شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
علي عزّت بيجوفيتش
 وصفه الدّكتور عبدالوهاب المسيري بأنّه صاحب اجتهادات مهمّة فى تفسير ظاهرة الإنسان فى كلّ تركيبيتها. وهذه التركيبية، المرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة، هى نقطة انطلاقه والركيزة الأساسية فى نظامه الفلسفى... إنه ليس «مجتهدا» وحسب، وإنّما هو «مجاهد» أيضا. فهو مفكر ورئيس دولة، يحللّ الحضارة الغربيّة ويبيّن النّموذج المعرفي المادّي العدمي الكامن فى علومها وفى نموذجها المهيمن، ثم يتصدّى لها ويقاوم محاولتها إبادة شعبه. 
ولكنّه فى ذات الوقت يستفيد من اجتهادات المفكّرين الغربيّين المدافعين عن الإنسان، ولعلّ إيمانه بالإنسان (الذى ينبع من إيمانه بالله وإدراكه لثنائيّة الطّبيعة البشريّة) هو الذى شدّ من أزره إلى أن كتب الله له ولشعبه النّجاة، وهو الذى مكّنه من أن يلعب دور المجاهد والمجتهد، ودور الفارس والرّاهب في آن»،إنّه الدكتور علي عزت بيجوفيتش.
 ولد «علي عزت بيجوفيتش» سنة 1925 م (عام 1344هـ). في مدينة بوسانا- كروبا شمال غربي البوسنة لكنّه عاش حياته كلّها في سارييفو، ففيها تلّقى تعليمه الإبتدائي ثمّ الثّانوي ثمّ التحق بكلّية الهندسة الزّراعية سنة 1943 ومنها إلى كلّية الحقوق سنة 1950 وتحصّل على الشّهادة العليا في القانون ثمّ شهادة الدّكتوراه سنة 1962 وعلى شهادة عليا في الاقتصاد سنة 1964 .عمل مستشارًا قانونيًا خلال 25 سنة، ثم اعتزل وتفرّغ للبحث والكتابة .
نشأ «بيجوفيتش» في مناخ يعادي المسلمين وينظر إليهم على أنّهم دخلاء على أوروبا وكان ذا شخصيّة متميّزة بالجدّ والاجتهاد، والتّأمل في أحوال المسلمين المتردّية في بلاد البلقان، فبدأ نشاطه في سن مبكرة، حيث دفعه تعطشه لمعرفة دينه ووعيه بأهمية التعريف به إلى مشاركة بعض زملائه التلاميذ في تأسيس ناديّا مدرسيّا للمناقشات الدّينية أطلق عليه تسمية «ملادي مسلماني» أي «جمعية الشّبان المسلمين». وقد سعت هذه الجمعيّة إلى بناء شخصيّة مسلمة تستطيع أن تتعايش مع الواقع الأوروبي من خلال الانفتاح على الثقافة الغربيّة في منابعها الأصليّة، فجذبت الطّلاب المسلمين في جامعة «سراييفو»،الذين كانوا يرون أنّها تقدّم لهم الإسلام بطريقة تختلف عن النّموذج الذي يطرحه علماء الدّين الرّسميّون.كما قامت بدور إغاثي إنساني قبل الحرب العالميّة الثانية وأثناءها تمثّل في إيواء المهاجرين ومساعدة الفقراء وكفالة الأيتام. ولقد تعرّضت الجمعيّة إلى تضييقات متواصلة في فترة الحكم النّازي نتيجة مقاطعتها للجمهوريّة الفاشيّة التي أسّسها المحتل الألماني ثمّ في عهد الحكم الشّيوعي بزعامة «تيتو» نتيجة عداوته الشّديدة لكلّ نفس ذي مرجعيّة إسلاميّة. ولأنّ «علي عزّت» كان من أبرز أعضائها ومعارضا بارزا للنّظام الشّيوعي، فقد تعرّض إلى الاعتقال والتّعذيب في أكثر من مناسبة وتمّت محاكمته في مناسبتين (سنة 1949 ثم سنة 1972) كما تمّ اعتقاله صحبة بعض أصدقائه سنة 1983 على إثر الضجّة التي أثارها صدور كتابه «البيان الإسلامي»،الذي جمع فيه مقالاته التي كان يصدرها بمجلة «تاكفين» وحكم عليه بالسّجن أربعة عشر عاما، بتهمة الانحراف نحو الأصوليّة والعمل ضدّ الدّولة والسّعي لتحويل البوسنة إلى دولة إسلاميّة. ثمّ اعتقل مرّة أخرى بسبب نشره «دعاية إسلاميّة»، ثم أطلق سراحه أخيرًا في عام 1988. 
