تحت المجهر

بقلم
حمزة شرعي
العوامل المفضية إلى ظهور المذاهب الكلامية (2)
 ‏لم ينشأ علم الكلام عند المسلمين دفعة واحدة، ولم تكن نشأته ثمرة أو نتيجة ‏لعامل أو سبب واحد، بل كان نتيجة لعوامل متعدّدة: دينية وسياسية واجتماعية وثقافية، ‏بعضها داخلي وثيق الصلة بالمجتمع الإسلامي نفسه، ذلك أنّ العقل المسلم واجهته أسئلة ‏فكريّة متعدّدة، فرضتها ظروف المجتمع الإسلامي بتجاربه الصّائبة والخاطئة، إذ «يرى ‏الباحثون أنّ أوّل ما اختلفت فيه الآراء، وتضاربت فيه الأنظار - بعد مسألة الإمامة التي تعدّ ‏أم المسائل الخلافيّة - مسألة لها بها ارتباط قوي، وهي حكم عصاة المسلمين، أو مرتكبي ‏الكبائر»‎ [1]‎‏، فبعد أن وضعت الحرب أوزارها في أعقاب الفتنة الكبرى التي وقعت بين علي ‏ومعاوية - رضي الله عنهما -، تحوّل الصّراع المسلّح إلى صراع فكريّ وسياسيّ انقسم ‏المسلمون بسببه إلى فرق وأحزاب يكفّر بعضها الآخر، ثم مسألة الخلاف حول بعض ‏النّصوص الدّينيّة، وكانت قضيّة ما عرف بالمحكم والمتشابه من أوائل القضايا إثارة، ممّا أدّى إلى اختلاف ‏وجهات النّظر في تفسير العقائد، والخوض في مشكلات عقائدية نظريّة لم يعرفها الرّعيل ‏الأول من المسلمين.‏ ويعود بعضها اللآخر إلى عوامل وافدة من الخارج، وذلك مثل التقاء الإسلام بحضارات ‏وديانات الأمم المفتوحة، ومثل حركة التّرجمة التي أفضت إلى تسرّب الفلسفة اليونانيّة بكلّ ‏ما تحمله من تصوّرات وأفكار إلى الجماعة الإسلاميّة.‏
وسأحاول أن أقف متناولا كلّ عامل من هذه العوامل الأربعة، وهي وقفة لن تكون ‏طويلة - مع شدّة الحاجة إلى هذا الوقوف الطّويل - ، لأنّ مثل هذه الخطوة تحتاج إلى عمل ‏مستقلّ.‏
‏(1) اختلاف قراءة النّص المقدّس
لقد كانت طبيعة النّص القرآني أو النّبوي سببا في ظهور علم الكلام لاحتماله أوجها متعدّدة ‏في تفسيره أو تأويله أو فهمه، ممّا أتاح لأهل النّظر أن يأخذ كلّ منهم بما ينتهي إليه نظره في ‏هذا النّص.‏ ذلك أنّ الإختلاف في النّظر خصيصة أصيلة من خصائص الطّبيعة البشريّة، وهذا الاختلاف ‏يعكس مدى قدرة العقول على توليد الآراء والتّعبير عنها من خلال وجهات نظر مختلفة، ‏وتلك مرحلة جيّدة من النّضج نحتاج أن نصل إليها، ومن الخطأ محاولة جمع جميع المياه ‏المتدفّقة في جداول مختلفة في جدول واحد، ذلك أنّ الله تعالى خلق النّاس بمشارب ‏مختلفة وأذواق مختلفة، وبالتّالي فمن البديهي أن لا يجمعوا على فهم واحد لتفاصيل ‏التّعاليم الإسلاميّة في أصول الدّين أو فروعه.‏ «فطبيعة البشر من ناحية، وطبيعة اللّغة التي نزلت، ودوّنت بها مصادر التّعاليم الدّينية ‏نفسها، أعني القرآن الكريم والسّنة النّبوية الشّريفة من ناحية ثانية، وكيفيّة تناقل ووصول ‏تلك النّصوص للأجيال اللاّحقة من علماء الإسلام من ناحية ثالثة، وطبيعة الحياة ‏الاجتماعيّة والسّياسيّة والتّوزع الجغرافي والخلفيّات الثّقافيّة في كلّ مجتمع من المجتمعات ‏التي انتشر فيها الإسلام من ناحية رابعة، كلّها تؤدّي - بالضّرورة - لآراء مختلفة ومشارب ‏متنوّعة في استنباط تفاصيل الدّين والفروع الجزئيّة فيه»‎ [2]‎إذ هناك ما يمكن أن نسمّيه بالقراءة الجامدة والسّطحيّة للنّصوص، والتّوقف عند ظواهرها ‏دون الغوص فيها وحملها على معاني أخرى تحتملها، وهناك في المقابل قراءة تتعدّى حرفيّة ‏النّصوص إلى مقاصدها، وهي قراءة تمتلك قدرة أكبر على استشراف ما هو أعمق من الظّاهر، ‏ولابدّ أن ينعكس ذلك - بشكل أو بآخر – على طريقة فهمهم للدّين أصولا وفروعا.‏
