تحت المجهر

بقلم
حمزة شرعي
العوامل المفضية إلى ظهور المذاهب الكلامية (1)
تمهيد
‏لم ينشأ علم الكلام عند المسلمين دفعة واحدة، ولم تكن نشأته ثمرة أو  نتيجة لعامل ‏أو سبب واحد، بل كانت نتيجة لعوامل متعددة: سياسية واجتماعية وعلمية وثقافية، «اقتضت ‏وجوده على الصورة التي نراه عليها في تاريخ الفكر الإسلامي. فهناك عوامل منبعثة من داخل ‏الجماعة الإسلامية ذاتها، كالخلاف حول بعض النصوص الدينية، مما أدى إلى اختلاف ‏وجهات النظر في تفسير العقائد، والخوض في مشكلات عقائدية نظرية لم يعرفها الجيل الأول ‏من المسلمين، وكالخلاف السياسي الحادث حول مسألة الإمامة، وهو الخلاف الذي أدى إلى ‏ظهور الفرق، وهو إن كان سياسيا في منشئه، إلا أنه تطور فأصبح متعلقا بالعقائد. وهناك ‏عوامل وافدة من خارج إلى الجماعة الإسلامية، أعانت على وجود علم الكلام وازدهاره، وذلك ‏مثل التقاء الاسلام بحضارات وديانات الأمم المفتوحة، مما ترتب عليه صراع عقائدي بينها ‏وبينه، ومثل حركة الترجمة التي ترتب عليها انتقال الفلسفة اليونانية إلى المسلمين، ووجود ‏نشاط فكري هائل امتد أثره، فيما امتد إليه، إلى علم الكلام، أو علم العقائد الإسلامية» [1]‎‏ ‏.‏
فقد واجهت العقل المسلم أسئلة فكرية متعددة، اقتضتها ظروف الجماعة المسلمة، وتجاربها ‏الصحيحة والخاطئة، ولذلك نشأ علم الكلام نشأة إسلامية تلبية لحاجات المجتمع الإسلامي، ‏لأنه العلم الذي يبحث في الأصول أو الأحكام الإعتقادية، مقررا إياها بالحجج والبراهين النقلية ‏وتوكيدها بالعقل بعد الإيمان بها بالقلب والوجدان، ومدافعا عنها ضد شبهات الخصوم من ‏داخل الجسم الإسلامي أو خارجه، وهو الأمر الذي حدا بالمتكلمين إلى دراسة هذه الشبهات ‏والاعتراضات، وذلك حتى يتيسر الرد عليها ودفعها.‏
ولعل هذا هو الذي أدى بالمتكلمين إلى دراسة عقائد الأديان السماوية الأخرى، وكذلك أصحاب ‏الملل والنحل المختلفة وما أثاروه من شبهات واعتراضات ضد الإسلام، وذلك حتى يتيسر لهم رد اعتراضاتهم وشبهاتهم.‏
«فلقد لعب علم الكلام دورا كبيرا في فجر الإسلام، حيث إنه دافع عن الدين الجديد آنذاك ضد ‏التيارات والثقافات الأجنبية، التي كانت موجودة في البيئة العربية (قبل وأثناء وبعد نزول ‏القرآن)، ومع أن هذه الثقافات الأجنبية المتعددة مختلفة فيما بينها، إلا أنها كلها قد صبت ‏هجومها ووحدته تجاه الدين الإسلامي الجديد، ذلك أن الموضوعات التي تبحثها هذه الثقافات ‏والديانات إما أن تكون متعلقة بالله أو الإنسان أو العالم. ولما كان الدين الجديد يتحدث عن ‏هذه الموضوعات بعينها ويوضح فيها رأيه ويقدم الحلول لبعضها، ويثير التساؤل حول البعض ‏الآخر، ولما كانت هذه الحلول تختلف إلى حد كبير عن تلك التي قدمتها الثقافات والديانات ‏الأخرى، ولما كانت التصورات الخاصة بالله والإنسان والعالم تختلف في الإسلام، إلى حد كبير ‏أيضا، عن تلك التصورات التي توجد في الثقافات الأخرى، فإن ذلك كله أدى إلى أن يصطدم ‏الدين الجديد بالديانات الأخرى التي كانت سابقة عليه وهي تلك الديانات المنزلة (اليهودية ‏والمسيحية) أو غير المنزلة وأقصد بها الزرادشتية والمانوية وغيرهما. وكذلك فإن هذا الدين ‏الجديد وجد نفسه وجها لوجه أمام الفلسفة اليونانية تلك الفلسفة التي آمنت بقدم العالم ‏وبإنكار الخلق من العدم...إلخ»[2]‎‏، ومن هنا اختلط بعلم الكلام بعض المباحث، استعانوا بها في ‏عملية الرد على شبهات الخصوم، وكان ذلك أمرا ضروريا لأن أفضل وسيلة لدفع الخصوم هو ‏أن يكون هذا الدفع بوسائل الخصوم التي اعتادوها.‏
