في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
العمل الصالح مجتمعيا من منظور معرفي
 ‏  متي يكون العمل صالحا
لا يوصف العمل المجّرد في ذاته بالصّلاح أو بالفساد، ففي الحديث أنّ أول من تسعر بهم النّار ثلاثة ... (الحديث) وأعمال ‏الثّلاثة هؤلاء في ظاهرها أعمال صالحة ولكنّها لمّا فقدت النّقطة المرجعيّة لقياسها كانت سببا في تسعير النّار بهم. لكن من النّاحية ‏اللّغوية، العمل ضدّ البطالة والصّلاح، ضدّ الفساد كما يقول ابن منظور في اللّسان، ويقول ابن فارس في معجمه إنّ الصّاد واللاّم ‏والحاء أصل واحد يدلّ على خلاف الفساد. وفي المعجم الوسيط ما معناه «الصّلاح ما كان نافعاً». فعلى هذه المعاني ‏والاصطلاحات اللّغوية يتبيّن لنا اتساع دائرة العمل الصّالح، فكلّ عمل نافع فهو عمل صالح. لكن الشّرع يتدخّل لا ليضيق هذا ‏المفهوم اللّغوي ولكن ليضبط معنى النّفع وهل يكون نفعا شخصيّا أم عامّا، فقد يناقش البعض مثلا فيقول: إنّ العلاقة المؤقّتة بين ‏الذّكر والأنثى حتى ولو لمرّة واحدة، إذا تمّت بالتّراضي التّام - بينهما فقط دون المحيط الاجتماعي - وتحت إشراف إدارة طبّية ‏صارمة جدّا، بل ومؤسّسيّة أيضا يكون من النّاحية الشّخصيّة نافعا لتفريغ الشّهوة خصوصا مع حالات الغلوّ الفاحش في أمور ‏الزّواج، لكن قد يردّ عليه فريق آخر فيقول: إنّ ضرر ذلك متعدّ للمجتمع ككل في ضياع الأنساب وتفكّك الأسر وضياع القيم ‏وتسليع العلاقة الحميمة، لذلك يحرم ويجرم. لذلك حدّ الشّرع الحكيم العمل الصّالح بحدّين هما الإخلاص والصّحة. والصّحة هي ‏موافقته للكتاب والسّنة، وأرى أنّ الحدّين داخلين في تصحيح وضعيّة قياس العمل بالنّسبة لنقطته المرجعيّة والتي ربّما تعود بالنّفع ‏على صاحب العمل بالأساس. أمّا الحدّ الأوّل «الإخلاص» فهو داخليّ جدّا وشخصيّ بمن يعمل العمل ويصعب جدّا تحديده حتى ‏من الشّخص نفسه، لكن عكسه «أي النّفاق والرّياء» فيعلم الشّخص من نفسه بعضه غالبا ومعظمه أيضا أخفى من دبيب النّمل، ومع ‏ذلك ينبغي علينا ألاّ نضيّق واسعا أو نوسّع ضيّقا «لأجل أهوائنا»، فقد روي أنّ الرّجل كان يسلّم للمال ثمّ لايلبث أن يحسن إسلامه. ‏فعلى ذلك لم يبق إلاّ الاجتهاد في الحدّ الثاني وهو أن يكون العمل موافقا للكتاب والسّنة، وهو مقياس واسع جدّا بدء من المتّفق عليه ‏وانتهاء بالمستجدّات والتي يندر معها الاتفاق على قول واحد، ولأنّه توجد أشياء كثيرة جدّا تقع في إطار المصلحة والمفسدة ‏ومعظمها يقع في نطاق عمارة الأرض وفيها تتجلّى طلب العلوم الطّبيعيّة «علوم المادّة» مثل الرّياضيّات والفيزياء والكيمياء ‏وعلوم الحياة بل والعلوم الإنسانيّة، وعلى ذلك يكون النّفع المادّي المفيد للمجتمع ككل هو أحد محدّدات العمل الصّالح مجتمعيّا. ‏فإذا كان الإيمان الحقّ يصحّح وضعيّة النقطة المرجعيّة للإنسان، فإنّه أيضا يضع التزاما جادّا بتحقيق ذلك الإيمان بصورة ‏مجتمعيّة في الأرض وعدم الهروب بأجوبة مبسترة للمشاكل المعضلة التي تغصّ بها حياتنا وإنّما من خلال طرح خطط عمليّة ‏لإصلاح الإنسان «روحيّا وماديّا» وإن كنت لا أرى الفصل بينهما أصلا، واستخراج الكنوز والأسرار العلميّة في خلق الله ومن ‏ثم عمارة الأرض. وإذا كان الغرب والحضارة المادّية عامّة أضاعت النّقطة المرجعيّة عن عمد، إلاّ أنّها قدّمت أعمالا جادّة جدّا ‏في ذلك. بينما نحن حتّى ولو كنّا لم نضيّع نقطة القياس المرجعيّة، فإنّنا لم نقدّم أعمالا جادّة للحضارة الحديثة، ومن وجهة نظري ‏ربّما يكون تصميم بعض المقاييس المادّية للعمل الصّالح لمعرفة جدوى أعمالنا على المجتمع مفيد جدّا في استكشاف طبيعة ‏وأسباب تخلّفنا الحضاري.‏