‏ومن هذه النصوص «ما يوحي بالتشبيه والتجسيم، مثل الآيات التي ورد فيها ذكر اليد ‏والوجه والاستواء على العرش، ولكن إلى جانب هذه الآيات توجد آيات التنزيه المطلق، ‏مثل قوله تعالى: «ليس كمثله شيء»، وهي الواجبة الاعتقاد، فكان بعض المسلمين يسلم ‏بآيات الصفات كما وردت، دون تأويل، والبعض الآخر يتأولها لتصبح متمشية مع ما يعتقده ‏من التنزيه، ووقع بعض المسلمين في التشبيه والتجسيم، وهذا كله مما أدى إلى ظهور علم ‏الكلام الباحث في مثل هذه العقائد»‎ [3]‎‏.‏
‏     (2) توظيف الدّيني في السّياسي
لعلّ أحداث الفتنة الكبرى هي الممهّد الرّئيسي لصراعات فكريّة - سياسيّة ودينيّة - أفرزت ‏فرقا وتيّارات سياسيّة تبنّت في البداية مواقف سياسيّة تجاه نظام الخلافة والحكم، لكن ‏سرعان ما تحوّلت هذه المواقف إلى طروحات نظريّة، لتليها إشكالات أخرى دار حولها ‏الجدال وأهمّها مسألة ارتكاب الذّنوب، وتعدّدت الآراء حول مصير المسلم المذنب، فكان ‏من ذلك الخوارج، والإباضيّة، والمعتزلة، وغيرهم، فكان من الطّبيعي «أن تلجأ كلّ فرقة ‏للقرآن الكريم تأخذ ما تؤيّد به ما ذهبت إليه، وكثيرا ما كانت تتكلّف وتتعسّف، وكان طبيعيّا ‏أن يؤثّر ذلك، وأن تنتقل عدواه إلى كتب التّفسير. وهذا الذي كان، وإذ بهذه الكتب كأنّما هي ساحات ‏واسعة ورحاب فسيحة تحتدم فيها المعارك الجدليّة والآراء المختلفة»‎ [4]‎‏وبالتّالي فإنّ علم الكلام الذي نشأ أوّل ما نشأ للدّفاع عن العقيدة ودفع الشّك عن الدّين ‏وحمايته، بأساليب جديدة دخل فيها النّظر العقلي والكلام المنطقي، والمناظرة والجدل،  ‏نجده قد تحوّل إلى أداة تستخدمه الفرق والطّوائف والتّيارات للدّفاع عن آرائها واتجاهاتها، ‏وبعد أن كانت أدلّته عقليّة في خدمة عقائد القرآن وآياته أصبح القرآن وآياته أداة في يد تلك ‏التيارات والفرق والطوائف تطوّعه لنصرة مذهبها واتجاهاتها، الأمر الذي جعل طوائف غير ‏قليلة من العلماء ولا سيما أهل الحديث والفقه ترفضه وتشكّك في جدواه.‏
وباسم الاجتهاد في فهم النّصوص، صارت كلّ فرقة تلجأ إلى النّصوص الدّينية فتُؤوّلها تأويلا ‏خاصّا من أجل أن تؤيّد بها موقفها التي ذهبت إليه، فأضحى وقتئذ كلّ حزب سياسي فرقة ‏دينيّة تدين بمعتقد.‏