ولم يكن اشتغال الأمة بهذه الأفكار ودراستها من باب الترف الفكري، بل كان ضرورة لمواجهة ‏الأخطار التي تحدق بالعقيدة الإسلامية، إذ كان الخصوم يثيرون الشبهات العقلية حول ذات ‏الله وأسمائه وصفاته ورسله وملائكته وكتبه وقضايا الموت والبعث والحساب، إلى غير ذلك، ‏‏«وكان على الدين الجديد أن يدافع عن نفسه، أو بتعبير أدق عن حياته ووجوده، أمام هذه ‏التيارات»‏[3]. ولم يكن المنهج الأثري القائم على نصوص الكتاب والسنة المجردة عن دعم ‏الدليل العقلي لينجح في مواجهة هؤلاء القوم، فالحجج العقلية المحضة لابد أن تواجهها ‏بنفس طريقتها وإلا ستصير فتن كبرى.‏
وتأتي الحاجة إلى دراسة هذا العلم وأمثاله مما يوصل إلى معرفة أصول الدين، من وجوب ‏معرفة أصول الدين على كل إنسان توافرت فيه شروط التكليف الشرعي والإلزام الديني. ووجوب ‏النظر في قواعد العقائد ومعرفتها وجوبا عقليّا، أوجبته الفطرة السليمة الملزمة بالتمسك ‏بالدين والالتزام بأحكامه وتعليماته. ولقد كان الدافع الرئيس هو الحرص على الإسلام والدعوة ‏إليه، ورد شبهات الأعداء عنه، وتفنيد حجج الطاعنين به من الكفار والمشركين خارج الدعوة ‏الإسلامية، والملحدين الذين انضووا تحت لواء المسلمين، وتستروا بالباطنية وغيرها من الفرق ‏الضالة، للدس على الإسلام، والتشكيك فيه، وإثارة الشبهات بين المسلمين، فصار دراسة أصول ‏الدين وعلم الكلام وتدريسه والتأليف فيه السبيل القويم أمام المسلمين.‏
‏          في علم الكلام؛ المقصود به، المقصود منه، مسمياته
‏لعل موضوع اهتمام المذاهب الكلامية جميعها، وبلا استثناء واحد، فهم متفقون على ‏الأصول الإسلامية كالتوحيد والعدل، والقضاء والقدر...، لكنهم مختلفون في طريقة فهم هذه ‏الأصول بعينها، تبعا لاختلاف المنهج الذي آمنت به واتبعته لمعالجة هذه الموضوعات. ‏وتتعلق موضوعات علم الكلام «بالأصول الدينية: كالبحث في ذات الله تعالى وصفاته ‏وأفعاله...، وفي أحكام الشريعة من: بعثة الرّسل ونصب الأئمة والتكليف والثواب والعقاب...، ‏يتناولها بحسب ما وردت في الشريعة أمرا مقررا لا مدخل للشك فيه محاولا أن ‏يؤيدها بالأدلة العقلية، حتى يكون الإيمان بها أشد وثوقا، وأكثر توكيدا لاجتماع دليلي النقل ‏والعقل معا، فضلا عن أن الدليل العقلي هو السبيل إلى إثبات هذه الأصول على المخالفين من ‏أصحاب الأديان المخالفة» [4].‏
وموضوع علم الكلام هو النظر أي الاستدلال بخلق الله تعالى في كتابه المشهود لإثبات وجوده ‏وصفاته الكمالية، وفي كتابه المقروء بشقيه - كتابا وسنة – المستخرج منها البراهين، وهو على ‏قانون الإسلام، إذ علماء التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادا ‏على مجرد النظر بالعقل، فالعقل عندهم شاهد للشرع ليس أصلا للدين، إذ علم الكلام «يأخذ ‏من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع ‏بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد» [5] .‏
وسنحاول في هذا المبحث أن نبين حقيقة علم الكلام ومقصده ومسمّياته وذلك على النحو التالي:‏
‏(1) ماهية علم الكلام
للعلماء في تعريف علم الكلام عبارات مختلفة، كثيرا ما تدلّ على الاختلاف في وجهات النظر، ‏وفيما يلي جملة من تعريفات العلماء لهذا العلم:‏
