تحت المجهر
بقلم |
حمزة شرعي |
العوامل المفضية إلى ظهور المذاهب الكلامية (2) |
لم ينشأ علم الكلام عند المسلمين دفعة واحدة، ولم تكن نشأته ثمرة أو نتيجة لعامل أو سبب واحد، بل كان نتيجة لعوامل متعدّدة: دينية وسياسية واجتماعية وثقافية، بعضها داخلي وثيق الصلة بالمجتمع الإسلامي نفسه، ذلك أنّ العقل المسلم واجهته أسئلة فكريّة متعدّدة، فرضتها ظروف المجتمع الإسلامي بتجاربه الصّائبة والخاطئة، إذ «يرى الباحثون أنّ أوّل ما اختلفت فيه الآراء، وتضاربت فيه الأنظار - بعد مسألة الإمامة التي تعدّ أم المسائل الخلافيّة - مسألة لها بها ارتباط قوي، وهي حكم عصاة المسلمين، أو مرتكبي الكبائر» [1]، فبعد أن وضعت الحرب أوزارها في أعقاب الفتنة الكبرى التي وقعت بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما -، تحوّل الصّراع المسلّح إلى صراع فكريّ وسياسيّ انقسم المسلمون بسببه إلى فرق وأحزاب يكفّر بعضها الآخر، ثم مسألة الخلاف حول بعض النّصوص الدّينيّة، وكانت قضيّة ما عرف بالمحكم والمتشابه من أوائل القضايا إثارة، ممّا أدّى إلى اختلاف وجهات النّظر في تفسير العقائد، والخوض في مشكلات عقائدية نظريّة لم يعرفها الرّعيل الأول من المسلمين. ويعود بعضها اللآخر إلى عوامل وافدة من الخارج، وذلك مثل التقاء الإسلام بحضارات وديانات الأمم المفتوحة، ومثل حركة التّرجمة التي أفضت إلى تسرّب الفلسفة اليونانيّة بكلّ ما تحمله من تصوّرات وأفكار إلى الجماعة الإسلاميّة.
وسأحاول أن أقف متناولا كلّ عامل من هذه العوامل الأربعة، وهي وقفة لن تكون طويلة - مع شدّة الحاجة إلى هذا الوقوف الطّويل - ، لأنّ مثل هذه الخطوة تحتاج إلى عمل مستقلّ.
(1) اختلاف قراءة النّص المقدّس
لقد كانت طبيعة النّص القرآني أو النّبوي سببا في ظهور علم الكلام لاحتماله أوجها متعدّدة في تفسيره أو تأويله أو فهمه، ممّا أتاح لأهل النّظر أن يأخذ كلّ منهم بما ينتهي إليه نظره في هذا النّص. ذلك أنّ الإختلاف في النّظر خصيصة أصيلة من خصائص الطّبيعة البشريّة، وهذا الاختلاف يعكس مدى قدرة العقول على توليد الآراء والتّعبير عنها من خلال وجهات نظر مختلفة، وتلك مرحلة جيّدة من النّضج نحتاج أن نصل إليها، ومن الخطأ محاولة جمع جميع المياه المتدفّقة في جداول مختلفة في جدول واحد، ذلك أنّ الله تعالى خلق النّاس بمشارب مختلفة وأذواق مختلفة، وبالتّالي فمن البديهي أن لا يجمعوا على فهم واحد لتفاصيل التّعاليم الإسلاميّة في أصول الدّين أو فروعه. «فطبيعة البشر من ناحية، وطبيعة اللّغة التي نزلت، ودوّنت بها مصادر التّعاليم الدّينية نفسها، أعني القرآن الكريم والسّنة النّبوية الشّريفة من ناحية ثانية، وكيفيّة تناقل ووصول تلك النّصوص للأجيال اللاّحقة من علماء الإسلام من ناحية ثالثة، وطبيعة الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة والتّوزع الجغرافي والخلفيّات الثّقافيّة في كلّ مجتمع من المجتمعات التي انتشر فيها الإسلام من ناحية رابعة، كلّها تؤدّي - بالضّرورة - لآراء مختلفة ومشارب متنوّعة في استنباط تفاصيل الدّين والفروع الجزئيّة فيه» [2]إذ هناك ما يمكن أن نسمّيه بالقراءة الجامدة والسّطحيّة للنّصوص، والتّوقف عند ظواهرها دون الغوص فيها وحملها على معاني أخرى تحتملها، وهناك في المقابل قراءة تتعدّى حرفيّة النّصوص إلى مقاصدها، وهي قراءة تمتلك قدرة أكبر على استشراف ما هو أعمق من الظّاهر، ولابدّ أن ينعكس ذلك - بشكل أو بآخر – على طريقة فهمهم للدّين أصولا وفروعا.