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ لفرقة المعتزلة أثرا كبيرا في نشأة علم الكلام، وفي ذلك يقول طاش ‏كبرى زادة: «فاعلم أنّ مبدأ شيوع الكلام كان بأيدي المعتزلة والقدريّة، في حدود المائة من ‏الهجرة»‎ [5]‎‏، وكانت نشأتها نشأة فكريّة خالصة، نتيجة الإختلاف في قضيّة عقديّة تتعلّق ‏بالآخرة لا بالدّنيا  - مرتكب الكبيرة ومصيره-، وهي بذلك تختلف في نشأتها عن نشأة مذهبي ‏الشّيعة والخوارج اللّذين ارتبطت نشأتهما ارتباطا وثيقا بمسألة سياسيّة كبرى عند المسلمين ‏وهي مسألة الإمامة، ولكن المعتزلة لم تلبث أن غرقت في أتون السّياسة فلم تخرج منها.‏«ولعلّ هذا الاختلاف، بين النشأتين، يقودنا إلى الوقوف على حقيقة مهمّة هي أنّه على مدار ‏التّاريخ الإسلامي كان هناك ارتباط وثيق، يصل إلى درجة التّلازم، بين الفكر المستمدّ من ‏الإسلام وبين العمل السّياسي الفعلي، وهذا التّلازم حقيقة تاريخيّة وواقعيّة لا ينكرها إلاّ ‏مكابر؛ فأصحاب الرّأي السّياسي احتاجوا إلى الفكر والفقه لتثبيت أقدامهم في منظومة ‏الحياة الفكريّة الإسلاميّة، وأصحاب الفكر المحض لم يلبثوا أن دخلوا الحياة السّياسية من ‏أوسع أبوابها، وتحوّلت معاركهم من معارك سلاحها العقل واللّسان إلى معارك يتسلّحون ‏فيها أحيانا بنفوذ السّلطان وقهر السّجان؛ وقد ترتّب على ذلك من المظالم والمفاسد ما نال ‏ضرره الأمّة الإسلاميّة كلّها، وهو ضرر تتجدّد آثاره كلّما وقع الاستقواء الفكري بالسّياسة، أو ‏القهر السّياسي متدثّرا برداء من الفكر»‎ [6]‎‏. ‏
وهكذا يظهر جليّا أنّ الخلافات السّياسيّة التي حصلت في صدر الإسلام، قد ارتبطت بما هو ‏ديني محض، فترتّب عليها تشرذم الأمّة الإسلاميّة وانقسامها إلى فرق ومذاهب متباينة ‏خائضة في مجال البحث العقدي بشكل جدلي خلافي، فكان من ذلك أن نشأ علم الكلام عند ‏المسلمين.‏
‏         (3) اصطدام الإسلام بديانات وحضارات أخرى
إنّه ممّا أعان على تطوّر علم الكلام بتدعيم مناهجه وتعميق مباحثه احتكاكه بالأديان ‏السّماويّة والملل والنّحل المخالفة للإسلام.‏ فلا غرو أنّ علم الكلام نشأ نشأة إسلاميّة أصيلة نتيجة عوامل إسلاميّة من داخل الجسم ‏الإسلامي نفسه، «غير أنّه يمكن القول بأنّ هناك مؤثّرات أجنبيّة أعانت على تطوّر علم ‏الكلام، بتوسيع مباحثه وتعميقها، فأضيف إليه موضوعات جديدة نتيجة احتكاكه بهذه ‏المؤثّرات الأجنبيّة وصقلت مناهجه وتدعّمت»‎ [7]‎‏.‏ إذ وقت التقاء الإسلام بديانات وحضارات الأمم المفتوحة، عاش المسلمون مع ‏هؤلاء المخالفين، واحتكّوا بهم داخل الحياة العامّة، فحدث نوع من التّأثير المتبادل بين ‏أصحاب الدّين الفاتح والبيئة المفتوحة، نشأ عنه اتساع نطاق علم الكلام، ومن هنا اختلط ‏بعلم الكلام مباحث أخرى تتعلّق بالمشكلات التي أثارها المخالفون، وكان عليه التّصدي لها ‏بمناقشتها وبيان تهافتها، كما استعان المتكلّمون في عملية الدّفاع عن الإسلام والتّصدي والرّد ‏على شبهات المخالفين بمنهاجهم، ذلك أن خير وسيلة لدفع الخصوم، هو أن يكون هذا ‏الدّفع بوسائل الخصوم التي ألفوها، طالما أنّها وسائل لا غايات، فهي مشروعة.‏ فالمسلمون قد احتكّوا بأهل الدّيانات السّماويّة من يهود ونصارى «وكان هؤلاء أصحاب ‏علم وفلسفة، ولهم عناية بالجدل في العقائد، فلعلّه قد ترتّب عن هذا الاحتكاك أن وجد ‏لدى المسلمين حبّ الجدل والنّقاش في مسائل العقائد الإسلاميّة على نحو ما ارتأوه عند ‏المسيحين واليهود»‎ [8]‎‏.‏
