أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
الرحمان
 من أسمائه الحسنى سبحانه « الرّحمان» وهو الإسم الوحيد الذي جاء على صيغة فعلان وهي أكبر صيغة مبالغة في اللّسان العربي وهذا الإسم ـ مع أسماء أخرى قليلة ـ خاصّ به سبحانه، فلا يتسمّى به أحد غيره مهما بلغت درجة رحمته حتّى لو كان عبده محمد عليه الصّلاة والسّلام الذي شهد له هو سبحانه بصفة الرّحمة «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ»[1] أو قوله فيه سبحانه «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ »[2]. أو غير ذلك ممّا قيل في الرّحمة المهداة عليه الصّلاة والسّلام. 
تصدّر هذا الإسم سورة «السّبع المثاني» أي سورة «الصّلاة» كما سمّاها هو سبحانه في الحديث القدسي المعروف. وتصدّره هنا يعني تصدّره للكتاب الكريم كلّه وذلك عندما بدأ سبحانه بتعريف نفسه لعباده فقال على مسمع من يتلو القرآن الكريم لأوّل مرّة « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» [3]. تلك هي هوية الله سبحانه فهو «الرّحمان الرّحيم» بداية وهما الإسمان اللّذان توسّطا مفردات الهويّة الإلهيّة ليكون ربّ العالميـن سبحانـه رحمانـا رحيمـا، ويكـون هو نفســه سبحانــه رحمانــا رحيمــا حتّى وهو ملك يوم الدّين. 
وظلّ هذا الإسم يرد في الكتاب العزيز بزهاء ستّين مرّة لسورة مريم البتول العذراء عليها السّلام النّصيب الأوفر من ذلك الإسم في إشارة إلى أنّ «الرّحمان» سبحانه لا يتّخذ ولدا وليس كمثله شيء وليس له والد وبذلك تشمل رحمته التي وسعت كلّ شيء كلّ أحد. هذا عدا عن أسماء الرّحمة الأخرى من مثل «الرّحيم» و«الغفور» و«الحليم» و«الكريم» ومشتقّاتها، ممّا يحتلّ المرتبة الثّانية كما تقدّم معنا في المقدّمات وذلك بعد إخبارنا سبحانه عن نفسه أوّلا أنّه العليم الذي لا يغيب عنه شيء حتّى لو كان مستترا في غياهب الأفئدة. يريد منّا أن نعتقد في علمه وخبرته وسمعه وبصره حتّى نظلّ مشدودين إلى الرّقابة الإلهيّة العظمى النّافذة إلى كلّ مستور، فإذا وعينا ذلك فهو يريد منّا أن نعتقد في أنّ تلك الرّقابة الإلهيّة تغمر النّاس بالرّحمة الواسعة التي لا يحدّها حدّ أبدا ولذلك أبى إلاّ أن يعلمنا أنّه «الرّحمان» أوّلا وفي أوّل سورة ثمّ هو «الرّحيم» من بعد ذلك . 
مراعاة ذلك التّرتيب في أسمائه بحسب ورودها مهمّ جدّا لتكون الصّورة عن الله سبحانه صحيحة.
ما هو الغرض الأوّل من إسم « الرحمان» 
وهل نتمثّله؟
المقصد الأسنى من إخبارنا أنّ إسمه «الرّحمان» سبحانه مقصد مزدوج : المقصد الأوّل هو بثّ الأمل فينا بثّا لا يتسلّل إلى أحد منّا بعده اليأس منه أو القنوط مطلقا. كيف وهو «الرّحمان» بهذه الصّيغة التي طبقت آفاق المبالغة كلّها؟ ذلك أنّ الإنسان الملهم على الفجور ـ إلهامه على التّقوى ـ سرعان ما تضيق به النّائبات فيستبدّ به القنوط في إثر ما يتعرّض له إبتلاء في هذه الدّنيا المعدّة بالأساس الأول والأخير لنا دار إبتلاء. ومن ذا فإنّ إخباره إعتقادا أنّ ربّه سبحانه هو الرّحمان الذي لا يحدّ رحمته شيء وقد وسعت كلّ شيء يكتبها لكلّ تائب آئب مهما كان ذنبه من شأنه أن يملأ فؤاده رجاء فيه وأملا في نفسه أن يثوب من بعد وهدة. ذلك أنّ الحياة لا يطعم ريحها حيّ إذا كان لا يعتقد في إله رحمان لا يوصد أبوابه عن عبده التّائب كائنا ما كانت أفعاله السّابقة وأنّ مهمّة عمارة الأرض بالخير والعدل لا يمكن أن تكون إلاّ بنفس آملة راجية لا أمل للذّئب فيها أن يعضلها بالكلية. 