ومن هذه النصوص «ما يوحي بالتشبيه والتجسيم، مثل الآيات التي ورد فيها ذكر اليد والوجه والاستواء على العرش، ولكن إلى جانب هذه الآيات توجد آيات التنزيه المطلق، مثل قوله تعالى: «ليس كمثله شيء»، وهي الواجبة الاعتقاد، فكان بعض المسلمين يسلم بآيات الصفات كما وردت، دون تأويل، والبعض الآخر يتأولها لتصبح متمشية مع ما يعتقده من التنزيه، ووقع بعض المسلمين في التشبيه والتجسيم، وهذا كله مما أدى إلى ظهور علم الكلام الباحث في مثل هذه العقائد» [3].
(2) توظيف الدّيني في السّياسي
لعلّ أحداث الفتنة الكبرى هي الممهّد الرّئيسي لصراعات فكريّة - سياسيّة ودينيّة - أفرزت فرقا وتيّارات سياسيّة تبنّت في البداية مواقف سياسيّة تجاه نظام الخلافة والحكم، لكن سرعان ما تحوّلت هذه المواقف إلى طروحات نظريّة، لتليها إشكالات أخرى دار حولها الجدال وأهمّها مسألة ارتكاب الذّنوب، وتعدّدت الآراء حول مصير المسلم المذنب، فكان من ذلك الخوارج، والإباضيّة، والمعتزلة، وغيرهم، فكان من الطّبيعي «أن تلجأ كلّ فرقة للقرآن الكريم تأخذ ما تؤيّد به ما ذهبت إليه، وكثيرا ما كانت تتكلّف وتتعسّف، وكان طبيعيّا أن يؤثّر ذلك، وأن تنتقل عدواه إلى كتب التّفسير. وهذا الذي كان، وإذ بهذه الكتب كأنّما هي ساحات واسعة ورحاب فسيحة تحتدم فيها المعارك الجدليّة والآراء المختلفة» [4]وبالتّالي فإنّ علم الكلام الذي نشأ أوّل ما نشأ للدّفاع عن العقيدة ودفع الشّك عن الدّين وحمايته، بأساليب جديدة دخل فيها النّظر العقلي والكلام المنطقي، والمناظرة والجدل، نجده قد تحوّل إلى أداة تستخدمه الفرق والطّوائف والتّيارات للدّفاع عن آرائها واتجاهاتها، وبعد أن كانت أدلّته عقليّة في خدمة عقائد القرآن وآياته أصبح القرآن وآياته أداة في يد تلك التيارات والفرق والطوائف تطوّعه لنصرة مذهبها واتجاهاتها، الأمر الذي جعل طوائف غير قليلة من العلماء ولا سيما أهل الحديث والفقه ترفضه وتشكّك في جدواه.
