تاريخنا
بقلم |
عبد الحكيم خلفي |
جامع المواسين.. أول مدرسة لتعليم الخط العربي بالمغرب الأقصى |
عَرف العصر السّعدي بالمغرب الأقصى تطوّرا وازدهارا كبيرا في مجالات عديدة، وخاصّة في عهد السّلطان أحمد المنصور السّعدي، الذي عمل على تقوية دولته عسكريّا واقتصاديّا واجتماعيّا، والذي أولى عناية خاصّة للجانب الفكري والعلمي، فأُلّفت في عهده مئات الكتب، وأجاز عليها مؤلّفيها من مغاربة ومشارقة، كما تمّ تعريب مؤلّفات الأوربيّين، وكان يأتيه الشّعراء وبلغاء الكتاب ونبغاء الفقهاء والعلماء من كلّ حدب وصوب[1] ، كما تزايدت في عصره المعاهد العلميّة، وكثر العلماء وطلبة العلم، وتعدّدت مجالات اختصاصاتهم [2].
ونجد من الصّناعات والفنون التي طالها الازدهار في هذا العصر: فنّ النّساخة والخطّ العربي، حيث أُسّس في عهده ولأوّل مرّة في المغرب مدرسة لتلقين الكتابة على حدة، ويتعلّق الأمر بإنشاء درس لتعليم الخطّ في جامع المواسين بمراكش[3] ، وهو المعروف بجامع الأشراف أو الشّرفاء، وكان تأسيس هذه المدرسة على يد أحمد المنصور السّعدي كما رجّح ذلك محمد المنوني، ووصف أنّها كانت تجربة أولى قابلة للانتشار في باقي أنحاء المغرب[4] ، وظهر فيها أعلام امتلكوا ناصية هذه الصّناعة، وكان من أشهر هؤلاء عبد العزيز بن عبد الله السكتاني (ت 999ه) [5]، شيخ النّساخين بالجامع.
عُرف هذا العَلم إتقانه للخطوط المغربيّة والأندلسيّة والمشرقيّة ، لينال بذلك شرف أن يكون أول من تصدّر لتعليم هذا الفنّ بجامع المواسين بمراكش، فكانت له المشيخة على النّساخين، قال عنه ابن القاضي: «وهو المقدّم لتعليم الخطّ بجامع الشّرفاء من مراكش المحروسة، كما هي العادة بالقاهرة وغيرها من بلاد المشرق»[6]، واعتمد السّكتاني في تدريسه لفنّ الخطّ العربي بهذه المدرسة على الطّريقة التي كانت معتمدة عند مدارس المشرق العربي، وهذا واضح من قول ابن القاضي: «كما هي العادة بالقاهرة وغيرها»، وقد تحدّث ابن خلدون عن هذه العادة التي سار عليها المشارقة في تعليم الخطوط العربيّة في مقدمته عندما قال: «وللخطّ بها معلّمون يرسمون للمتعلّم الحروف بقوانين في وضعها وأشكالها متعارفة بينهم، فلا يلبث المتعلّم أن يحكم أشكال تلك الحروف على تلك الأوضاع، وقد لقنها حسنا، وحذق فيها دربة وكتابة، وأخذها قوانين علميّة، فيجيء أحسن ما يكون» [7]
أقبل طلاّب هذا الفنّ على مدرسة المواسين لأجل تعلّم رسومه والتّمكن من أسراره، وكان هذا الإقبال من شتّى الأمصار، واعتبر محمد المنوني قول ابن القاضي: «وله المشيخة على النّساخين» دليلا على وفرة عدد النّساخين رغم أنّ المصادر لم تحفظ لنا إلاّ أقلّ القليل منهم[8] وذهب محمد حجي إلى القول بأنّ محترفو النّساخة في هذه المدرسة كانوا من المغاربة والمهاجرين الأندلسيّين والمشارقة، فكانوا يتعلّمون الخطّ بقوانين مضبوطة على نحو ما كان معروفا في حواضر الشّرق[9].
وخرّجت هذه المدرسة مجموعة من الخطّاطين والنّساخين الذين كان لهم دور كبير في نشر العلم عن طريق نسخ الكتب العلميّة والمصاحف وضبطها، مستعملين أساسا الخطوط المغربيّة المعروفة، كخطّ المبسوط، وخطّ المجوهر، إضافة إلى الخطّ المشرقي الذي كان يتقنه المغاربة ويبدعون فيه ويضفون عليه لمسة مغربيّة مميّزة، ومن الخطّاطين الذين نبغوا في هذا الفن وكتبوا بخطوط منوّعة نجد: محمد بن أحمد بن عيسى الصنهاجي (ت: 990ه)، الذي كانت له خطوط منوّعة في الحسن. ومحمد بن علي بن إبراهيم القشتالي (ت: 1021ه)، الذي وصف ابن القاضي خطاطته قائلا: يكتب خطوطا على أنواع، كلّها على جميل الانطباع. وإبراهيم بن يحيى بن إبراهيم الأقاوي، الذي يوجد بخطّه الشّرقي نسخة كاملة من «الروض المعطار في خير الأقطار» للحميري في مجلّدين، كتبها بمدينة مرّاكش، وفرغ من استنساخها يوم عاشوراء عام 1049هجرية. والسّلطان أحمد المنصور السّعدي (ت: 1012ه)، الذي كان يجيد الكتابة بالخط الشّرقي، ويكاتب به علماء المشارقة كأحسن ما يوجد في خطوطهم [10]
لقد انتشرت مراكز النّساخة والوراقة في ربوع المغرب، وعُرف ناسخو الكتب فيها بإجادة الخطوط المغربيّة والمشرقيّة، وضبط قوانينها ورسومها وأشكالها وأنواعها، وكانت هذه المراكز في الأرياف البعيدة تبعا لقيام إمارات أو زوايا كبرى في سفوح الأطلس المتوسّط والكبير، أو بسائط درعة، وهكذا ظهر ورّاقون في كلّ من زاوية الصّومعة ببني ملال، وزاوية تافيلالت شمالي مدينة تارودانت، وفي الإمارتين الدّلائية والإليغية، والزّاويتين النّاصريّة والحمزيّة [11].