المقصد الثّاني من تسميه سبحانه بأنّه «رحمان» هو دقّة التّعريف بنفسه إلى عباده حتّى يكونوا على بيّنة من أمرهم، فلا يتّخذوا سواه سبحانه وليّا ولا إلها ولا معبودا مرجوّا فيه يتوجّهون إليه عند العسرات. قال سبحانه مفصّلا هذا الإسم بعد إسمه العلم المفرد في آخر سورة الإسراء المكّية «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ»[4]. في ذلك إشارة لطيفة إلى أنّ أحبّ أسمائه إليه بعد إسمه العلم المفرد الذي به يعرف هو إسم «الرحمان».
 صفة الرّحمة هي الصّفة التي فضّلها سبحانه لنفسه على الصّفات الأخرى ولذلك قدّمها في أوّل سورة جمعت إليها أعظم القضايا التي سيعالجها القرآن الكريم في باقي سوره من البقرة حتّى النّاس. 
وعندما يتعرّف الإنسان إلى ربّه معرفة حقيقية أنّه الرّحمان الرّحيم سبحانه، فإن عبادته إياه ستكون حتما صحيحة. وعندما يتعرف العابد إلى معبوده ثم تطيش به الجارحة عاصية فاسقة ـ كما طاشت بأبيه الأوّل آدم وقد أكل من الشجرة المحرمة عليه ـ فإنه يعلم علم اليقين مرة أخرى أن ربه رحمان رحيم لا يعييه أن يتوب على كل تائب ما لم يغرغر وما لم يكن في صدره كبر
هل لنا أن نتمثل صفة الرّحمة ؟
أجل. ذكر الإمام الغزالي ـ حجّة الإسلام المتوفي عام 505 ـ أنّ ذكر أسمائه الحسنى سبحانه من أغراضها التّمثل البشري لها لأنّ الله سبحانه له كلّ أسماء الجلال والجمال والكمال وأنّ الإنسان المعدّ في هذه الدّنيا ليكون ساكن الجنّة يوم القيامة يليق به أن يسير على درب الجلال والكمال والجمال من دون أن يصل ذلك إلى هرطقة  «حلاجية صوفيّة فاسقة» فيها زندقات الحلول والإتحاد ويظلّ الله سبحانه حتّى حيال أعبد عباده من الملك والنّبي «... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..» [4] سبحانه. 
من أسمائه ما هو محلّ تمثّل من الإنسان مع بقاء الإنسان عابدا والله معبودا وهي أكثر الأسماء ومنها ما هو ليس محلّ تمثّل من مثل أنّه «المتكبّر» سبحانه. «الرّحمان» سبحانه نتمثّل منه صفة الرّحمة وليس لنصل إلى درجة الرّحمان. ولكن أخبرنا أنّه «الرحمان» سبحانه ليغرس فينا حبّ الرّحمة والحلم والكرم والجود والسّخاء والعطاء والصّفح والتّجاوز والغفران على من يلينا سيّما من الضّعفة والمقهورين، بل إنّه سبحانه جعل ذلك شرطا لتنزل رحمته إذ قال عليه الصّلاة والسّلام «ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»[5]. وقوله عليه الصلاة والسلام «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ...»[6]. وأحاديث أخرى كثيرة تحرض النّاس على التّحلي بصفة الرّحمة تمثّلا لصفة الرّحمة الإلهّية.
خصوصية إسم الرحمان
كما سلف أن ذكر أنّ لإسم «الرحمان» وظيفة خاصّة بعد وظيفته العامّة وذلك لأنّه عادة ما يرد في مقابل نفي الشّريك عنه سبحانه والولد وغير ذلك ممّا إفترى عليه مشركو العرب الذين قالوا إنّه إتخذ الملائكة الإناث بزعمهم بنات وبمثله قالت اليهود «عزير إبن الله» وبمثل ذلك قالت النصارى «المسيح إبن الله». سبحانه. 