وباسم الاجتهاد في فهم النّصوص، صارت كلّ فرقة تلجأ إلى النّصوص الدّينية فتُؤوّلها تأويلا خاصّا من أجل أن تؤيّد بها موقفها التي ذهبت إليه، فأضحى وقتئذ كلّ حزب سياسي فرقة دينيّة تدين بمعتقد.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ لفرقة المعتزلة أثرا كبيرا في نشأة علم الكلام، وفي ذلك يقول طاش كبرى زادة: «فاعلم أنّ مبدأ شيوع الكلام كان بأيدي المعتزلة والقدريّة، في حدود المائة من الهجرة» [5]، وكانت نشأتها نشأة فكريّة خالصة، نتيجة الإختلاف في قضيّة عقديّة تتعلّق بالآخرة لا بالدّنيا - مرتكب الكبيرة ومصيره-، وهي بذلك تختلف في نشأتها عن نشأة مذهبي الشّيعة والخوارج اللّذين ارتبطت نشأتهما ارتباطا وثيقا بمسألة سياسيّة كبرى عند المسلمين وهي مسألة الإمامة، ولكن المعتزلة لم تلبث أن غرقت في أتون السّياسة فلم تخرج منها.«ولعلّ هذا الاختلاف، بين النشأتين، يقودنا إلى الوقوف على حقيقة مهمّة هي أنّه على مدار التّاريخ الإسلامي كان هناك ارتباط وثيق، يصل إلى درجة التّلازم، بين الفكر المستمدّ من الإسلام وبين العمل السّياسي الفعلي، وهذا التّلازم حقيقة تاريخيّة وواقعيّة لا ينكرها إلاّ مكابر؛ فأصحاب الرّأي السّياسي احتاجوا إلى الفكر والفقه لتثبيت أقدامهم في منظومة الحياة الفكريّة الإسلاميّة، وأصحاب الفكر المحض لم يلبثوا أن دخلوا الحياة السّياسية من أوسع أبوابها، وتحوّلت معاركهم من معارك سلاحها العقل واللّسان إلى معارك يتسلّحون فيها أحيانا بنفوذ السّلطان وقهر السّجان؛ وقد ترتّب على ذلك من المظالم والمفاسد ما نال ضرره الأمّة الإسلاميّة كلّها، وهو ضرر تتجدّد آثاره كلّما وقع الاستقواء الفكري بالسّياسة، أو القهر السّياسي متدثّرا برداء من الفكر» [6].
وهكذا يظهر جليّا أنّ الخلافات السّياسيّة التي حصلت في صدر الإسلام، قد ارتبطت بما هو ديني محض، فترتّب عليها تشرذم الأمّة الإسلاميّة وانقسامها إلى فرق ومذاهب متباينة خائضة في مجال البحث العقدي بشكل جدلي خلافي، فكان من ذلك أن نشأ علم الكلام عند المسلمين.
(3) اصطدام الإسلام بديانات وحضارات أخرى
إنّه ممّا أعان على تطوّر علم الكلام بتدعيم مناهجه وتعميق مباحثه احتكاكه بالأديان السّماويّة والملل والنّحل المخالفة للإسلام. فلا غرو أنّ علم الكلام نشأ نشأة إسلاميّة أصيلة نتيجة عوامل إسلاميّة من داخل الجسم الإسلامي نفسه، «غير أنّه يمكن القول بأنّ هناك مؤثّرات أجنبيّة أعانت على تطوّر علم الكلام، بتوسيع مباحثه وتعميقها، فأضيف إليه موضوعات جديدة نتيجة احتكاكه بهذه المؤثّرات الأجنبيّة وصقلت مناهجه وتدعّمت» [7]. إذ وقت التقاء الإسلام بديانات وحضارات الأمم المفتوحة، عاش المسلمون مع هؤلاء المخالفين، واحتكّوا بهم داخل الحياة العامّة، فحدث نوع من التّأثير المتبادل بين أصحاب الدّين الفاتح والبيئة المفتوحة، نشأ عنه اتساع نطاق علم الكلام، ومن هنا اختلط بعلم الكلام مباحث أخرى تتعلّق بالمشكلات التي أثارها المخالفون، وكان عليه التّصدي لها بمناقشتها وبيان تهافتها، كما استعان المتكلّمون في عملية الدّفاع عن الإسلام والتّصدي والرّد على شبهات المخالفين بمنهاجهم، ذلك أن خير وسيلة لدفع الخصوم، هو أن يكون هذا الدّفع بوسائل الخصوم التي ألفوها، طالما أنّها وسائل لا غايات، فهي مشروعة. فالمسلمون قد احتكّوا بأهل الدّيانات السّماويّة من يهود ونصارى «وكان هؤلاء أصحاب علم وفلسفة، ولهم عناية بالجدل في العقائد، فلعلّه قد ترتّب عن هذا الاحتكاك أن وجد لدى المسلمين حبّ الجدل والنّقاش في مسائل العقائد الإسلاميّة على نحو ما ارتأوه عند المسيحين واليهود» [8].
