تحت المجهر
بقلم |
حمزة شرعي |
العوامل المفضية إلى ظهور المذاهب الكلامية (1) |
تمهيد
لم ينشأ علم الكلام عند المسلمين دفعة واحدة، ولم تكن نشأته ثمرة أو نتيجة لعامل أو سبب واحد، بل كانت نتيجة لعوامل متعددة: سياسية واجتماعية وعلمية وثقافية، «اقتضت وجوده على الصورة التي نراه عليها في تاريخ الفكر الإسلامي. فهناك عوامل منبعثة من داخل الجماعة الإسلامية ذاتها، كالخلاف حول بعض النصوص الدينية، مما أدى إلى اختلاف وجهات النظر في تفسير العقائد، والخوض في مشكلات عقائدية نظرية لم يعرفها الجيل الأول من المسلمين، وكالخلاف السياسي الحادث حول مسألة الإمامة، وهو الخلاف الذي أدى إلى ظهور الفرق، وهو إن كان سياسيا في منشئه، إلا أنه تطور فأصبح متعلقا بالعقائد. وهناك عوامل وافدة من خارج إلى الجماعة الإسلامية، أعانت على وجود علم الكلام وازدهاره، وذلك مثل التقاء الاسلام بحضارات وديانات الأمم المفتوحة، مما ترتب عليه صراع عقائدي بينها وبينه، ومثل حركة الترجمة التي ترتب عليها انتقال الفلسفة اليونانية إلى المسلمين، ووجود نشاط فكري هائل امتد أثره، فيما امتد إليه، إلى علم الكلام، أو علم العقائد الإسلامية» [1] .
فقد واجهت العقل المسلم أسئلة فكرية متعددة، اقتضتها ظروف الجماعة المسلمة، وتجاربها الصحيحة والخاطئة، ولذلك نشأ علم الكلام نشأة إسلامية تلبية لحاجات المجتمع الإسلامي، لأنه العلم الذي يبحث في الأصول أو الأحكام الإعتقادية، مقررا إياها بالحجج والبراهين النقلية وتوكيدها بالعقل بعد الإيمان بها بالقلب والوجدان، ومدافعا عنها ضد شبهات الخصوم من داخل الجسم الإسلامي أو خارجه، وهو الأمر الذي حدا بالمتكلمين إلى دراسة هذه الشبهات والاعتراضات، وذلك حتى يتيسر الرد عليها ودفعها.
ولعل هذا هو الذي أدى بالمتكلمين إلى دراسة عقائد الأديان السماوية الأخرى، وكذلك أصحاب الملل والنحل المختلفة وما أثاروه من شبهات واعتراضات ضد الإسلام، وذلك حتى يتيسر لهم رد اعتراضاتهم وشبهاتهم.
«فلقد لعب علم الكلام دورا كبيرا في فجر الإسلام، حيث إنه دافع عن الدين الجديد آنذاك ضد التيارات والثقافات الأجنبية، التي كانت موجودة في البيئة العربية (قبل وأثناء وبعد نزول القرآن)، ومع أن هذه الثقافات الأجنبية المتعددة مختلفة فيما بينها، إلا أنها كلها قد صبت هجومها ووحدته تجاه الدين الإسلامي الجديد، ذلك أن الموضوعات التي تبحثها هذه الثقافات والديانات إما أن تكون متعلقة بالله أو الإنسان أو العالم. ولما كان الدين الجديد يتحدث عن هذه الموضوعات بعينها ويوضح فيها رأيه ويقدم الحلول لبعضها، ويثير التساؤل حول البعض الآخر، ولما كانت هذه الحلول تختلف إلى حد كبير عن تلك التي قدمتها الثقافات والديانات الأخرى، ولما كانت التصورات الخاصة بالله والإنسان والعالم تختلف في الإسلام، إلى حد كبير أيضا، عن تلك التصورات التي توجد في الثقافات الأخرى، فإن ذلك كله أدى إلى أن يصطدم الدين الجديد بالديانات الأخرى التي كانت سابقة عليه وهي تلك الديانات المنزلة (اليهودية والمسيحية) أو غير المنزلة وأقصد بها الزرادشتية والمانوية وغيرهما. وكذلك فإن هذا الدين الجديد وجد نفسه وجها لوجه أمام الفلسفة اليونانية تلك الفلسفة التي آمنت بقدم العالم وبإنكار الخلق من العدم...إلخ»[2]، ومن هنا اختلط بعلم الكلام بعض المباحث، استعانوا بها في عملية الرد على شبهات الخصوم، وكان ذلك أمرا ضروريا لأن أفضل وسيلة لدفع الخصوم هو أن يكون هذا الدفع بوسائل الخصوم التي اعتادوها.