الملمح الخاصّ هنا هو أنّ الله سبحانه لا يمكن أن يكون في الآن نفسه هو «الرّحمان» واسع الرّحمة التي لا يحدّها شيء وهو مع ذلك صاحب الولد أو ما يمكن أن يرتبط به بعلاقة خاصّة عدا علاقة التّقوى، لأنّه في هذه الحالة لن يكون رحمانا رحمة واسعة لا يحدّها شيء بل سيكون رحيما رحمانا أكثر بولده أو بصاحبته سبحانه وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا. 
ذلك هو سرّ معالجة دعاوى النّقص والشّرك والولد وغير ذلك بإسم «الرّحمان». ولذلك إحتكرت سورة «مريم» كما مرّ بنا العدد الأوفر من هذا الإسم حتّى يوقن السّامع أنّ «الرّحمان» سبحانه لا يمكن بحال أن يكون بمثل ما إفترى النّصارى، عدا عن الوظيفة العامّة لهذا الإسم كما أنف الذّكر.
من مظاهر رحمته سبحانه
مظاهر رحمته لا يتّسع لها الكون كلّه ولكن يمكن التّذكير ببعض المواضع المبسوطة في الكتاب العزيز. ومن ذلك أنّه بسط أيدي الرّحمة سبحانه لأولئك الغلاظ الجلاف من جلاّدي الرّومان الذين أكرهوا مجموعة من بني إسرائيل على الكفر كما سرد لنا القصّة في سورة البروج المكّية. هؤلاء لم يقصروا الجريمة على الكفر ولكنّهم تجاوزوا ذلك ليفتنوا المؤمنين والمؤمنات معا على دينهم الذي إختاروه بحرّية وإرادة، فلما أبوا عليهم ذلك حفروا لهم خندقا ملؤوه نارا ثمّ زجّوا بهم فيه ومنهم مرضعة تحمل ولدها في حضنها وهو أحد الذين تكلّموا في المهد كما أخبر الصّادق المصدوق عليه الصّلاة والسّلام عن ذلك. ثم ظلّوا متّكئين على أرائكهم يرتشفون ما لذّ وطاب متلذّذين بطعم اللّحوم البشريّة التي تطحنها النّار طحنا ورياح الشّواء تزكم الأنوف. مشهد لا تتحمله السّباع العادية من ذوات الأنياب ولا الطّير الهاوية من ذوات المخالب. 
هؤلاء الذين جمعوا بين الكفر وبين القهر معا بسط الله «الرّحمان» سبحانه لهم أيدي الرّحمة ما تابوا من ذلك توبة نصوحا قبل الموت، إذ قال في آية هي الأرجى طرا مطلقا في الكتاب العزيز كلّه «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ»[7]. لك أن تتوقف سنة كاملة على قوله «ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا» لتسأل نفسك مرّات ومرّات : أبعد هذه الجريمة النّكراء الفظيعة تبسط لهم أيدي التّوبة؟ أجل. «الرحمان» سبحانه هو الذي بسط لهم ذلك فما على المؤمن الصّادق إلا أن يقول : سمعت وأطعت. هذا إمتحان لنا نحن أوّلا : هل نؤمن بأنّه «رحمان» سبحانه إلى هذه الدّرجة أم هو دون ذلك؟ لو سألت كثيرا من الشّباب المتديّن الحديث لما سرّه أن تبسط الرّحمة إلى هذه الدّرجة التي لا توافق الأهواء ولكنّها تصنع الأفئدة الصّادقة الحيّة على حبّ «الرّحمان» سبحانه حبّا ليس كمثله حبّ. كيف لا وهو الذي وسعت رحمته كلّ شيء؟ صحيح أنّ من تورّط في العادة في جرائم التّعذيب القاسية النّاكية الغالية لا يتوب. هذا صحيح. ولكن صحّة هذا لا تشغب على أنّه سبحانه هو «الرّحمان الرّحيم» الذي يبسط يده في الرّخاء ليتوب مسيء العسر. مسك هذا التّوازن يسير إلاّ على من حرّم نفسه لذّة النّظر والتّدبر. ألم يخبرنا عليه الصّلاة والسّلام عن رجل من بني إسرائيل لم يفعل في حياته خيرا عدا أنّه كان مؤمنا، فلمّا حضرته المنيّة أخبر بنيه بذلك وأمرهم بأن يحرقوه بعد موته وأن يتصيّدوا له يوما شديد العاصفة فيذروه حتّى لا يظفر به الله سبحانه، فيعذّبه. فلّما مات وفعلوا به ذلك أحياه سبحانه وسأله عمّا حمله على ما فعل فقال : خفتك . فكان ذلك الخوف كفيلا له من العذاب وأدخل الجنّة. 
