلّة الإصلاح صغيرة حجما ومضمونا وكبرت مع مرور السنين شيئا فشيئا، فهل حقّقت ما رسمته لنفسها من أهداف وطموحات؟
مازال الطريق طويلا ولم يحن الوقت للإجابة القطعيّة على هذا السؤال، لكنّنا دائمون على القيام بالنقد والمراجعة ومتابعة تفاعل القرّاء مع المجلّة من خلال الأرقام التي تتوّفر لدينا من الموقع. وسنكتفي بذكر بعض الأرقام ونترك للقراء الأعزّاء استخراج الدّلالات. 
بعد عام من تاريخ صدور عددها الأول، أصبح للإصلاح موقعا الكترونيّا تفاعليّا يقترح على القرّاء والمتصفّحين أبوابا متعدّدة تعرّف بمحتوى العدد الجديد وتضمن إمكانية تحميل الأعداد السّابقة أو الاطلاع على المقالات حسب الكتّاب وتمكّن القائمين على المجلّة من معرفة عدد القرّاء الذين قاموا بتحميلها وبالتالي معرفة نسبة اهتمام النّاس بها. 
وبالعودة إلى الأرقام نلاحظ أنّ تفاعل القرّاء من خلال تحميل الأعداد شهد إرتفاعا كبيرا خلال السنة الثانية ثمّ تقلّص ليستقرّ في حدود 1200 تحميلا. 
أمّا من حيث عدد المساهمين بالكتابة في المجلّة، فإذا استثنينا الذين ساهموا بمقال واحد وعددهم 52 فإنّ 147 كاتبا وكاتبة قد نشروا على أعمدة الإصلاح مقالين أو أكثر، من بينهم 108 تونسيّا وتونسيّة، خمسة عشر منهم خارج الوطن و 39 من الوطن الكبير   26 منهم من المغرب الشقيق أمّا البقيّة فمن مصر وفلسطين والعراق والجزائر واليمن وسوريا والأردن.
وحملت هذه الأعداد بين جنباتها أكثر من 1500 مقالا في ميادين عديدة فكريّة واقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة وعددا غير قليل من التّحقيقات والحوارات بالإضافة إلى 73 نصّ تعريفيّ لشخصيات إصلاحيّة وأكثر من 200 قصيدة شعريّة وكلمات 140 أغنية ملتزمة و70 قصّة كاريكاتوريّة مصّورة.
هذه بعض الأرقام التي تلخّص مسيرة سبع سنوات، حاول خلالها القائمون على المجلّة تقديم أفضل ما لديهم مع محاولة الاستفادة من التكنولوجيّات الحديثة وخاصّة في مجال الاتّصال لتصل المجلّة إلى أكبر عدد ممكن من القراء، لكنّ الطريق مازال طويلا ولم يصلب عود «الإصلاح» بعد، ومازالت رائحة أزهارها العطرة ضعيفة حتّى تسيطر على الروائح النتنة التي تزكم الأنوف الصّادرة عن الرّداءة المهيمنة على السّاحة الثقافيّة والفكريّة في وطننا ومازال أمام القائمين عليها عمل كبير ولذلك عليهم بذل جهد أكبر من أجل توفير المضمون الجيّد المفيد وتقديم خطاب يتّجه إلى فطرة الإنسان وإلى عقله وإلى إحساسه ويسعى إلى تحريره بالتّوحيد ويجعل كرامته كإنسان أساسا لتحقيق قيم العدل والرّحمة والخير، وهو أيضا خطاب يدافع عن قوانين التّعدّد ونواميس التّنوّع وضرورات الإختلاف،حتّى تكون «الإصلاح» كـ«شَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا» ولا تكون كـ«شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ»
فهل ستنجح «الإصلاح» وتصمد حتّى يصلب عودها وتنتج ثمارها أم سيكون مآلها الاستسلام فالاندثار في غياب الدّعم والإحاطة كما حدث لغيرها من الدّوريات المخالفة لقوانين الرّداءة التي تتحكّم في السّاحة؟
الهوامش
(1) افتتاحيّة العدد الأول من المجلّة. 4 افريل 2012
(2) سورة هود - الآية 88
(3) افتتاحيّة العدد الثاني من المجلّة. 20 افريل 2012
(4) عنوان لمقال للمهندس فيصل العش - مجلّة الإصلاح - العدد 63 - 22 أوت 2014
(5) و (6) من البيان التّأسيسي لمنتدى الفارابي للدّراسات والبدائل
(7) من مقال للمهندس فيصل العش، صدر تحت عنوان «شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء» بالعدد  78 من مجلّة الإصلاح - 20 مارس 2015
(8) من المجلاّت والصّحف العربيّة العريقة التي اضطرّت إلى التّحوّل إلى الصّبغة الإلكترونيّة نذكر الصّحف اللبنانيّة «النّهار» و«السّفير» و«اللّواء» ومن الصّحف العالميّة نذكر «إندبندنت» البريطانيّة ومجلّة «نيوزويك» الأمريكيّة.