‏- أبو نصر الفارابي (توفي 339هـ): «وصناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال ‏المحدودة التي صرح بها واضع الملّة وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل» [6].‏
‏- عضد الدين القاضي عبد الرحمان الإيجي (توفي 756هـ): «والكلام علم يقتدر معه على إثبات ‏العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون ‏العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الخصم وإن خطأناه لا ‏نخرجه من علماء الكلام...»[7]‏
‏- عبد الرحمان ابن خلدون (توفي 808هـ): «هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية ‏بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، ‏وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد»[8] ‏
وبالنظر إلى التعريفات السابقة فإنّه يمكن القول أن: ‏
‏- علم الكلام يقوم بالأساس على النّظر العقلي في العقائد الإيمانيّة وتبيينها.‏
‏- علم الكلام يعنى بإثبات العقائد الدّينية بالبراهين العقليّة - كون العقائد الإيمانية ثابتة بالسّمع ‏أصالة، ووظيفة العقل تبعا النّظر فيها نظر التماس الاستدلال والبرهان النظري -.‏
‏- علم الكلام يضطلع بمهمّة الدّفاع عن العقائد الإيمانيّة، وذلك بالرّد على المبتدعة المنحرفين ‏عن مذاهب أهل السّنة والجماعة في الإعتقاد.‏
‏- علم الكلام غير علم الإلهيّات الذي اشتغلت به طائفة من الفلاسفة، فهو دفاع على قانون ‏الإسلام المنسوب إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم، إذ دفاع المنحرف عن مذاهب السّلف ‏من أهل السّنة والجماعة في الإعتقادات لا يوصف بالكلام.‏
‏(2) مقصده
لعل مقصد علم الكلام ينصب على إثبات وإيضاح وبسط أركان الإيمان، وهذا العرض ‏والإيضاح والبسط متوجّه بالأساس إلى المؤمن الموافق تثبيتا، وإلى المنحرف في الإعتقادات ‏عن مذاهب أهل السّنة والجماعة تقويما ودعوة. ‏وبناء عليه، فإنّ علم الكلام عند نشأته وفي كثير من عصوره قصد:‏
‎1‎‏/ بيان العقائد الإسلامية، والبرهنة على صدقها بالأدلة العقلية.‏
‎2‎‏/ الرد على الشبهات التي كان يثيرها المخالفون على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، ومناقشة ‏عقائدهم، وتقديم البراهين والحجج على بطلانها وبيان زيفها.‏
وهذان المقصدان نفسهما لا غيرهما أكدهما غير واحد من العلماء المهتمين بعلم الكلام‏‏- قديما وحديثا -، وقد قرر القاضي عضد الدين والملّة الإيجي في كتابه «المواقف» أنّ ‏المقصود من علم الكلام فوائد وفضائل خمسة وهي أمور: ‏
الأول: الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان...[9]
الثاني: إرشاد المسترشدين بإيضاح الحجة، وإلزام المعاندين بإقامة الحجة.‏
الثالث: حفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين.‏
الرابع: أن تبنى عليه العلوم الشرعية فإنه أساسها وإليه يؤول أخذها واقتباسها.‏
الخامس: صحة النية والإعتقاد، إذ بها يرجى قبول العمل وغاية ذلك كله الفوز بسعادة ‏الدارين.‏
ويتفق كلام القاضي الإيجي مع ما سبق أن قرره الإمام أبو حامد الغزالي الذي بين أن مقصد ‏علم الكلام هو: «حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة»[10].‏