صورة أخرى قد يعسر على كثير منّا قبولها لأنّنا نقيس الإلهيّة على الإنسانيّة ولأنّ العقول قد لا تدرك آمادا بعيدة من هذه الرّحمة غير المتناهية ولكن الإيمان الحقيقي هو من يحكّم خبر الله سبحانه في نفسه وليس من يحكّم عقله أو هواه في الله سبحانه. 
صورة أخرى تحقننا بأنّ الله سبحانه هو «الرّحمان» حقيقة وصدقا وعدلا، فلا تحول أي جريمة دون رحمته ما كانت جريمة وليس عنادا وكبرا بمثل ما فعل إبليس عندما دُعي إلى السّجود فعصى كبرا. فمن عصى جارحة وشهوة لا كبرا، فتاب قبل موته، فإنّ الله سبحانه يبشّره بالرّحمة لأنّه هو الرّحمان الرّحيم سبحانه.
الإيمان برحمانية الرحمان سبحانه 
كفيل بالرّحمة
من أعجب الأحاديث القدسيّة الصّحيحة قوله سبحانه «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ...» [8]. والظنّ في القرآن الكريم وفي أصل اللّسان العربي هو اليقين والإعتقاد الرّاسخ وليس الشكّ أو الرّيب كما يروج اليوم، ولذلك ورد في القرآن الكريم كلّه تقريبا إلاّ مواضع معدودة بمعنى اليقين. معنى الحديث هو إذن : أنا عند إعتقاد عبدي بي. فإن إعتقد عبدي وأيقن أنّي رحمان، رحيم، حليم، كريم، غفور، فأنا له كذلك وإن إعتقد ضدّ ذلك فأنا له كذلك. تصريف عجيب معناه أنّ الإنسان مسؤول عن مكانه يوم القيامة بحسب إعتقاده ويقينه في ربّه سبحانه وأنّ حسن تصوّر الله سبحانه هو الكفيل بالموطن العالي والمنزل الكبير في الجنّة وأنّ سوء التّصور عنه سبحانه كفيل كذلك بمنزل أدنى بل ربّما بمنزل سوء والعياذ بالله. 
معنى الحديث القدسي هو أنّ الله سبحانه يعامل عبده بحسب ما يحمل عليه هو من صورة فإن كانت الصّورة أنّه سبحانه هو الرّحمان، الرّحيم، التّواب، الغفور، الحليم، فهو لاق مثل ذلك مادام مؤمنا لأنّ الإيمان هو مفتاح العمليّة كلّها وإن كان مؤمنا ـ وهو خلاف الأصل ـ ولكنّه لا يثق كثيرا في رحمانيته فإنّ ثوابه يوم القيامة لن يكون جزيلا قطعا. ذلك هو معنى قولهم أنّ عبادة الفؤاد أجزل ثوابا من عبادة الجارحة وأنّ معصيته أرذل عقابا من معصية الجارحة
الهوامش: ‏
[1] سورة التوبة  - الأية 128
[2] سورة الأنبياء  - الأية 107
[3] سورة الفاتحة  - الأيات من 1 إلى 3
[4] سورة الإسراء  - الأية 110
[5] رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي، وآخرون.
[6] رواه الترمذي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
[7] سورة البروج  - الأية 10
[8] من حديث لأبي هريرة، متَّفقٌ عليهِ، رياض الصالحين 1435/28