هذا، وقد قامت صراعات بين الثّقافة الإسلاميّة المستلهمة في أكثرها من نصوص الكتاب ‏والسّنة، وبين عقائد وثقافات الدّيانات والحضارات الأخرى، لما بين هذه وتلك من ‏اختلافات جليّة ساعدت على قيام علم الكلام من جهة، وإيقاد شرارة الفرقة بين علماء ‏الكلام من جهة ثانية، ذلك أنّ «هذه التّيارات الثّقافية المتباينة، لم تكن كلّها موضع إنكار أو ‏استنكار من مختلف علماء الكلام، لأنّ هذه التّيارات الثّقافيّة قد أصابت قدرا من الحقيقة ‏‏(من وجهة نظر بعض المتكلمين على الأقل)، وهي في هذا القدر وافقت الدّين الإسلامي ‏ووافقها، ولهذا فإنّ موقف علماء الكلام من مثل هذه التّيارات الثّقافيّة لم يكن التّأكيد ‏المطلق، كما لم يكن أيضا الرّفض المطلق..»‎ [9]‎‏.‏
فبعد أن دخلت في الإسلام نحل وملل ذات ديانات وحضارات مخصوصة، لم يقدر ‏أصحابها على التّخلص كلّيا من لوثة ما دانوا به قبل الفتح الإسلامي، ولم يستطيعوا إقامة ‏قطيعة مع العادات الموروثة والدّخول في الدّين الجديد الذي لم يألفوه، وكانوا يحنّون لما ‏كان عليه الحال قبل الثّورة الإسلاميّة التي عصفت بكلّ باطل قد ألفوه، فحصل لهم ضرب ‏من الحقد ‏على زوال ماكان لهم من مجد الأسلاف، فجعلوا رأس مالهم الظّنون والشّكوك، والشّبهات ‏والمعاندات، تعلّقوا بها مقابل حقائق الشّرع والعقل والعلم المتجلّية في آيات الآفاق ‏والأنفس والأكوان، فسعوا إلى نشرها كيدا للإسلام.‏«فكان لابد أن تنهض طائفة من علماء المسلمين من ذوي الخبرة بالمنطق وبراهينه للرّد ‏عليهم، وهذا ما فعله المعتزلة من المتكلّمين، الذين كانت بينهم وبين المجوس مجادلات ‏معروفة، فأدّى هذا كله إلى إرساء قواعد علم الكلام، كما أظهر وجه الحاجة إليه عند ‏المسلمين بوضوح»‎ [10]‎‏.‏
‏       (4) حركة الترجمة
لقد كان للاتصال بالفلسفة اليونانيّة، بعد ترجمة كتبها إلى اللّغة العربيّة بإيعاز من بعض ‏خلفاء بني العباس أثر كبير في نشأة علم الكلام، إذ اطلع علماء الكلام على المنطق ‏اليوناني والفلسفة اليونانيّة إثر نقلها إلى العربيّة، وكان من نتائج ذلك توسيع مباحث علم ‏الكلام، وتحديد مسائله، وتدعيم منهجه.‏
يقول الإمام السّيوطي وهو يتحدّث عن الكلام والمنطق والفلسفة: «علوم الأوائل دخلت إلى ‏المسلمين في القرن الأول، لمّا فتحوا بلاد الأعاجم، ولكنّها لم تكثر فيهم، ولم تشتهر بينهم ‏لما كان السّلف يمنعون من الخوض فيها، ثم اشتهرت في زمن البرمكي، ثم قوي انتشارها في ‏زمن المأمون، لمّا أثاره من البدع وحثّ عليه من الاشتغال بعلوم الأوائل وإخماد السّنة»‎ [11]‎‏ فقد دخلت الفلسفة إلى العالم الإسلامي عن طريق التّرجمة في عهد الخليفة المأمون ‏العباسي، الذي أمر بنقل كتب الفلسفة اليونانيّة إلى اللّغة العربيّة، ولا يهمّنا هنا غرض ‏الخليفة المأمون من هذا النّقل، وهل هو شغف معرفي؟ أم هدف أيديولوجي من أجل ‏مواجهة الفرق والمذاهب المناوئة له في الحكم والفكر؟.‏