ولم يكن اشتغال الأمة بهذه الأفكار ودراستها من باب الترف الفكري، بل كان ضرورة لمواجهة الأخطار التي تحدق بالعقيدة الإسلامية، إذ كان الخصوم يثيرون الشبهات العقلية حول ذات الله وأسمائه وصفاته ورسله وملائكته وكتبه وقضايا الموت والبعث والحساب، إلى غير ذلك، «وكان على الدين الجديد أن يدافع عن نفسه، أو بتعبير أدق عن حياته ووجوده، أمام هذه التيارات»[3]. ولم يكن المنهج الأثري القائم على نصوص الكتاب والسنة المجردة عن دعم الدليل العقلي لينجح في مواجهة هؤلاء القوم، فالحجج العقلية المحضة لابد أن تواجهها بنفس طريقتها وإلا ستصير فتن كبرى.
وتأتي الحاجة إلى دراسة هذا العلم وأمثاله مما يوصل إلى معرفة أصول الدين، من وجوب معرفة أصول الدين على كل إنسان توافرت فيه شروط التكليف الشرعي والإلزام الديني. ووجوب النظر في قواعد العقائد ومعرفتها وجوبا عقليّا، أوجبته الفطرة السليمة الملزمة بالتمسك بالدين والالتزام بأحكامه وتعليماته. ولقد كان الدافع الرئيس هو الحرص على الإسلام والدعوة إليه، ورد شبهات الأعداء عنه، وتفنيد حجج الطاعنين به من الكفار والمشركين خارج الدعوة الإسلامية، والملحدين الذين انضووا تحت لواء المسلمين، وتستروا بالباطنية وغيرها من الفرق الضالة، للدس على الإسلام، والتشكيك فيه، وإثارة الشبهات بين المسلمين، فصار دراسة أصول الدين وعلم الكلام وتدريسه والتأليف فيه السبيل القويم أمام المسلمين.
في علم الكلام؛ المقصود به، المقصود منه، مسمياته
لعل موضوع اهتمام المذاهب الكلامية جميعها، وبلا استثناء واحد، فهم متفقون على الأصول الإسلامية كالتوحيد والعدل، والقضاء والقدر...، لكنهم مختلفون في طريقة فهم هذه الأصول بعينها، تبعا لاختلاف المنهج الذي آمنت به واتبعته لمعالجة هذه الموضوعات. وتتعلق موضوعات علم الكلام «بالأصول الدينية: كالبحث في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله...، وفي أحكام الشريعة من: بعثة الرّسل ونصب الأئمة والتكليف والثواب والعقاب...، يتناولها بحسب ما وردت في الشريعة أمرا مقررا لا مدخل للشك فيه محاولا أن يؤيدها بالأدلة العقلية، حتى يكون الإيمان بها أشد وثوقا، وأكثر توكيدا لاجتماع دليلي النقل والعقل معا، فضلا عن أن الدليل العقلي هو السبيل إلى إثبات هذه الأصول على المخالفين من أصحاب الأديان المخالفة» [4].
وموضوع علم الكلام هو النظر أي الاستدلال بخلق الله تعالى في كتابه المشهود لإثبات وجوده وصفاته الكمالية، وفي كتابه المقروء بشقيه - كتابا وسنة – المستخرج منها البراهين، وهو على قانون الإسلام، إذ علماء التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادا على مجرد النظر بالعقل، فالعقل عندهم شاهد للشرع ليس أصلا للدين، إذ علم الكلام «يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد» [5] .