هذا، وقد قامت صراعات بين الثّقافة الإسلاميّة المستلهمة في أكثرها من نصوص الكتاب والسّنة، وبين عقائد وثقافات الدّيانات والحضارات الأخرى، لما بين هذه وتلك من اختلافات جليّة ساعدت على قيام علم الكلام من جهة، وإيقاد شرارة الفرقة بين علماء الكلام من جهة ثانية، ذلك أنّ «هذه التّيارات الثّقافية المتباينة، لم تكن كلّها موضع إنكار أو استنكار من مختلف علماء الكلام، لأنّ هذه التّيارات الثّقافيّة قد أصابت قدرا من الحقيقة (من وجهة نظر بعض المتكلمين على الأقل)، وهي في هذا القدر وافقت الدّين الإسلامي ووافقها، ولهذا فإنّ موقف علماء الكلام من مثل هذه التّيارات الثّقافيّة لم يكن التّأكيد المطلق، كما لم يكن أيضا الرّفض المطلق..» [9].
فبعد أن دخلت في الإسلام نحل وملل ذات ديانات وحضارات مخصوصة، لم يقدر أصحابها على التّخلص كلّيا من لوثة ما دانوا به قبل الفتح الإسلامي، ولم يستطيعوا إقامة قطيعة مع العادات الموروثة والدّخول في الدّين الجديد الذي لم يألفوه، وكانوا يحنّون لما كان عليه الحال قبل الثّورة الإسلاميّة التي عصفت بكلّ باطل قد ألفوه، فحصل لهم ضرب من الحقد على زوال ماكان لهم من مجد الأسلاف، فجعلوا رأس مالهم الظّنون والشّكوك، والشّبهات والمعاندات، تعلّقوا بها مقابل حقائق الشّرع والعقل والعلم المتجلّية في آيات الآفاق والأنفس والأكوان، فسعوا إلى نشرها كيدا للإسلام.«فكان لابد أن تنهض طائفة من علماء المسلمين من ذوي الخبرة بالمنطق وبراهينه للرّد عليهم، وهذا ما فعله المعتزلة من المتكلّمين، الذين كانت بينهم وبين المجوس مجادلات معروفة، فأدّى هذا كله إلى إرساء قواعد علم الكلام، كما أظهر وجه الحاجة إليه عند المسلمين بوضوح» [10].
(4) حركة الترجمة
لقد كان للاتصال بالفلسفة اليونانيّة، بعد ترجمة كتبها إلى اللّغة العربيّة بإيعاز من بعض خلفاء بني العباس أثر كبير في نشأة علم الكلام، إذ اطلع علماء الكلام على المنطق اليوناني والفلسفة اليونانيّة إثر نقلها إلى العربيّة، وكان من نتائج ذلك توسيع مباحث علم الكلام، وتحديد مسائله، وتدعيم منهجه.
