في الصميم
بقلم |
عبدالرحمان بنويس |
من فقه الإصلاح في الفكر المعاصر «رؤى وملامح معاصرة» |
نهدف من هذه الأسطر إلى تسليط الضّوء على مجال في غاية الخطورة، وقد أقيمت عليه الكثير من الحروب ولكنّها لم تصل إلى بغيتها، ولا يمكن تنزّل لفظ الإصلاح على الواقع إلاّ من خلال تعميق النّظر في هذا المفهوم وتحقيق معناه العلمي وردّه إلى أصله بنظر مفكريّ الإسلام. وعلى سبيل البدء نقول؛ يعتبر لفظ الإصلاح في المنظومات المصطلحيّة من الكلمات المعقّدة التي سال حولها الكثير من المداد، ورغم ذلك فالكلّ ينظر إليه بمنظار مختلف بين من توسّع فيه حدَّ الميوعة، ومنهم من قزَّمه إلى حدّ الإقتار.
وعلى منهج التّفكيك والتّحليل؛ فالإصلاح المراد به هو معالجة داء الأمّة ممّا فَتَك بها من جهل وتخلّف باقتراح سبل إدامة النّهضة في شرايين قلوب المفكّرين والمثقّفين لكي يصل ذلك إلى ثقافة عامّة تسود الصّغير والكبير، الموظّف وغيره، أي انتشار فكرة المسؤوليّة وجعلها نواة المجتمع المسلم.
ويعتبر كلّ من مالك بن نبيّ الجزائريّ وعلاّل الفاسي المغربيّ أنموذجين سعيا إلى وضع ملامح ورؤى في سبيل تقعيد الفقه الإصلاحي في زمانهما، وإنّما ركزت على هاذين العالمين لكونهما من المفكرين الذين عاصروا الاستعمار الفرنسي وكانوا قادة للإصلاح في بلدانهم، وأثّروا بفكرهم في الكثير من الأتباع من الباحثين والمهتمين، ولهم كتابات جليلة في مجال الإصلاح الإسلامي، إضافة إلى ثقافتهم الموسوعيّة بمختلف العلوم والشّعوب. فما تجليات فقه الإصلاح في مجتمع مركّب من ثقافات ولغات وتضاريس مختلفة؟
لعلّنا قد لا نجيب عن ذلك الإشكال الكبير وإنّما نلمح عليه بإشارات مستنبطة من فقه الرّجلين لتحقيق الإصلاح في المجتمع العربي والإسلامي، وسنبدأ بتعريف مختصر عن الإصلاح باعتباره رؤى ومنهج في التّنظير والتّقعيد، لنمرّ إلى بيان تجليات الإصلاح المقترحة عند المفكر مالك بن بني وعند العلاّمة علال الفاسي للنّظر في مجال وشروط تطبيق الفقه الإصلاحي. فمن يكون الخبيران مالك بن نبي وعلاّل الفاسي؟ وما تجليات الإصلاح عندهما؟
أولا: تعريف مالك بن نبي وتجليات فكره الإصلاحي:
هو مالك بن الحاج عمر بن الخضر بن نبي؛ ولد في مدينة تبسة (وهي مدينة تقع أقصى شرق الجزائر على الحدود الدّاخلية مع تونس) عام 1323 هـ الموافق 1905 م تلك الفترة التي شهدت أحداثاً كبيرة في تاريخ الجزائر وتاريخ الدّول العربيّة، فقد سقطت الخلافة العثمانيّة واحتلت فرنسا الجزائر وبسطت هيمنتها على تونس والمغرب وكانت معظم الدّول العربيّة تحت الاستعمار وما ترتّب على ذلك من ردود الأفعال سواء في شكل حركات جهاديّة للتّحرّر أو دعوات إصلاحيّة. ولد مالك في مجتمع جزائري محافظ وكانت أسرته فقيرة حيث كَفَلَهُ عمله في مراحل التعليم، وبسبب حالة الاحتلال التي كانت تعيشها الجزائر في ذلك الوقت لم يُقْبَلْ بن نبي، بعد انتهائه من المرحلتين الابتدائية والإعدادية، في الثانوية، فدرس في معهد وتخرج سنة 1925 م برتبة باش عدل أي مساعد في القضاء بعد سنوات الدّراسة الأربع، في مدرسته التي اعتبرها «سجناً» يعلّم فيه كتابة «صك زواج أو طلاق»؛ ثم عمل مُتَطَوِّعًا بسبب عدم وجود وظائف.