ومنه، فقد خلصنا إلى أن علم الكلام له مقصدان أو غايتان، الغاية الأولى يتوجه بها إلى ‏المسلمين المؤمنين الموافقين، وهي ما يمكن أن نطلق عليها اسم مناعة الجسم الإسلامي ‏وذلك بتكوين حصانة فكرية لكل فرد من أفراد المجتمع المسلم، قوامها الجمع بين النقل ‏والعقل في تحديد قضايا البحث العقدي، بغية تحقيق الخلاص الفردي - فكلما ازدادت ‏معرفة المؤمن بربه ازداد إيمانه به - كمرحلة أولى، ثم تليها بعد ذلك مرحلة الخلاص ‏الجماعي تكون الأمة فيها عالمة مدركة إدراكا جازما ناشئا عن دليل لمسائل الإعتقادات، إذ ‏‏«غاية الكلام أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متيقنا محكما لا تزلزله شبه ‏المبطلين، ومنفعته في الدنيا انتظام أمر المعاش بالمحافظة على العدل والمعاملة التي يحتاج ‏إليها في بقاء النوع على وجه لا يؤدي إلى الفساد، وفي الآخرة النجاة من العذاب المرتب على ‏الكفر وسوء الإعتقاد»[11].‏
ثم غاية ثانية متوجهة إلى غير المسلمين المخالفين، إذ لا يوجه علم العقيدة اهتمامه إلى ‏المسلمين وحسب، بل إنه يوجه خطابه إلى غير المسلمين أيضا، باعتبار أن الدين للعالمين ‏أجمعين، وهؤلاء القوم لابد أن يوجه الخطاب إليهم بمنهج يتفق وطرائق تفكيرهم بغية ‏إقناعهم، وتقريب صورة الإسلام الحقيقية من قلوبهم وإعلاء حجة الدين الحق في ‏عقولهم، ولا يمكن للمنهج الأثري القائم على نصوص الكتاب والسنة المجردة عن دعم ‏الدليل العقلي أن ينجح في مواجهة هؤلاء القوم، والرد على الشبه التي يثيرونها كيدا أو ‏جهلا، فالحجج العقلية المحضة لابد أن تواجهها بنفس طريقتها وإلا فلا ثمرة. ‏
ولقد هبّ الذين آمنوا بالنص الديني الجديد من المتكلمين بداية إلى استيعابه استيعابا قائما ‏على الجمع بين صفو الشرع وصفو العقل، فقرروا أنه لا تعارض بين منطق العقل و بين ‏منطق الوحي، ثم وجهوا نظرهم إلى الثقافات الأخرى التي وقفت لهذا الدين بالمرصاد، ‏ليقفوا على تهافتها، فكشفوا النقاب عن بعض التناقضات والحجج الواهية التي يلجأ إليها ‏بعض المفكرين والفلاسفة في معاندة الدين الإسلامي والتقليل من شأنه، ثم انطلقوا بعد ‏ذلك للدفاع عن حمى العقائد الدينية، فهم «جميعا متفقين على ضرورة مواجهة الثقافات ‏الأجنبية والتصدي لها وضرورة بيان تهافتها على صخرتي العقل والنص الديني الجديد، ومع ‏أن هذا ‏الهدف قد وحد المتكلمين صوبه، إلا أننا، من جهة أخرى، نجد أن الاختلافات بدأت تستعر ‏بين المتكلمين، الأمر الذي أدى إلى فرقتهم وتشيع بعضهم لهذا وتشيع البعض الآخر ‏لذاك»[12].‏
ولنا وقفة في أسباب هذا التفرق في معرض بيان سياقات نشأة علم الكلام، وهي وقفة لن ‏تكون طويلة - مع شدة الحاجة إلى هذا الوقوف الطويل- ، لأن مثل هذه الخطوة تحتاج إلى ‏عمل مستقل.‏
‏(3) مسمياته
لقد ذكرت لهذا العلم الباحث في المسائل الاعتقادية مسميات أخرى، حيث تطلق ويراد ‏منها ما يراد من مسمى العقيدة، وهذه التسميات تعددت بفعل ملابسات تاريخية متداخلة ‏ومتشابكة ساهمت في ظهورها، وتجدر الإشارة إلى أن لكل تسمية وجهها وسببها، وسنذكر ‏هذه التسميات مع وجوهها على النحو التالي: ‏
أ- علم العقيدة: و«ذلك لأنه يبحث في العقائد الإسلامية حتى يؤمن بها المخالفون»[13].‏
وقد أطلقت هذه التسمية باعتبار الموضوع، ذلك أن هذا العلم يبحث عن العقائد التي ‏يعتنقها الإنسان، ولأجل كونه يبحث في مسائل وقضايا ترتبط بالمعتقد، والعلم بهذه ‏القضايا علم بالعقيدة، فسمي بعلم العقيدة.‏
وفي هذه التسمية:‏
‏1.‏ إعلان عن اشتغال هذا العلم بقضايا البحث العقدي.‏
‏2.‏ تشريف لهذا العلم بوصفه يؤكد الواجبات الدينية وهي الإعتقادات.‏
‏3.‏ دعوة للإهتمام بشكل مستقل باعتقاد المسلم.‏
ب- علم التوحيد:  وهذه التسمية «راجعة إلى أنه يضع التوحيد عقيدة أساسية تستخرج