السبب المادي للتخلف
كثير من الدّارسين يرجعون سبب تخلّفنا إلى أنّنا بعيدون عن منهج الله وأنّ الحلّ يتمثّل في  العودة إلى الله، بصلاح ‏المعتقد وتحقيق التّوحيد والعمل الصالح، ثم يستفيض في شرح كليهما حتّى يستقرّ في الوجدان أنّ التّوحيد وكماله والعمل الصّالح ‏وأركانه إنّما هي في الأمور التّعبديّة الشّعائريّة التي هي إمّا من جنس العبادات المأمور بها أو من الأخلاق العامّة المأمور أيضا ‏بالتزامها مثل الأمانة والصّدق ومساعدة المحتاجين، وهذه الرّؤية تقدّم حلاّ في النّاحية القيميّة فقط، لكنّها لا تقدّم خطّة تفصيليّة ‏لجزيئات الحياة المعاصرة المعقّدة بتشابكاتها المعرفيّة والمادّية. بذلك يكون قد فصل الإنسان إلى كيانين منفصلين تماما: روحي ‏ومادّي، ومن ثمّ تمّ إعلاء شأن الجانب الرّوحي المحض، وإغفال الجانب المادّي فضلا عن البحث في ترابط الجانب الرّوحي ‏بالمادّي الذي يفرز الإنسان ككيان، والفصام النّكد بين ما هو روحي ومادّي هو ما أدّى إلى إبعاد الإنسان عن ميدان ‏البحث، هذه الرّؤية هي التي أقعدتنا قرونا عن دخول ميدان الدّراسات الحقيقيّة في العلوم الطّبيعيّة خصوصا بعد دخول عنصر ‏القوّة وحيازتها كعنصر مادّي بحت في معادلة الصّراع والتّدافع، من خلال الرّبط الخاطئ بأنّ ذلك من علوم الدّنيا فقط. ولا أدلّ ‏على ذلك من وجود شعوب ينتشر فيها التّعليم الدّيني وهي بعيدة بعدا كبيرا بالفعل عن المعتقدات الخرافيّة ومع ذلك فهي غير متقدّمة ‏وأقصى ما في الأمر أنّها سوق استهلاكيّة لمنتجات تكنولوجيّة تُنتج في بقاع متقدّمة هنا وهناك. بل إنّ دولة النّبوّة والخلافة ‏الرّاشدة كانت أعلى بكثير من النّاحية القيميّة من الدول الإسلامية المتعاقبة بعدها ولم تكن أكثر تقدّما «من الناحية المادّية» ‏ولسنا في مجال التّفضيل بينهما لأنّ أدوات البحث العلمي لم تكن مهيّأة بعد في دولة النّبوة والخلافة الرّاشدة. إذن لابدّ من حفر ‏عميق من الدّارسين من أجل التوصل إلي الأسباب التي أدت إلي تخلفنا عن ركب الحضارة والتقدم ومن ثمّ صياغة خطط عمليّة ‏للعلاج. ومن أهم طرائق العلاج نشر ثقافة أهمّية تحصيل العلوم المادّية لتحقيق قوّة الأمّة ويدخل ذلك ضمن باب الأعمال الصّالحة.‏
تصميم مقياس مادّي للعمل الصّالح مجتمعيّا
تقوم حضارة الغرب «المادّية» علي صنع مقاييس لكلّ شيء، وهم يحاولون تعبير وتقدير كلّ شيء في الدّنيا بالمادّة ‏ويخافون جدّا ويرتبكون أمام أي شيء غير قابل للقياس مثل الكرم والشّجاعة وإغاثة الملهوف والحبّ المتبادل دونما ثمن، ولا ‏غضاضة في ذلك فهي حياتهم عندهم، لكنّهم يبدعون حقّا، وهم يحاولون قيس كلّ شيء ويكسبون أرضا جديدة من المعرفة كلّ ‏يوم، ففي دراسة ليست غريبة على هذه الحالة قام بعض الباحثين الأمريكان في سبعينات القرن الماضي بتقدير وحساب التّكلفة ‏المادّية للطّلاق على المجتمع «أي حساب الخسارة بالدّولار». فهل لنا أن نصنع مقياسا مادّيا للعمل الصّالح مجتمعيّا، أعتقد أنّ ذلك ‏ممكن، خصوصا إذا تركنا جانب الإخلاص والنّفع الشّخصي للفرد وشأنه بربه، فربّما يبدأ الفرد بالعمل وحصيلته من ‏الإخلاص صفرا لكنّه يصرّ على موافقة العمل للكتاب والسّنة، فيرزقه الله الإخلاص بعد ذلك. كان الرّجل يسلم لأجل المال والدّنيا ‏ثم لا يلبث حتّى يحسن إسلامه، فعن‎ ‎أَنَسٍ رضي الله عنه‎ :‎أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ؟ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ ، ‏فَأَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ:‏‎» ‎أَيْ قَوْمِي أَسْلِمُوا، فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا‎  ‎لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، ‏فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» (1) . فإذا تركنا الأمور التّعبدية الشّعائريّة جانبا مثل كمّ صلاة يصلّيها ‏الفرد وكم يوما صامه وكم آية قرأها وكم تسبيحة سبّحها ... إلى آخره وليس ذلك لعدم جدواها بل لصعوبة قياسها من ناحية حيث ‏العامل المؤثّر جدّا فيها هو الإخلاص ومن ثم ظهور أثرها في حياة الفرد، ومن ناحية أخرى لقصور نفعها المباشر غالبا على ‏الفرد نفسه وليس المجتمع. نستطيع حينئذ مثلا خلال عام قياس العمل الصّالح «النّافع» بالتّعداد: كم عملا نافعا جادّا أدّيناه في السّنة؟، ‏كم مشروعا شاركنا في تنفيذه؟، كم قانونا ممّا أودعه الله في كونه وسخّره لنا اكتشفناه؟، وكم اختراعا جديدا اخترعناه؟، كم بحثا أومقالا ‏جيّدا ومؤثّرا في شتى العلوم أنتجناه، وكم منتجا نافعا أنتجناه؟... إلى آخره وليكن ذلك كلّه منسوبا لعددها العام في الدّنيا حتّى تكون ‏الأمور موزونة وزنا جيّدا. إذا تمّ رصد هذه الأشياء كلّها وهي قابلة للرّصد وللعدّ فلا شكّ أنّنا سنرسب في ذلك وستكون النّتيجة ‏مخزية. 
 
العلم كعمل صالح
ترتفع أحيانا أصوات نشاز قائلة ما علاقة الدّين بالبحوث العلميّة؟ (في العلوم الإنسانيّة والنّظريّة والتّطبيقيّة ... إلخ)، ما علاقته بالرّياضيات والفيزياء والكيمياء والاختراعات والابتكارات الحديثة؟، فهل يريد من يقول هذا أن يعلن أنّ الدّين الإسلامي لا ‏يحضّ على العلم في هذه الميادين؟. وكأنّهم يقولون أنّ المقصود بالعلم هو العلم الشّرعي ثمّ يقصرون العلوم الشّرعيّة على ما يخصّ ‏الاعتقاد والشّعائر والشّرائع وبلسان الحال - وأحيانا لسان المقال- يخرجون العلوم الطّبيعية والنّظرية والإنسانيّة من هذه الدائرة، ‏وهذا لعمري هو الفصام النّكد الذي أخرجنا من دائرة الحضارة. 
ينبغي أن نعلم أبناءنا أنّ تعلّم العلم النّافع «من كلّ شيء» هو عمل ‏صالح. ينبغي أن نعرفهم أنّ العلوم النّافعة كلّها علوم شرعيّة وأنّ بعدنا عن هذه العلوم أفقدنا إمتلاك القوّة، والله عز وجل يقول «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ...»(2) وهي نكرة في سياق الأمر فتعمّ كلّ قوّة مادّية كانت أو معنويّة. وقد روي عن أمير المؤمنين ‏علي بن أبي طالب أنّه قال: «فضيلة السّلطان عمارة البلدان»(3) وكأنه، رضي الله عنه، يضعنا أمام مؤشّر لقياس الآداء الحكومي ‏وهو تنمية البلاد. وليس هذا للسّلطان فحسب، فهو واجب مشترك ولا يوجد فصل حادّ أصلا بين الحاكم والمحكوم إلاّ من قبيل ‏توزيع أدوار عمل ما ولا يمنع ذلك من النّقد البنّاء بعد ذلك. والإحصاءات المخزية التّالية المجمّعة من مواقع شتّى أهمها ‏تقارير اليونسكو للعلوم حتى 2015، تكشف مدى تخلّفنا في هذا المجال بل وتكشف بعدنا عن تفعيل الجزء المادّي المجتمعي من ‏العمل الصالح: ‏