أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
من هو الله؟ بحث في أسمائه الحسنى (4) «العليم»
 الرحمان
ربما يكون أحبّ أسمائه إليه سبحانه وفاء لسبوحيته ونزاهته عن الشّريك والمثيل فيما يبدو إستقراء ‏من القرآن الكريم ولذلك بدأنا به هذا البحث ثمّ نعالج بقيّة أسمائه سبحانه بحسب تواتر ورودها في الكتاب ‏العزيز أوّلا بأوّل إذ لتواتر الورود معنى يريد سبحانه غرسه فينا في نظم باهر يجمع إليه مباهج المباني لتكون ‏دوحات ظليلة لغزائر المعاني. أكثر أسمائه ورودا من حيث أنّه إسم مفرد غير مضاف بأحد الأسماء الخمسة ‏هو : «العليم» أو «عليم» إذ ترد الأسماء معرفة ونكرة بحسب حاجات السّياق. ولكنّه ورد مرّات كثيرات مركّبا مع ‏الحكمة أو الخبرة من مثل أنّه سبحانه «عليم حكيم» أو «حكيم عليم» أو «عليم خبير» كما ورد مركبا شبه إسنادي في مثل ‏قوله «عليم بذات الصدور» وغير ذلك مما لا يحصى ويفاجأ به كل من أناخ برحله في حدائق الأسماء الإلهية
‎ ‎العليم
ورد بأزيد من خمسين مرّة ومائة (154) وهو صيغة مبالغة على وزن «فعيل» من أصله : عالم. العلم هو ‏الإدراك والمعرفة وعند الإنسان يكون بنوافذ ثلاث معروفة هي : السّمع والبصر والفؤاد. علم الله سبحانه بغير ‏ذلك إذ ليس كمثله شيء فهو سميع بصير والإنسان نفسه سميع بصير «فجعلناه سميعا بصيرا» ولكن شتّان بين ‏الله السّميع البصير بما لا نحصي منه كيفيّة وبين الإنسان المجعول منه هو نفسه سبحانه سميعا بصيرا فهذا ‏مملوك أكرم بالعلم سمعا وبصرا وفؤادا وذاك مالك قدوس سبحانه. 
وردت صيغ من صفة العلم مثل : أعلم في ‏قوله «قل أأنتم أعلم أم الله» وصيغة «عالم» ولكن لم ترد هذه إلّا مضافة في مثل قوله «عالم الغيب والشهادة» ‏كما وردت بصيغة الجمع في مثل قوله «وكنا بكل شيء عالمين» وصيغة المبالغة «علاّم» في قوله «علاّم ‏الغيوب»، أمّا فعلا فقد وردت بما لا يحصى ولكن تواضعنا منذ البداية على ألاّ نعتبر الفعل إسما وألاّ نشتق منه ‏إسما وبذلك وردت صفة العلم له سبحانه في كل صيغها المجردة والمبالغة والإفراد والجمع وجاءت المبالغة ‏بكل تصاريف الإسم : علاّم وعليم وأعلم وبذلك يكون سبحانه مالكا أوحد لإسم العلم دون أيّ أحد فيتفرّد بالعبادة ‏ويخضع له كلّ شيء.
بين العلم والمعرفة
لم ينسب سبحانه إليه المعرفة أبدا لأنّ المعرفة تكون بعد جهل أو غفلة أو نسيان وهو سبحانه منزّه عن كل ‏صفات النّقص. الإنسان يعرف من بعد جهل والعلم أعمق من المعرفة كعلاقة العدّ بالإحصاء، فهذا علم بكلّ ما ‏يحيط بالشّيء علما محيطا دقيقا لا يفلت منه شيء. والعدّ عمل بشري يعالج الأشياء والأمور في صورتها ‏الظّاهرية فحسب. لذلك فلسان العرب يميّز دوما بثرائه الخصيب بين الفعلين والإسمين وهما في حقل واحد. ‏والعلم نفسه درجات، فمن إدراك إلى معرفة وعلم ثمّ إلى يقين وكلّ هذا يجري على الإنسان بحسب أفق واديه ‏وإستيعاب فؤاده، أمّا الله سبحانه فهو عليم بكل شيء دون درجات أو إختلافات.