منها باقي العقائد الأخرى بالاستدلال، فصار التوحيد أهم موضوعاته، فسمي العلم بأشرف ‏أجزائه، وهذا الاسم هو الذي يفضله الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد وكذلك يسميه ‏بعلم الذات والصفات ذلك لأنه يبحث في صفات الله تعالى، والتي تعد من أهم مباحثه»[14]. ‏
فقد ألفت عدة كتب بهذا العنوان، وقد أطلق هذا الاسم لأن مبحث الوحدانية هو أشرف ‏مباحثه على الإطلاق من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، وقيل: لأن توحيد الله هو الركن ‏الذي تقوم عليه سائر الأركان، فأطلقت هذه التسمية لأن الهدف من قيام هذا العلم هو ‏تحقيق وحدانيته سبحانه وتعالى ذاتا وصفاتا وأفعالا، ثم تمييزا للتصور الإسلامي عن غيره، ‏وإن كان هذا ليس مضطردا على جميع الكتب التي ألفت بهذا العنوان، ومن الكتب التي ‏كتبت تحت هذا العنوان: كتاب «التوحيد» لأبي بكر بن إسحاق بن خزيمة (توفي 311هـ)، ثم ‏كتاب «التوحيد» لأبي منصور الماتريدي (توفي 333هـ)، وكتاب «التوحيد» لمحمد بن عبد ‏الوهاب (توفي 1206هـ)، و«رسالة التوحيد» لمحمد عبده (توفي 1323هـ).‏
ج- علم الكلام: وهو أشهر التسميات المتداولة لهذا العلم، وقد قيل: أن أول من استعمل ‏هذا التعبير ابن النديم (توفي 384هـ) في كتابه «الفهرست»، حيث خصص الباب الخامس ‏من نفس الكتاب لأهل الكلام.‏
وقد وردت أقوال كثيرة تفسر سبب تسمية هذا العلم بعلم الكلام ذكرها القاضي عضد الدين ‏الإيجي بقوله: «إنما سمي كلاما إما لأنه بايزاء المنطق للفلاسفة، أو لأن أبوابه عنونت أولا ‏بالكلام في كذا، أو لأن مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه، ‏أو لأنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم»[15].‏
كما أضاف الإمام النسفي إلى جانب هذه التفاسير أربعة تفاسير أخرى هي: الأول؛ «لأنه إنما ‏يتحقق بالمباحثة، وإدارة الكلام من الجانبين وغيره قد يتحقق بمطالعة الكتب والتأمل»[16]. وفيه إشارة إلى أن غير علم الكلام قد يتحقق بالمطالعة والنظر دون الحاجة إلى المباحثة ‏وإدارة الكلام، ومثاله معرفة الفقه فإنها تتحقق بمطالعة الكتب والنظر في الأدلة الإجمالية، ‏ثم استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.‏
والثاني؛ «لأنه أكثر العلوم نزاعا وخلافا، فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والرد ‏عليهم»[17].‏
والثالث؛ «لأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم، كما يقال للأقوى من ‏الكلامين – هذا هو الكلام -»[18]. ‏
والرابع؛ «لأنه لابتنائه على الأدلة القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية، كان أشد العلوم ‏تأثيرا في القلب وتغلغلا فيه، فسمي - بالكلام - المشتق من - الكلم - وهو الجرح»[19]. ‏
د- أصول الدين: و«ترجع تسميته بعلم أصول الدين، لأن مسائله هي أساس الدين وأصوله، ‏فهو يستدل على أصول العقيدة الإسلامية ويؤسسها على العقل، وهو الاسم الذي غلب ‏عليه في المصنفات المتأخرة»[20]. وقد قيل: أنه سمي بهذه التسمية تمييزا لقضايا الأصول ‏‏(العقيدة) عن قضايا الفروع (الفقه).‏
ومن الكتب التي ألفت بهذا العنوان: كتاب «أصول الدين» للإمام عبد القاهر البغدادي، ‏و»الأربعين في أصول الدين» للإمام الغزالي وبعده للفخر الرازي.‏