وسنحاول في هذا المبحث أن نبين حقيقة علم الكلام ومقصده ومسمّياته وذلك على النحو التالي:
(1) ماهية علم الكلام
للعلماء في تعريف علم الكلام عبارات مختلفة، كثيرا ما تدلّ على الاختلاف في وجهات النظر، وفيما يلي جملة من تعريفات العلماء لهذا العلم:
- أبو نصر الفارابي (توفي 339هـ): «وصناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملّة وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل» [6].
- عضد الدين القاضي عبد الرحمان الإيجي (توفي 756هـ): «والكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الخصم وإن خطأناه لا نخرجه من علماء الكلام...»[7]
- عبد الرحمان ابن خلدون (توفي 808هـ): «هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد»[8]
وبالنظر إلى التعريفات السابقة فإنّه يمكن القول أن:
- علم الكلام يقوم بالأساس على النّظر العقلي في العقائد الإيمانيّة وتبيينها.
- علم الكلام يعنى بإثبات العقائد الدّينية بالبراهين العقليّة - كون العقائد الإيمانية ثابتة بالسّمع أصالة، ووظيفة العقل تبعا النّظر فيها نظر التماس الاستدلال والبرهان النظري -.
- علم الكلام يضطلع بمهمّة الدّفاع عن العقائد الإيمانيّة، وذلك بالرّد على المبتدعة المنحرفين عن مذاهب أهل السّنة والجماعة في الإعتقاد.
- علم الكلام غير علم الإلهيّات الذي اشتغلت به طائفة من الفلاسفة، فهو دفاع على قانون الإسلام المنسوب إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم، إذ دفاع المنحرف عن مذاهب السّلف من أهل السّنة والجماعة في الإعتقادات لا يوصف بالكلام.
(2) مقصده
لعل مقصد علم الكلام ينصب على إثبات وإيضاح وبسط أركان الإيمان، وهذا العرض والإيضاح والبسط متوجّه بالأساس إلى المؤمن الموافق تثبيتا، وإلى المنحرف في الإعتقادات عن مذاهب أهل السّنة والجماعة تقويما ودعوة. وبناء عليه، فإنّ علم الكلام عند نشأته وفي كثير من عصوره قصد:
1/ بيان العقائد الإسلامية، والبرهنة على صدقها بالأدلة العقلية.
2/ الرد على الشبهات التي كان يثيرها المخالفون على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، ومناقشة عقائدهم، وتقديم البراهين والحجج على بطلانها وبيان زيفها.
وهذان المقصدان نفسهما لا غيرهما أكدهما غير واحد من العلماء المهتمين بعلم الكلام- قديما وحديثا -، وقد قرر القاضي عضد الدين والملّة الإيجي في كتابه «المواقف» أنّ المقصود من علم الكلام فوائد وفضائل خمسة وهي أمور:
الأول: الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان...[9]
الثاني: إرشاد المسترشدين بإيضاح الحجة، وإلزام المعاندين بإقامة الحجة.
الثالث: حفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين.
الرابع: أن تبنى عليه العلوم الشرعية فإنه أساسها وإليه يؤول أخذها واقتباسها.
الخامس: صحة النية والإعتقاد، إذ بها يرجى قبول العمل وغاية ذلك كله الفوز بسعادة الدارين.
ويتفق كلام القاضي الإيجي مع ما سبق أن قرره الإمام أبو حامد الغزالي الذي بين أن مقصد علم الكلام هو: «حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة»[10].