يقول الإمام السّيوطي وهو يتحدّث عن الكلام والمنطق والفلسفة: «علوم الأوائل دخلت إلى المسلمين في القرن الأول، لمّا فتحوا بلاد الأعاجم، ولكنّها لم تكثر فيهم، ولم تشتهر بينهم لما كان السّلف يمنعون من الخوض فيها، ثم اشتهرت في زمن البرمكي، ثم قوي انتشارها في زمن المأمون، لمّا أثاره من البدع وحثّ عليه من الاشتغال بعلوم الأوائل وإخماد السّنة» [11] فقد دخلت الفلسفة إلى العالم الإسلامي عن طريق التّرجمة في عهد الخليفة المأمون العباسي، الذي أمر بنقل كتب الفلسفة اليونانيّة إلى اللّغة العربيّة، ولا يهمّنا هنا غرض الخليفة المأمون من هذا النّقل، وهل هو شغف معرفي؟ أم هدف أيديولوجي من أجل مواجهة الفرق والمذاهب المناوئة له في الحكم والفكر؟.
فقد حاول الفلاسفة التّوفيق بين الآراء الفلسفيّة ومسائل الدّين، ذلك أنّ الحديث عن الفلسفة الإسلاميّة هو حديث عن إشكاليّة فحواها أنّ الفلسفة بوتقة للأفكار الوضعيّة وهي كلمة ارتبطت تاريخيّا بالآراء النّسبيّة والآراء التي قد تصيب وقد تخطئ، بينما الدّين الإسلامي يعرض حقائق كلّية سالمة من النّقص والتّناقض، باعتبار أنّ الدّين مصدره الوحي لا العقول البشريّة، ممّا يجعل ثوابت وقطعيّات الدّين الإسلامي «حقائق مطلقة» لمن آمن واستنار قلبه وعقله، وهو الأمر الذي دفع المسلمين إلى إيجاد توافق بين الفلسفة المستلهمة من الثّقافة اليونانيّة، والشّريعة الإسلاميّة التي شكّلت الثّابت الأساسي للثّقافة العربيّة.
ثم إنّ دخول الفلسفة اليونانيّة إلى الفكر الإسلامي قد قوبل بانتقادات شديدة ولاذعة من الفقهاء المسلمين، الذين فسّقوا وبدّعوا كلّ من تعاطى الفلسفة، أو حتّى قرأ كتبها، ولم يقتصر هجومهم على الفلسفة فحسب، وإنّما امتدّ أيضا إلى علم الكلام ذي الطابع العقلي، حتّى قيل «من تمنطق فقد تزندق».إذ انصرفت جهود المتكلّمين لممارسة مناهج تعتمّد بدرجة أكبر على العقل، ذلك أنّ التّطور الذي حصل في المجتمع الإسلامي، أفضى إلى الاعتماد على العقل بدرجات متزايدة، ولا سيّما عند دخول الجدل في مجال الاشتغال العقدي ونشوء الفرق الكلاميّة المختلفة، ثمّ دخول مصادر فارسيّة وهنديّة ويونانيّة بعد انتشار التّرجمة.
فقد تناول المتكلّمون ما نقل إليهم من التّراث اليوناني بالدّراسة وصبغوه بالصّبغة الإسلاميّة، وأوكل المعتزلة إلى أنفسهم مهمّة المزج بين مناهج البحث العقدي الإسلامي ومناهج الفلسفة اليونانيّة وفي ذلك يقول الشهرستاني: «ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسّرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنّا من فنون العلم، وسمتها باسم الكلام» [12].
و«لا يقدح في أصالة علم الكلام الإسلاميّة احتواؤه على بعض أساليب الخصوم، أو اشتماله على بعض مباحث الفلسفة وطرائقها، ذلك لأنّ هذا كلّه كان لغاية دينيّة وهي الدّفاع عن الدّين وتوكيد أصوله، كما لا يقدح أيضا في كونه علما دينيّا، من جملة العلوم الشّرعيّة الدّينيّة» [13].