ه- الفقه الأكبر: وترجع هذه التسمية «إلى تمييز مباحثه عن مباحث الفقه العملية والتي ‏تسمى بالفقه الأصغر، فكلاهما علم أصول إلا أن علم الكلام يؤسس النظر، بينما الفقه ‏يؤسس العمل ومعنى الفقه هو العلم، وعلم الكلام هو العلم الأكبر لأنه يكون الإيمان، وهو ‏أصل العمل والطاعة فيكون الفقه فرعا لهذا الأصل، فيسمى بالفقه الأصغر»[21]. وهذا الإسم ‏يشير إلى أن العلم بأصول الدين يأتي في المقام الأول، فهو الفقه الأكبر، وبالتالي يسبق العلم ‏به العلم بالفقه الذي يبنى عليه وهو مايسمى بفقه الشريعة.‏ وهذه التسمية تنسب إلى الإمام أبي حنيفة النعمان (توفي 150هـ)، حيث ينسب العلماء إليه ‏كتاب «الفقه الأكبر»، وهناك كتاب آخر بنفس العنوان ينسب للإمام الشافعي. ‏
وهناك تسميات أخرى أقل شهرة من التي ذكرنا، وكل تسمية كانت لمناسبة خاصة اقتضت ‏تسميته بها.‏
الهوامش
‎ [1]‎‏ ‏د. أبو الوفا الغنيمي التفتزاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، ص6، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ‏القاهرة، الطبعة الثانية، بدون تاريخ نشر.‏.‏
[2]‎‏ و[3] ‏ ‏د. فيصل بدير عون، علم الكلام ومدارسه، ص: 8، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الفجالة، القاهرة، مصر، الطبعة ‏الثانية، بدون تاريخ نشر.‏ 
‎‏‏[4] د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، ص: 187، دار الثقافة والنشر والتوزيع، الفجالة، القاهرة، ‏مصر، طبعة: 1987م.‏
‎‏‏[5] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت: 505هـ)، المستصفى من علم الأصول، ج1، ص3، طبعة: ‏المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1322هـ.‏
[6] أبو نصر محمد الفارابي، إحصاء العلوم، قدم له وشرحه وبوبه: الدكتور علي بو ملحم، ص: 86، دار ومكتبة ‏الهلال، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1996م.‏
[7] القاضي عبد الرحمان عضد الدين الإيجي، (توفي 756هـ)، المواقف في علم الكلام، ص: 7، طبعة: عالم الكتب، ‏بيروت، بدون تاريخ نشر.‏.‏
[8] ولي الدين عبد الرحمان بن محمد بن خلدون، المقدمة، حقق نصوصه، وخرج أحاديثه، وعلق عليه: عبد الله ‏محمد الدرويش، ج: 2، ص: 205، دار يعرب، دمشق، الطبعة الأولى، 1425هـ – 2004م.‏
[9] القاضي عضد الدين الإيجي، المواقف في علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 8.‏
[10] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق: د. عبد الحليم محمود، مع أبحاث في التصوف، ص: 118، طبع دار ‏الكتب الحديثية، مصر، ط7، 1992م.‏
[11] مسعود بن عمر الشهير بسعد الدين التفتازاني (ت: 792هـ)، شرح المقاصد في علم الكلام، تحقيق: د. ‏عبدالرحمن عميرة، ص: 175، منشورات الشريف الرضي، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1409هـ/ 1989م.
[12] د. فيصل بدير عون، علم الكلام ومدارسه، (مرجع سابق)، ص: 9.‏ ‏
[13] د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 16.‏
[14] د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 16.‏
[15] القاضي عضد الدين الإيجي، المواقف في علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 8.‏
[16] مسعود بن عمر الشهير بسعد الدين التفتازاني، شرح العقائد النسفية مع حاشيته، تقديم: مجلس المدينة ‏العلمية، ص: 54، مكتبة المدينة للطباعة والنشر والتوزيع، كراتشي، باكستان، الطبعة الأولى، 1430هـ/ ‏‏2009م.‏
[17]  المرجع السابق، نفس الصفحة.‏
[18]  المرجع السابق، نفس الصفحة.‏
[19]  المرجع السابق، ص: 55.‏
[20]  د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 15.‏