ومنه، فقد خلصنا إلى أن علم الكلام له مقصدان أو غايتان، الغاية الأولى يتوجه بها إلى المسلمين المؤمنين الموافقين، وهي ما يمكن أن نطلق عليها اسم مناعة الجسم الإسلامي وذلك بتكوين حصانة فكرية لكل فرد من أفراد المجتمع المسلم، قوامها الجمع بين النقل والعقل في تحديد قضايا البحث العقدي، بغية تحقيق الخلاص الفردي - فكلما ازدادت معرفة المؤمن بربه ازداد إيمانه به - كمرحلة أولى، ثم تليها بعد ذلك مرحلة الخلاص الجماعي تكون الأمة فيها عالمة مدركة إدراكا جازما ناشئا عن دليل لمسائل الإعتقادات، إذ «غاية الكلام أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متيقنا محكما لا تزلزله شبه المبطلين، ومنفعته في الدنيا انتظام أمر المعاش بالمحافظة على العدل والمعاملة التي يحتاج إليها في بقاء النوع على وجه لا يؤدي إلى الفساد، وفي الآخرة النجاة من العذاب المرتب على الكفر وسوء الإعتقاد»[11].
ثم غاية ثانية متوجهة إلى غير المسلمين المخالفين، إذ لا يوجه علم العقيدة اهتمامه إلى المسلمين وحسب، بل إنه يوجه خطابه إلى غير المسلمين أيضا، باعتبار أن الدين للعالمين أجمعين، وهؤلاء القوم لابد أن يوجه الخطاب إليهم بمنهج يتفق وطرائق تفكيرهم بغية إقناعهم، وتقريب صورة الإسلام الحقيقية من قلوبهم وإعلاء حجة الدين الحق في عقولهم، ولا يمكن للمنهج الأثري القائم على نصوص الكتاب والسنة المجردة عن دعم الدليل العقلي أن ينجح في مواجهة هؤلاء القوم، والرد على الشبه التي يثيرونها كيدا أو جهلا، فالحجج العقلية المحضة لابد أن تواجهها بنفس طريقتها وإلا فلا ثمرة.
ولقد هبّ الذين آمنوا بالنص الديني الجديد من المتكلمين بداية إلى استيعابه استيعابا قائما على الجمع بين صفو الشرع وصفو العقل، فقرروا أنه لا تعارض بين منطق العقل و بين منطق الوحي، ثم وجهوا نظرهم إلى الثقافات الأخرى التي وقفت لهذا الدين بالمرصاد، ليقفوا على تهافتها، فكشفوا النقاب عن بعض التناقضات والحجج الواهية التي يلجأ إليها بعض المفكرين والفلاسفة في معاندة الدين الإسلامي والتقليل من شأنه، ثم انطلقوا بعد ذلك للدفاع عن حمى العقائد الدينية، فهم «جميعا متفقين على ضرورة مواجهة الثقافات الأجنبية والتصدي لها وضرورة بيان تهافتها على صخرتي العقل والنص الديني الجديد، ومع أن هذا الهدف قد وحد المتكلمين صوبه، إلا أننا، من جهة أخرى، نجد أن الاختلافات بدأت تستعر بين المتكلمين، الأمر الذي أدى إلى فرقتهم وتشيع بعضهم لهذا وتشيع البعض الآخر لذاك»[12].
ولنا وقفة في أسباب هذا التفرق في معرض بيان سياقات نشأة علم الكلام، وهي وقفة لن تكون طويلة - مع شدة الحاجة إلى هذا الوقوف الطويل- ، لأن مثل هذه الخطوة تحتاج إلى عمل مستقل.
(3) مسمياته
لقد ذكرت لهذا العلم الباحث في المسائل الاعتقادية مسميات أخرى، حيث تطلق ويراد منها ما يراد من مسمى العقيدة، وهذه التسميات تعددت بفعل ملابسات تاريخية متداخلة ومتشابكة ساهمت في ظهورها، وتجدر الإشارة إلى أن لكل تسمية وجهها وسببها، وسنذكر هذه التسميات مع وجوهها على النحو التالي:
أ- علم العقيدة: و«ذلك لأنه يبحث في العقائد الإسلامية حتى يؤمن بها المخالفون»[13].
وقد أطلقت هذه التسمية باعتبار الموضوع، ذلك أن هذا العلم يبحث عن العقائد التي يعتنقها الإنسان، ولأجل كونه يبحث في مسائل وقضايا ترتبط بالمعتقد، والعلم بهذه القضايا علم بالعقيدة، فسمي بعلم العقيدة.