كما كان للمنصور السّعدي ديوان للنّساخة في قصر البديع بمراكش لم نعرف تفاصيل أنظمته، حيث جاء في خاتمة المصحف المكتوب برسم نفس السّلطان: إنّه وقع الفراغ منه بجامع الإيوان الكريم من قصور الإمامة العليّة [12].
وقد بلغ الاهتمام بالنّساخة حتّى صار نسخ الكتب ظاهرة وصل أثرها إلى داخل السّجون، وفي هذا يقول محمد المنوني: «ومن الطّريف في ولوع المغاربة بالنّساخة، أنّه انبعث في هذا العصر ظاهرة الاشتغال بهذه المهنة داخل السّجون، فالأشراف العلويّون السّجلماسيون الذين كانوا في سجن المنصور السّعدي بمراكش، كانت النّساخة للكتب من بين موارد عيشهم في مدّة سجنهم، وعددهم أربعون، مات جلّهم بالسّجن.
ومن المنتسخات المكتوبة في المعتقلات السّعديّة مخطوط (خاصّ) من (مختصر تنبيه الأنام) لابن عظوم القيرواني، وقد جاء في آخره: (وكتبه بيده الفانية عبد الله وأقلّ عبيده... عامر بن عمار بن القبش الفرجيّ ثم الرحيوي... وكان الفراغ من نسخه يوم الأربعاء الأولة (كذا) من الفطر، سنة تسعة وتسعين وتسعمائة بسجن مراكش» [13]
ومن المسجونين الذين يجيدون الكتابة بعدّة خطوط نجد محمد بن أحمد بن عيسى الصّنهاجي، الفقيه الكاتب الأديب، الذي كان له نثر فائق ونظم لا بأس به، وخطوط منوّعة في الحسن، والذي توفّي في سجن مخدومه أبي العباس المنصور الشّريف بمدينة فاس، بقصبتها، سنة تسعين وتسعمائة هجريّة [14].
إنّ الدور الذي لعبه جامع المواسين بمراكش لتعليم وتكوين وتدريب الطّلبة على إتقان فنّ الخطّ والنّساخة والضّبط، جعل منه تجربة فريدة وغير مسبوقة في المغرب الأقصى، وهي تجربة حاولت عدّة مناطق بالمغرب أن تحذو حذوها كما ذكرنا، غير أنّه لم يُكتب لها الاستمرار، إذ أُقبرت بذهاب دولة السّعديين، لذا فإنّنا نجد المصادر لا تحتفظ بالكثير من المعلومات المتعلّقة بهذه المدرسة، ولا المصاحف والكتب التي نسخت بها، ولا عدد الكتب التي تمّ ترجمتها من اللّغات الأوربيّة إلى العربيّة، كما أنّنا لا نتوفّر على أسماء الخطّاطين والنسّاخين الذين مرّوا بهذه المدرسة واشتغلوا فيها إلاّ ما ندر.
الهوامش:
[1] انظر تصدير كتاب روضة الآس العاطرة الأنفاس، لأحمد بن محمد المقري، المطبعة الملكية-الرباط، الطبعة الثانية 1403ه- 1983م.
[2] انظر المغرب في عهد الدولة السعدية، لعبد الكريم كريم، منشورات جمعية المؤرخين المغاربة، لرباط المغرب، الطبعة الثانية 1427ه-2006م، ص: 307.
[3] انظر تاريخ العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية بالمغرب الأقصى، لعثمان عثمان إسماعيل، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى، 1993م، 5/154.
[4] انظر تاريخ الوراقة المغربية لمحمد المنوني، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 2، الطبعة الأولى 1412ه/1991م، ص: 75.
[5] انظر ترجمته في درة الحجال لأحمد بن محمد المكناسي الشهير بابن القاضي، تحقيق: محمد الأحمدي أبو النور، المكتبة العتيقة-تونس، دار التراث-القاهرة، 3/131. والإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، لأبي العباس بن إبراهيم السملالي، مراجعة: عبد الوهاب بن منصور، الطبعة الملكية 1413ه-1993م، الرباط، 8/433.
[6] انظر درة الحجال لابن القاضي، 3/131.
[7] مقدمة ابن خلدون، اعتنى به: أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية، ص: 213.
[8] انظر تاريخ الوراقة المغربية للمنوني، ص: 78.
[9] الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين، لمحمد حجي، 2/385-386.
[10] انظر تاريخ العمارة الإسلامية لعثمان عثمان إسماعيل، 5/154-155.
[11] تاريخ الوراقة المغربية للمنوني، ص: 82.
[12] انظر تاريخ العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية بالمغرب الأقصى، 5/155.
[13] تاريخ الوراقة المغربية للمنوني، ص: 82.
[14] انظر ترجمته في: سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، لمحمد بن جعفر الكتاني، تحقيق: عبد الله الكامل الكتاني، وحمزة بن محمد الطيب الكتاني ومحمد حمزة بن علي الكتاني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، مطبعة النجاح-الدار البيضاء، مج 3، رقم الترجمة: 1347. وجذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فاس، لأحمد ابن القاضي المكناسي، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، 1973م، ص: 326.
|