لماذا كان الله سبحانه عليما؟
سبقت الإجابة عن هذا إذ ورد معنا آنفا أنّ صفة العلم له هي الأكثر ورودا في القرآن الكريم لمّا وقع إستقراء ‏الأسماء كلّها وترتيبها بحسب دلالتها ومن ذلك وقع الإستنباط أنّ صفة العلم له سبحانه يُراد منها إخبار النّاس ‏بيقين ياقن أنّ الله سبحانه يعلم كلّ شيء ولا يغيب عنه أي شيء وأنّه محيط بكلّ شيء فيما يغرس فيهم ملكة ‏الرّقابة وحتّى يشعروا أنّهم محلّ مراقبة دائمة لا تتخلّف طرفة عين واحدة وأنّها رقابة تنفذ إلى ما يجيش في ‏النّفوس من خاطرة لا تعمّر عشر معشار طرفة عين واحدة وأنّ علمه سبحانه ليس محكوما بالزمان والمكان إذ ‏هو سبحانه فوق الزمان وفوق المكان فإذا ترسخت عقيدة العلم الإلهي في الإنسان فإنه من المرقوب أن يدير ‏حياته على أساس أنّه حيثما حلّ وإرتحل محلّ مراقبة لصيقة شديدة نافذة فيستحي أن يعصي وإن عصا إستغفر ‏أو تجنّب كبائر الشرّ على الأقل ليضمن العفو عن السّيئات كما هو وعد سورة النّساء. 
تلك هي الحكمة من تقديم ‏صفة العلم وما يتعلّق بها من سمع وبصر وإحاطة وغير ذلك عن غيرها من أسماء الرّحمة والحكمة والعقاب.
حكمة التركيب بين إسمين
حكمة بالغة تلتقطها كلّما طفت بهذا النّظم الباهر. يرد الإسم أحيانا مفردا كما يرد في أحيان أخرى مركّبا مع إسم ‏آخر أو مضافا سواء بصيغة عادية أو بأحد الأسماء الخمسة المعروفة « ذو فضل ـ ذو العرش إلخ..». العبرة ‏العظمى من ذلك أنّه سبحانه حاز الأسماء الحسنى بكلّ تصاريفها ومعانيها وتراكيبها ومبانيها، فلا يبقي لغيره من ‏ذلك من شيء. كيف لا وهو الذي ليس كمثله شيء سبحانه حتّى لو كان عبده حكيما مثلا أو عليما أو سميعا أو ‏بصيرا؟ ومعنى ذلك هو أنّ مبحث الأسماء الحسنى مقصدها الأسنى هو غرس الإعتقاد الصّحيح والإيمان ‏السّليم في النفوس، فمن عرف ربّه عرف نفسه وعرف رسالته وطابت حياته. والحقيقة أنّ ظاهرة التّركيب في ‏الأسماء الحسنى جديرة بالدّرس ولكنّه يتطلب مشروعا مستقلاّ بذاته ومن يخوضه يجني ما لا يجنيه غيره قطعا ‏مقطوعا.
صفة العلم وإرتباطاتها في جنب الله سبحانه
إرتبطت صفة العلم له سبحانه بأسماء أخرى منها الحكمة فهو «عليم حكيم» أو «حكيم عليم». كما إرتبطت بالخبرة ‏فهو «عليم خبير». وبالسّمع فهو «سميع عليم». أو بالسّعة فهو «واسع عليم». أو بالعزّة فهو «عزيز عليم». أو بالقدرة فهو «‏العليم القدير». أو بالفتح فهو «الفتّاح العليم» . أو بالحلم فهو «عليم حليم». أو بالخلق فهو «الخلاق العليم» .إرتبط إسم ‏العلم «سيما بصيغة المبالغة : عليم» بالحكمة والخبرة والسّمع والسّعة والعزّة والقدرة والفتح والحلم والخلق  ‏وبغير ذلك ممّا لا يحصى هنا وذلك لنعلم أنّه سبحانه مع كلّ إسم جديد هو عليم بصنعته وصفته وإسمه إذ ‏يجتمع علمه المحيط بكلّ ذلك فنوقن أنّ كل شيء منه سبحانه محكم محبك لأنّه بعلم العليم الخبير المحيط وهو ‏ما يجعل الإنسان يطمئن إلى ربّه سبحانه ويعظم في صدره ويقبل على عبادته بإخلاص وحبّ وشغف كمثل ‏إطمئنان إمرئ اليوم إلى صانع باهر شاطر معروف طبقت شهرته الآفاق فهو يقبل عليه لعلمه بخبرته وتعالى ‏الله عن ذلك علوّا كبيرا