وفي هذه التسمية:
1. إعلان عن اشتغال هذا العلم بقضايا البحث العقدي.
2. تشريف لهذا العلم بوصفه يؤكد الواجبات الدينية وهي الإعتقادات.
3. دعوة للإهتمام بشكل مستقل باعتقاد المسلم.
ب- علم التوحيد: وهذه التسمية «راجعة إلى أنه يضع التوحيد عقيدة أساسية تستخرج
منها باقي العقائد الأخرى بالاستدلال، فصار التوحيد أهم موضوعاته، فسمي العلم بأشرف أجزائه، وهذا الاسم هو الذي يفضله الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد وكذلك يسميه بعلم الذات والصفات ذلك لأنه يبحث في صفات الله تعالى، والتي تعد من أهم مباحثه»[14].
فقد ألفت عدة كتب بهذا العنوان، وقد أطلق هذا الاسم لأن مبحث الوحدانية هو أشرف مباحثه على الإطلاق من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، وقيل: لأن توحيد الله هو الركن الذي تقوم عليه سائر الأركان، فأطلقت هذه التسمية لأن الهدف من قيام هذا العلم هو تحقيق وحدانيته سبحانه وتعالى ذاتا وصفاتا وأفعالا، ثم تمييزا للتصور الإسلامي عن غيره، وإن كان هذا ليس مضطردا على جميع الكتب التي ألفت بهذا العنوان، ومن الكتب التي كتبت تحت هذا العنوان: كتاب «التوحيد» لأبي بكر بن إسحاق بن خزيمة (توفي 311هـ)، ثم كتاب «التوحيد» لأبي منصور الماتريدي (توفي 333هـ)، وكتاب «التوحيد» لمحمد بن عبد الوهاب (توفي 1206هـ)، و«رسالة التوحيد» لمحمد عبده (توفي 1323هـ).
ج- علم الكلام: وهو أشهر التسميات المتداولة لهذا العلم، وقد قيل: أن أول من استعمل هذا التعبير ابن النديم (توفي 384هـ) في كتابه «الفهرست»، حيث خصص الباب الخامس من نفس الكتاب لأهل الكلام.
وقد وردت أقوال كثيرة تفسر سبب تسمية هذا العلم بعلم الكلام ذكرها القاضي عضد الدين الإيجي بقوله: «إنما سمي كلاما إما لأنه بايزاء المنطق للفلاسفة، أو لأن أبوابه عنونت أولا بالكلام في كذا، أو لأن مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه، أو لأنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم»[15].
كما أضاف الإمام النسفي إلى جانب هذه التفاسير أربعة تفاسير أخرى هي: الأول؛ «لأنه إنما يتحقق بالمباحثة، وإدارة الكلام من الجانبين وغيره قد يتحقق بمطالعة الكتب والتأمل»[16]. وفيه إشارة إلى أن غير علم الكلام قد يتحقق بالمطالعة والنظر دون الحاجة إلى المباحثة وإدارة الكلام، ومثاله معرفة الفقه فإنها تتحقق بمطالعة الكتب والنظر في الأدلة الإجمالية، ثم استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
والثاني؛ «لأنه أكثر العلوم نزاعا وخلافا، فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والرد عليهم»[17].
والثالث؛ «لأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم، كما يقال للأقوى من الكلامين – هذا هو الكلام -»[18].
والرابع؛ «لأنه لابتنائه على الأدلة القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية، كان أشد العلوم تأثيرا في القلب وتغلغلا فيه، فسمي - بالكلام - المشتق من - الكلم - وهو الجرح»[19].
د- أصول الدين: و«ترجع تسميته بعلم أصول الدين، لأن مسائله هي أساس الدين وأصوله، فهو يستدل على أصول العقيدة الإسلامية ويؤسسها على العقل، وهو الاسم الذي غلب عليه في المصنفات المتأخرة»[20]. وقد قيل: أنه سمي بهذه التسمية تمييزا لقضايا الأصول (العقيدة) عن قضايا الفروع (الفقه).