فمعظم المذاهب الكلامية اعتبرت المنطق أداة ومعيار في قراءة وتحليل القضايا المعرفيّة، في حين اعتبر الفقهاء والمحدثون الكتاب والسّنة، والإجماع والقياس، أساس النّقل والعقل، وأطلق على المدارس الكلاميّة والفلسفيّة مسمّى المدرسة العقليّة، كما أطلق على مدارس الفقه والحديث مسمّى المدرسة النّقليّة.
وتظهر هنا مشكلة حقيقيّة متعلّقة بمسألة التّمايز بين العقل والنّقل، فإنّ الملاحظ أنّ معظم علماء المسلمين كانوا يعتمدون على العقل، وأنّ ما دار من خلاف بين العقل والنّقل، لم يكن ليجعل من العالم معتمدا على النّقل فحسب، أو على العقل فحسب، بل إنّ فكرة تقديم العقل على النّقل أو العكس هي فكرة زائفة، لأنّ النّقل والعقل عنصران أساسيّان في النّظام المعرفي الإسلامي، فالنّقل مصدر يستمدّ منه الجميع، والعقل أداة الاستمداد يمارسها الجميع، والفرق بينهما ليس في الرّتبة وإنّما في الوظيفة. ومهما كان المعيار الذي يعتمد عليه في تصنيف المذاهب أو التّيارات الفكريّة في التّراث الإسلامي، فإنّ العقل والنّقل حاضران وبقوّة. وهذا لا يمنع القول بأنّ حضور أحدهما عند عالم من العلماء كان أكثر من حضوره عند الآخر. «لكن من غير الممكن أن يكون العقل غائبا حتّى في عمليّة النّقل والاتباع، لأنّ اختيار النّقل والاتباع هو في الأساس اختيار عقلي، فالغزالي مثلا وهو يركّز على ما يسمّيه العلوم الدّينية يقرّر أنّ إدراكها يحتاج إلى كمال العقل، فهو يقول: وليس يخفى أنّ العلوم الدّينية، وهي «فقه طريق الآخرة» إنّما تدرك بكمال العقل وصفاء الذّكاء» [14].
الهوامش
[1] د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 16.
[2] سعد رستم، الفرق والمذاهب الإسلامية منذ البدايات النشأة . التاريخ . العقيدة . التوزع الجغرافي، ص: 74، الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2004م.
[3] د. أبو الوفا الغنيمي التفتزاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، (مرجع سابق)، ص: 9.
[4] عباس فضل حسن، التفسير أساسياته واتجاهاته، ص: 536، مكتبة دنديس، الأردن، الطبعة الأولى، 2005م.
[5] طاش كبرى زاده، مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، ج: 2، ص: 148، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، 1985م.
[6] محمد سليم العوا، المدارس الفكرية الإسلامية من الخوارج إلى الإخوان المسلمين، ص: 198، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2016م.
[7] د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 111.
[8] د. أبو الوفا الغنيمي التفتزاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، (مرجع سابق)، ص: 19.
[9] د. فيصل بدير عون، علم الكلام ومدارسه، (مرجع سابق)، ص: 19.
[10] د. أبو الوفا الغنيمي التفتزاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، (مرجع سابق)، ص: 23.
[11] جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي، صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، تحقيق: علي سامي النشار وسعاد علي عبد الرزاق، ص: 45،44، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، سلسلة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، ط2، 1970م.
[12] أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، بهامش الفصل، ج: 1، ص: 33،32، طبع المطبعة الأدبية، سوق الخضار القديم، مصر، ط1، 1317هـ.
[13] محمد صالح محمد السيد، كتاب أصالة علم الكلام، مرجع سابق، ص: 112.
[14] فتحي حسن ملكاوي، التراث التربوي الإسلامي: حالة البحث فيه، ولمحات من تطوره، وقطوف من نصوصه ومدارسه، ص: 394، والكتاب هو الأول من ثلاثة كتب لدراسة التراث، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الأولى 1439هـ / 2018م.
|