فقد حاول الفلاسفة التّوفيق بين الآراء الفلسفيّة ومسائل الدّين، ذلك أنّ الحديث عن ‏الفلسفة الإسلاميّة هو حديث عن إشكاليّة فحواها أنّ الفلسفة بوتقة للأفكار الوضعيّة وهي ‏كلمة ارتبطت تاريخيّا بالآراء النّسبيّة والآراء التي قد تصيب وقد تخطئ، بينما الدّين الإسلامي ‏يعرض حقائق كلّية سالمة من النّقص والتّناقض، باعتبار أنّ الدّين مصدره الوحي لا العقول ‏البشريّة، ممّا يجعل ثوابت وقطعيّات الدّين الإسلامي «حقائق مطلقة» لمن آمن واستنار قلبه ‏وعقله، وهو الأمر الذي دفع المسلمين إلى إيجاد توافق بين الفلسفة المستلهمة من الثّقافة ‏اليونانيّة، والشّريعة الإسلاميّة التي شكّلت الثّابت الأساسي للثّقافة العربيّة.‏
ثم إنّ دخول الفلسفة اليونانيّة إلى الفكر الإسلامي قد قوبل بانتقادات شديدة ولاذعة من ‏الفقهاء المسلمين، الذين فسّقوا وبدّعوا كلّ من تعاطى الفلسفة، أو حتّى قرأ كتبها، ولم ‏يقتصر هجومهم على الفلسفة فحسب، وإنّما امتدّ أيضا إلى علم الكلام ذي الطابع العقلي، ‏حتّى قيل «من تمنطق فقد تزندق».‏إذ انصرفت جهود المتكلّمين لممارسة مناهج تعتمّد بدرجة أكبر على العقل، ذلك أنّ التّطور ‏الذي حصل في المجتمع الإسلامي، أفضى إلى الاعتماد على العقل بدرجات متزايدة، ولا سيّما عند دخول الجدل في مجال الاشتغال العقدي ونشوء الفرق الكلاميّة المختلفة، ثمّ دخول ‏مصادر فارسيّة وهنديّة ويونانيّة بعد انتشار التّرجمة.‏
فقد تناول المتكلّمون ما نقل إليهم من التّراث اليوناني بالدّراسة وصبغوه بالصّبغة الإسلاميّة، ‏وأوكل المعتزلة إلى أنفسهم مهمّة المزج بين مناهج البحث العقدي الإسلامي ومناهج ‏الفلسفة اليونانيّة وفي ذلك يقول الشهرستاني: «ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب ‏الفلاسفة حين فسّرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنّا من فنون ‏العلم، وسمتها باسم الكلام»‎ [12]‎‏.‏
و«لا يقدح في أصالة علم الكلام الإسلاميّة احتواؤه على بعض أساليب الخصوم، أو اشتماله ‏على بعض مباحث الفلسفة وطرائقها، ذلك لأنّ هذا كلّه كان لغاية دينيّة وهي الدّفاع عن ‏الدّين وتوكيد أصوله، كما لا يقدح أيضا في كونه علما دينيّا، من جملة العلوم الشّرعيّة ‏الدّينيّة»‎ [13]‎‏.‏
فمعظم المذاهب الكلامية اعتبرت المنطق أداة ومعيار في قراءة وتحليل القضايا المعرفيّة، ‏في حين اعتبر الفقهاء والمحدثون الكتاب والسّنة، والإجماع والقياس، أساس النّقل والعقل، ‏وأطلق على المدارس الكلاميّة والفلسفيّة مسمّى المدرسة العقليّة، كما أطلق على مدارس ‏الفقه والحديث مسمّى المدرسة النّقليّة.‏
وتظهر هنا مشكلة حقيقيّة متعلّقة بمسألة التّمايز بين العقل والنّقل، فإنّ الملاحظ أنّ ‏معظم علماء المسلمين كانوا يعتمدون على العقل، وأنّ ما دار من خلاف بين العقل والنّقل، ‏لم يكن ليجعل من العالم معتمدا على النّقل فحسب، أو على العقل فحسب، بل إنّ فكرة ‏تقديم العقل على النّقل أو العكس هي فكرة زائفة، لأنّ النّقل والعقل عنصران أساسيّان في ‏النّظام المعرفي الإسلامي، فالنّقل مصدر يستمدّ منه الجميع، والعقل أداة الاستمداد يمارسها ‏الجميع، والفرق