• سافر بعدها مع أحد أصدقائه إلى فرنسا حيث كانت له تجربة فاشلة فعاد مجددا إلى مسقط رأسه. وبعد العودة تبدأ تجارب جديدة في الاهتداء إلى عمل، كان أهمها، عمله في محكمة أفلو حيث وصلها في مارس 1927م، احتك أثناء هذه الفترة بالفئات البسيطة من الشّعب فبدأ عقله يتفتّح على حالة بلاده، أعاد الكرّة سنة 1930م بالسفر لفرنسا ولكن هذه كانت رحلة علميّة. حاول أوّلا الالتحاق بمعهد الدّراسات الشّرقية، إلاّ أنّه لم يكن يُسمح للجزائريين أمثاله بمزاولة مثل هذه الدراسات. تركت هذه الممارسات تأثيرا في نفسه. فاضطّر للتّعديل في أهدافه وغاياته، فالتحق بمدرسة (اللاّسلكي) للتّخرج كمساعد مهندس، ممّا يجعل موضوعه تقنياً خالصاً، بطابعه العلمي الصّرف، على العكس من المجال القضائي والسّياسي. وتخرج عام 1935 م مهندسا كهربائيّا
• اتجه «مالك بن نبي» منذ نشأته نحو تحليل الأحداث التي كانت تحيط به وقد أعطته ثقافته المنهجيّة قدرة على إبراز مشكلة العالم المتخلّف باعتبارها قضيّة حضارة أولا وقبل كل شيء فوضع كتبه جميعا تحت عنوان «مشكلات الحضارة» فكانت سلسلة ثريّة بفقه الإصلاح ومجال تطبيقه للنّهوض بالأمّة إلى التّقدم، وترك التّبعيّة والقابليّة للاستعمار، فزاده ذلك انغماسا في الدّراسة والتّحليل، وفي الحياة الفكريّة، فيمكن القول: إنّه لم يكُفَّ عن التّأليف من سنة 1946م حيث ألَّف فيها أول كتاب له وهو «الظاهرة القرآنيّة»(1) فما رؤى الإصلاح في توجهه الفكري؟
لتحقيق هذا المعنى الشّمولي لابدّ من النّظر فيه على وجه التّفكّك والتّحليل لإدراك بيّنة هذا المفهوم عند المفكر بن نبي، فالإصلاح عنده عمل يرتكز على ثالوث مقدّس ومندمج: (الفكرة + الشّخص + الشيء) وإذا اندمجت حقيقة هذه المفاهيم في مجتمع ما فإنّه ارتقى إلى سلّم المجتمعات المتحضّرة، وإذا تغلّب ركن على ركن فإنّنا نعثر على مجتمع غير متكيّف وغير متوازن، غير أن تغلّب الشّيء على الباقي معناه ازدهار المكان وتخلّف الأشخاص وفكرهم، وإذا تغلّب الشّخص فإنّه يعطينا مجتمعا ديكتاتوريّا برجماتيّا نفعيّا، بينما إذا تغلّبت الفكرة على الباقي فإنّها تعيد البناء وترشد سلطة الشّخص إلى العمل من أجل بناء المؤسّسات الإنتاجيّة. وقد بيّن ذلك بن نبي بالقول «لقد أمسك الإصلاح بكلتا يديه مصير النّهضة واضعا في خدمتها مصادر الرّوح الإسلاميّة التي أفلتت من غفلتها.... فكان ينبغي ألاّ يكون لدى العلماء في عالمهم الثّقافي سبب يخلّ بعلاقة الفكرة – الشّخص كيما يحولها من جديد إلى علاقة فكرة – وثن. غير أنّ العلماء حملوا في ذاتهم عقدة نقص تجاه المثقّفين السّياسيين إذ كانوا يعدونهم حمايتهم»(2) فحينما يصبح الفكر جامدا نكون أمام أوثان لا تنفع ولا تضرّ وهي إلى التّخلف أقرب منها إلى التّجديد والإصلاح.
ويختصر مالك بن نبي ذلك بالقول «وهكذا غاص الإصلاح الجدول الذي فيه تسيل (شمبانيا) الولائم الانتخابيّة ممزوجة غالبا بدم الشّعب الطّاهر، المسفوح لغايات غير طاهرة في أكثر الأحيان» وقد لخص مالك بني نبي رحمه الله المشاكل التي يغوص فيها مجتمع مُحَمَّل بالأفكار الإصلاحية إلى ثلاثة أشياء مهمّة:
الأولى: اضطراب العلاقة بين الفكرة الإصلاحيّة والشّخص المصلح
الثانية: حينما يصبح الثّنائي (فكرة+ شخص) وثنا من جهتين: كون الجاهليّة والوثنيّة متلازمتين في الوجود والعدم، سهولة انتشار داء الجهل المركّب في أعضاء فكر الإصلاحيين الأخرين.