ومن الكتب التي ألفت بهذا العنوان: كتاب «أصول الدين» للإمام عبد القاهر البغدادي، و»الأربعين في أصول الدين» للإمام الغزالي وبعده للفخر الرازي.
ه- الفقه الأكبر: وترجع هذه التسمية «إلى تمييز مباحثه عن مباحث الفقه العملية والتي تسمى بالفقه الأصغر، فكلاهما علم أصول إلا أن علم الكلام يؤسس النظر، بينما الفقه يؤسس العمل ومعنى الفقه هو العلم، وعلم الكلام هو العلم الأكبر لأنه يكون الإيمان، وهو أصل العمل والطاعة فيكون الفقه فرعا لهذا الأصل، فيسمى بالفقه الأصغر»[21]. وهذا الإسم يشير إلى أن العلم بأصول الدين يأتي في المقام الأول، فهو الفقه الأكبر، وبالتالي يسبق العلم به العلم بالفقه الذي يبنى عليه وهو مايسمى بفقه الشريعة. وهذه التسمية تنسب إلى الإمام أبي حنيفة النعمان (توفي 150هـ)، حيث ينسب العلماء إليه كتاب «الفقه الأكبر»، وهناك كتاب آخر بنفس العنوان ينسب للإمام الشافعي.
وهناك تسميات أخرى أقل شهرة من التي ذكرنا، وكل تسمية كانت لمناسبة خاصة اقتضت تسميته بها.
الهوامش
[1] د. أبو الوفا الغنيمي التفتزاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، ص6، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الثانية، بدون تاريخ نشر..
[2] و[3] د. فيصل بدير عون، علم الكلام ومدارسه، ص: 8، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الفجالة، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، بدون تاريخ نشر.
[4] د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، ص: 187، دار الثقافة والنشر والتوزيع، الفجالة، القاهرة، مصر، طبعة: 1987م.
[5] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت: 505هـ)، المستصفى من علم الأصول، ج1، ص3، طبعة: المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1322هـ.
[6] أبو نصر محمد الفارابي، إحصاء العلوم، قدم له وشرحه وبوبه: الدكتور علي بو ملحم، ص: 86، دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1996م.
[7] القاضي عبد الرحمان عضد الدين الإيجي، (توفي 756هـ)، المواقف في علم الكلام، ص: 7، طبعة: عالم الكتب، بيروت، بدون تاريخ نشر..
[8] ولي الدين عبد الرحمان بن محمد بن خلدون، المقدمة، حقق نصوصه، وخرج أحاديثه، وعلق عليه: عبد الله محمد الدرويش، ج: 2، ص: 205، دار يعرب، دمشق، الطبعة الأولى، 1425هـ – 2004م.
[9] القاضي عضد الدين الإيجي، المواقف في علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 8.
[10] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق: د. عبد الحليم محمود، مع أبحاث في التصوف، ص: 118، طبع دار الكتب الحديثية، مصر، ط7، 1992م.
[11] مسعود بن عمر الشهير بسعد الدين التفتازاني (ت: 792هـ)، شرح المقاصد في علم الكلام، تحقيق: د. عبدالرحمن عميرة، ص: 175، منشورات الشريف الرضي، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1409هـ/ 1989م.
[12] د. فيصل بدير عون، علم الكلام ومدارسه، (مرجع سابق)، ص: 9.
[13] د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 16.
[14] د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 16.
[15] القاضي عضد الدين الإيجي، المواقف في علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 8.
[16] مسعود بن عمر الشهير بسعد الدين التفتازاني، شرح العقائد النسفية مع حاشيته، تقديم: مجلس المدينة العلمية، ص: 54، مكتبة المدينة للطباعة والنشر والتوزيع، كراتشي، باكستان، الطبعة الأولى، 1430هـ/ 2009م.
[17] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[18] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[19] المرجع السابق، ص: 55.
[20] د. محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، (مرجع سابق)، ص: 15.
|