بعد تصدّع الأنظمة الشّيوعيّة في أوروبا الشّرقيّة، وفي الاتحاد السّوفيتي وفشلها في كبح جماح الشّعوب التّائقة إلى الحرّية وبعد عشرات السّنين من القمع والاستبداد، اضطرّ الحزب الشّيوعي اليوغسلافي إلى السّماح بالتّعددية السّياسية، فاستغلّ الدّكتور «علي عزت» هذه الفرصة، وبادر مع بعض رفاقه إلى تأسيس حزب العمل الدّيمقراطي الذي أدخل مسلمي البوسنة المعترك السياسي ومثّل المسلمين وغير المسلمين وعمل على توحيد شعب البوسنة والهرسك. واستطاع الحزب في أول انتخابات أُجريت أن يحصُل على أعلى الأصوات وقام بتشكيل حكومة ائتلافية مع الحزب الدّيمقراطي الصّربي والكرواتي ليصبح أول رئيس للبوسنة والهرسك في نوفمبر 1990م.
دافع ببسالة عن بلاده ضدّ المعتدين الصّرب حتّى توقيع اتفاقية السّلام في ديسمبر 1995م ثم فاز مرّة أخرى في الانتخابات التي أجريت في 14 سبتمبر 1996م، وأصبح رئيسَ الرّئاسة الجماعيّة الثّلاثية مع عضويّة صربي وكرواتي. ثمّ أعلن «بيجوفيتش»، استقالته من منصبه السّياسي نتيجة مرضه وتقدّمه في العمر، بعد مشوار طويل وكفاح مرير انطلاقا من تبنّيه قضيّة المسلمين في يوغسلافيا إلى بلوغ مطمحه وشعبه في بناء دولة ديمقراطيّة تتوفّر فيها الحرّيات للجميع بدون استثناء.
إلاّ أنّه وبعد تقاعده من منصبه كرئيس دولة، ظلّ يحتفظ بمنصب الرّئيس الفخري لحزب العمل الدّيمقراطي إلى أن توفّي في مستشفى «سراييفو» بتاريخ 19 أكتوبر 2003م، عن عمر ناهز الثّامنة والسّبعين  بعد نحو شهر من دخوله المستشفى للعلاج جرّاء أزمة قلبية حادّة .
لم يكن الدّكتور «علي عزت» رئيساً عادياً كسائر الرّؤساء بل كان سياسيّاً داهية، ومناضلاً عنيداً، ومفكّراً عميقاً، ذا نظرة إسلاميّة بعيدة جعلته يتجاوز حدود البلقان، إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، ليحمل هموم المسلمين حيث ما كانوا، ويعمل مع العاملين للنّهوض بهذه الأمّة.
وبالرّغم من عدم تفرّغه للكتابة نتيجة نضاله السّياسي، فقد ألّف الرّجل عدّة كتب، وكتب العديد من الأبحاث، وقدّم الكثير من المحاضرات، في ميادين فكريّة وسياسيّة.من أهم مؤلفاته نذكر «هروبي إلى الحرّية» و«عوائق النّهضة الإسلاميّة» و«الأقليّات الإسلاميّة في الدّول الشّيوعية» و«البيان الإسلامي»  و«الإسلام بين الشّرق والغرب» وكان «بيجوفيتش» يقرأ ويتحدّث ويكتب باللّغات الألمانيّة، والفرنسيّة، والإنكليزية، مع إلمام جيد بالعربيّة.