الثالثة: جهل الشّعب النّظيف وجهل المثقف الأخرق.
ولتعميق زاوية النّظر لا بدّ من التخلّص من فكرة القابليّة للتّخلف والاستعمار والتّمكين لهما، بل أن تكون الإرادة القابلة للتّغيير الرّاغبة في النّهضة، وذلك بالرّجوع إلى الأصالة القرآنيّة وتفكيك الخطاب القرآني والعمل على تنزيل خصائصه، وأهم وسيلة ينبغي التّركيز عليها في الخطاب القرآني إدراك حقيقة القراءة والكتابة التي خوطب بها النّبي في بداية الوحي، إذ هي منار التّقدم وأوّل شرط من شروط النّهضة، ثم إنّها أوّل ضربة قاضية على طبيعة أنواع الصّراع الفكري المرضي الذي كسّر جبروت الكثير من دول العالم الثالث رغم توفّرها على جميع أنواع معدن الأرض، لكن القابليّة للاستعمار أثّرت على منهج إصلاحهم، وبذلك فغالب الإصلاحات لا تتجاوز الشّكل بينما المضمون يبقى في الهامش والله الموفق.
ثانيا: تعريف علال الفاسي المغربي وتجليات فكره الإصلاحي:
علال الفاسي من مواليد 1910م بفاس، ينحدر من أسرة عريقة في العلم والتّعلم، درس بالقرويين واشتغل أثناء الدّراسة بحركة تنظيم الطّلبة، كما تزعّم حركة السّلفية الجديدة المقاومة للاستعمار الفرنسي، كما ساهم في تأسيس المدارس الحرّة وتطوير التّعليم المغربي.
درّس بجامعة لقرويين بفاس، ونال الشّهرة العلمية بين جميع طبقات المجتمع، فكان الإقبال عليه بشكل متزايد ممّا اضطر السّلطات الفرنسية إلى منعه ومحاولة اعتقاله، فشارك في تنسيق الحركات الوطنيّة المغربيّة والمغاربية والعالم العربي من أجل حرّية الشّعوب وتقرير مصيرها، فقام بمظاهرات مندّدة بالظّهير البربري الصّادر عن سلطات فرنسا سنة 1930م فاعتقل بذلك غير مرّة، بل ذلك يزيده طموحا وصبرا وتضحية من أجل تشكيل أحلاف مقاومة ومضادة لسياسة النّهب، فأسّس أوّل نقابة للعمال بفاس، وساهم في وضع الدّفاتر الإصلاحيّة لمختلف المجالات بحكم موسوعيته، وبسبب حركيّته انتخب رئيسا لكتلة العمّال الوطنية وأوّل زعيم مغربي يترأس حزب الاستقلال فجمع بين العالميّة والسّياسة والتّدبير والاستشارة والصّحافة، والخطابة والتّحليل والشّعر، وإجمالا يمكن القول أنّ علال الفاسي مارس الإصلاح بشكل تطبيقي في حياته ممّا سهّل عليه المهمّة في التّنظير، والشّيء إذا طبّق في الحياة يسهل تدوينه وتقعيده، توفي رحمه الله تعالى سنة1974م(3) فما تجليات إصلاحه؟
بالنظر إلى فقه الإصلاح عند الفقيه المغربي الفاسي رحمه الله نجده يحدّده في موسوعية الـمُتصدّي للإصلاح، وما دام جاهلا بالشّيء فقد يكون مخرّبا لِهَمِّ وقضايا المجتمع، ولذلك سعى إلى أن يكون هناك إصلاح شمولي نابع من الذّات ليلمس الآخرين، وذلك من خلال وضع شروط لمن يتصدّى للإصلاح أو يرغب في ذلك: فالشروط التي توفّرت في علال الفاسي قد استوفت ما وضعه القدماء في ضبط المجال، من كونه ربّانا في الفكر الإصلاحي، محيطا به قلبا وقالبا، وهو بنفسه وضع مجموعة من الشّروط للمقبل على الإصلاح، وجعل الإصلاح فكرة، ولبناء هذه الفكرة تحتاج إلى عقل مفكّر تفترض فيه أربعة شروط (4):
«فأول شروط الفكر الصّحيح أن يكون مساعدا على بقاء هذه الأمّة ومتابعة سيرها إلى الأمام، وكلّ فكرة تعمل على حلّ رابطتها وتمزيق وحدتها والقضاء على كيانها كأمّة مغربيّة لها مقوماتها الخاصّة ومميزاتها عن غيرها...