بينهما ليس في الرّتبة وإنّما في الوظيفة. ومهما كان المعيار الذي يعتمد عليه ‏في تصنيف المذاهب أو التّيارات الفكريّة في التّراث الإسلامي، فإنّ العقل والنّقل حاضران ‏وبقوّة. وهذا لا يمنع القول بأنّ حضور أحدهما عند عالم من العلماء كان أكثر من حضوره ‏عند الآخر. «لكن من غير الممكن أن يكون العقل غائبا حتّى في عمليّة النّقل والاتباع، لأنّ ‏اختيار النّقل والاتباع هو في الأساس اختيار عقلي، فالغزالي مثلا وهو يركّز على ما يسمّيه ‏العلوم الدّينية يقرّر أنّ إدراكها يحتاج إلى كمال العقل، فهو يقول: وليس يخفى أنّ العلوم ‏الدّينية، وهي «فقه طريق الآخرة» إنّما تدرك بكمال العقل وصفاء الذّكاء»‎ [14]‎‏.‏
الهوامش
‎ [1]‎‏ د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 16.‏
[2]‎‏  سعد رستم، الفرق والمذاهب الإسلامية منذ البدايات النشأة . التاريخ . العقيدة . التوزع الجغرافي، ص: 74، ‏الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2004م.‏
[3]‎‏  د. أبو الوفا الغنيمي التفتزاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، (مرجع سابق)، ص: 9.‏
[4]‎‏ عباس فضل حسن، التفسير أساسياته واتجاهاته، ص: 536، مكتبة دنديس، الأردن، الطبعة الأولى، ‏‏2005م.‏
[5]‎‏ طاش كبرى زاده، مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، ج: 2، ص: 148، دار المعرفة، ‏بيروت، الطبعة الأولى، 1985م.‏
[6]‎‏  محمد سليم العوا، المدارس الفكرية الإسلامية من الخوارج إلى الإخوان المسلمين، ص: 198، الشبكة العربية ‏للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2016م.‏
[7]‎‏  د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 111.‏
[8]‎‏  د. أبو الوفا الغنيمي التفتزاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، (مرجع سابق)، ص: 19.‏
[9]‎‏  د. فيصل بدير عون، علم الكلام ومدارسه، (مرجع سابق)، ص: 19.‏
[10]‎‏   د. أبو الوفا الغنيمي التفتزاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، (مرجع سابق)، ص: 23.‏
[11]‎‏   جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي، صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، تحقيق: علي ‏سامي النشار وسعاد علي عبد الرزاق، ص: 45،44، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، سلسلة إحياء التراث ‏الإسلامي، القاهرة، ط2، 1970م.‏
[12]‎‏ أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، بهامش الفصل، ج: 1، ص: 33،32، طبع ‏المطبعة الأدبية، سوق الخضار القديم، مصر، ط1، 1317هـ.‏
[13] محمد صالح محمد السيد، كتاب أصالة علم الكلام، مرجع سابق، ص: 112.
[14]‎‏  فتحي حسن ملكاوي، التراث التربوي الإسلامي: حالة البحث فيه، ولمحات من تطوره، وقطوف من نصوصه ‏ومدارسه، ص: 394، والكتاب هو الأول من ثلاثة كتب لدراسة التراث، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن، ‏فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الأولى 1439هـ / 2018م.‏