‎  ‎أمثلة من علم الله سبحانه
لا شأن لنا ـ كما تواضعنا سلفا ـ بفعل العلم لأنّه لا يحصى ولكن دعنا مع إسم العلم وخاصّة بصيغته المبالغة أي ‏العليم. فهو سبحانه«بكل شيء عليم» و«علام الغيوب» و«عالم غيب السماوات والأرض» و«عليم ‏بالظالمين» و«عليم بذات الصدور» و«يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور» و«يعلم ما تبدون وما كنتم ‏تكتمون» و«عليم بالمتقين» و«أعلم بما تعملون» و«كفى بالله عليما» وغير ذلك ممّا لا يحصى وما يزرع ‏اليقين بأنّ الله سبحانه عليم بكلّ شيء خفي أو جليّ أو ظاهر أو باطن حتّى أخبرنا أنّه في علمه «لطيف» أي ‏لا يعزب عنه شيء مهما كان مخفيا في صخرة أو في السّماوات أو في الأرض سواء دقّ الغائب وجل أو ظهر ‏وبرز وأنّه سبحانه عليم بأعمالنا وأفعالنا وما تضمره صدورنا ويظلّ يكرّ علينا بذلك حتّى يغرس فينا اليقين أنّ ‏رقابته لا تندّ عنا طرفة عين واحدة بل تنفذ إلى أعماق الشّرايين الرّوحية ومن يكون يقينه في هذا راسخا فإنّه ‏لن يعذب بحول الله سبحانه لأنّه تمثل إسما من أسمائه الحسنى أنّه عليم سبحانه.
مشهد من مشاهد الإيمان بإسم العلم ورث صاحبه خيرا
‎ ‎أخبر بذلك الصّادق المصدوق عليه الصّلاة والسّلام أنّ رجلا من بني إسرائيل لمّا حضرته المنيّة جمع بنيه ‏وقال لهم حرّقوني بعد موتي إذ أنّي أوشك أن ألقى ربي وما فعلت خيرا قط وأنّا أخشى عذابه، فلمّا مات وفعلوا ‏به ذلك وأذرت الرّيح ما بقي من رماد جثّته أحياه سبحانه وقال له ما حملك على ما فعلت؟ قال : خشيتك. فأمر ‏ملائكته بسوقه إلى الجنّة ثوابا أنّه علم قبل موته أنّ له ربّا عليما لا يخفى عنه شيء سبحانه وأنّه سيبعثه بعد ‏موته وسائله عن موبقاته. أرأيت كيف أن علمه بإسم العليم سبحانه كفاه شرّ نفسه وشفع فيه من عذاب الله ‏سبحانه؟ هناك حدود لحلم الله ومغفرته وتوبته ورحمته لا يمكن أن تخضع للعقل رغم أنّها في جانب منها ‏معقولة المعنى وما ذلك سوى لأنّ الرّحمان سبحانه كتب رحمته على كلّ شيء إذ يشفع في آخر مخلوق أقام له ‏يوما وزنا في حياته أو عرف مقامه أو خشيه أو خاف عذابه ولكن المتدينين عادّة ومن كلّ الملل والنّحل ما ‏يضيقون بأنفسهم وببعضهم بعضا، فيطوون رحمانيّة الرّحمان سبحانه أن تنال غيرهم وتراهم يتعاملون مع الله ‏سبحانه أنّه صاحب مصرف مالي غني واسع ولكنّه شديد مع زبائنه قليل العفو. 
هي صورة إسرائيلية ذات ريب ‏تسلّلت إلينا لواذا، فأصبح أكثر من يتديّن سيما من بعد إسراف على نفسه كثيرا وطويلا يرى الله قهارا جبارا ‏منتقما بآفاق واسعة وأبعاد أوسع وآماد أقسى ممّا يراه رحمانا رحيما سبقت رحمته غضبه وحلمه مؤاخذته ‏وعفوه عقوبته. لذلك فإنّ العقيدة هي معرفة الله أوّلا وأسماؤه الحسنى المذكورة في الكتاب العزيز هي هويته ‏التي علينا معرفتها وتعلمها وتدبّرها وبناء تخطيط حياتنا على أسّها وليس على أسّ ما ينقل إلينا أو نتوهّم أو ‏يندسّ فينا أو يتسلّل إلينا، إذ من عرفه آمن به وأحبّه وركن إليه وعندما يعصيه يتوب إليه فيتوب عليه وما يكفر ‏به إلا جاهل به قطعا مقطوعا.