أما الشرط الثّاني: فهو الاستجابة لحاجات الأمّة ورغباتها، لأنّ الغاية من كلّ حركة وطنيّة هي تحقيق الآمال التي تختلج بأفكار الشّعب والتي يعبّر أحيانا عنها بترجمتها في الغالب رجال الإصلاح ودعاة العمل، فكلّ مجهود لا يتضمّن هذه الغاية وإنجازها فهو بالنّسبة للأمّة مجهود لا قيمة له...
والشرط الثالث: التّقدمية، فكلّ فكرة لا تعمل على توجيه الأمّة صوب التّطور والتّقدم إلى الأمام فهي فكرة عقيمة يجب رفضها ومحاربتها...
أما الشرط الرابع: فهو الشمول، أي أن تكون الفكرة مراعية ما يصلح كل جوانب الحياة في البلاد ويساعدها على التقدم، وكل ما هنالك أنه ينبغي أن لا نغتّر ببعض مظاهر الدعايات التي تشفي جانبا من أمراضنا ولكنها لا تعير أدنى انتباه للنواحي الأخرى» (5)
والمتأمل في هذه الشّروط التي نعتبرها ضوابط الإصلاح متعدّدة التّخصصات فهي تنمّ عن عمق النظر في الإصلاح الاجتماعي، والتّعليم أحوج لها من غيرها، وإن كان الزّعيم الفاسي تغلب عليه النّظرة الشّمولية في الإصلاح، وما ذلك إلا لكونه رجل سياسة ورجل تعليم، ولعلّ هذه الخبرة التي راكمها في المجالين ولَّدت لديه رؤية عميقة عن فلسفة الإصلاح، ولذلك ومن خلال تتبعنا لكتابه «النقد الذاتي» – باعتباره كتابا إصلاحيّا بامتياز –شمل جميع المجالات ابتداء من الثّقافة والفكر ووصولا إلى خطط الإصلاح الذّاتي من خلال ملء الفراغ.
فعلى سبيل الختم يمكن القول بأنّ الإصلاح من المجالات المعقّدة، والتي تحتاج إلى رجال خبراء بثقافة المجتمع وبكينونته ومشاكله ومميزاته، وأن يسعى إلى التّوفيق بين مقاصد الضّرر والنّفع، وألاّ يكون المصلح جاهلا بتراثه وأصالته وبقيمه الإسلاميّة، غير ضارب التّوسع في النّماذج النّاجحة في دول غربيّة أو عربية من أجل أخذ العبر والسّبل التي توافق منهج بلده وهذا ما انطلق منه المفكران في تقعيد نظرات إصلاحيّة قابلة للتّنزيل على أرض الواقع.
ونحن نعيد الإشارة في ثنايا هذا المقال إلى أنّ الإصلاح سيف ذو حدّين، فقد تتوافر صفات المصلح الموسوعي والمفكر والمثقّف لكنّه قد يكون وثنا يعبد، بأن يقتبس منهجا إصلاحيّا جاهزا من بلد وينزله على بلده ممّا يعرضها للخطر أكثر من ذي قبل، وقد يكون المثقّف يمجد ذاته ويعلّيها أكثر من شأنها فيقع في التّسلط والفوضى غير المنظّمة ممّا يؤثّر على البلاد سلبا وسالبا ويجعلها ساحة للتّخلف والأمّية والاقتتال، وبكل أسف فالمتأمّل في الواقع يدرك حقيقة نَظرِ هذين العالمين.
الهوامش
(1) انظر الصراع الفكري في البلاد المستعمرة لمالك بن الحاج عمر بن الخضر بن نبي (المتوفى: 1393هـ) إشراف: ندوة مالك بن نبي دار الفكر الجزائر / دار الفكر دمشق – سورية الطبعة: الثالثة، 1408 هـ = 1988 م / ط 1 القاهرة 1960 م (بتصرف يسير)
(2) مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لمالك بن نبي ضمن سلسلته «مشكلات الحضارة» دار الوطن سنة 2016م القليوبية ص98-99.
(3) انظر كتاب النقد الذاتي لعلال الفاسي، مؤسسة علال الفاسي الطبعة الساعة 2002م ص371-372-373 (بتصرف)
(4) يقول الإمام الجويني في هذه الشروط: «حق على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلوم، أن يحيط بالمقصود منه، وبالمواد التي منها يستمد ذلك الفن، وبحقيقته وفنه وحده» البرهان في أصول الفقه لأبي المعالي الجويني ج1/7.
وهذا النص وإن كان يتحدث عن المجتهد في العلوم، فإن روحه يتجلى بوضوح في المصلح علال الفاسي، فهو لم يقدم على هذا الباب إلا بعد ضبط مجموعة من الأبواب فهو الرجل العالم، والسياسي والأستاذ والمستشار، والمفكر...
(5) انظر الفاسي علال النقد الذاتي ص84 -88 (بتصرف).
|