في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
فطرة المقاومة في ذكري الفرح والألم
 الوقوف على تخوم الفرح
لا يقف شعب على تخوم ثورة إلاّ أن يكون قد بدأ بالفعل معركة الوعي وقطع فيها شوطا يسمح بتشكيل نخبة نوعيّة تقود ‏حراكه الثّوري، فإن لم يقاوم شعب طغيان مستبدّيه فاعلم أنّ المشكلة تكمن في نخبته. فالشّعب لا يثور كلّه ولا نصفه أو حتّى ربعه، ‏تكفي أن تتحرّك منه كتلة حرجة تزرع الخوف - بإذن الله - في نفوس المستبدّين، وتبشّر بالطمأنينة والسّكينة في نفوس الخائفين، ‏فتجعلهم يصطفّون إلى جانبهم بدلا من الوقوف في صفّ الظّالمين لأجل لقمة العيش الذّليلة.
هذه الكتلة الحرجة حين تتحرّك يدرك ‏كلّ من خرج فيها أنّه لن يعود هو وربّما أحفاده إلى بيته إلاّ بإنزال الظّالمين الفاسدين من على عروشهم بل ومحاكمتهم، هذه الكتلة ‏لها لغة باللّسان والجنان والأركان، لغة في الهواء الذي يملأ صدورهم وسط الأوبئة التي ينشرها الاستبداد، لغة في النّور الذي يملأ ‏أرواحهم وسط ظلمات وظلم الطّغاة، لغة تفهمك ما هو دورك وإن لم يخاطبك أحد، لغة تتوافر فيها مفردات ومرادفات  كثيرة بل ‏معبأة بقدر هائل من الكره الدّاخلي والاحتقار للأفعال القذرة ومن يقومون بها من سدنة هيكل الاستبداد. هذا القدر من الكــره ‏والاحتقار يكفي لإخراج هؤلاء من اللّعبة السّياسية، وكما قال «ﺑﻴﻮﻓﺎرﻳﻦ» في الثّورة الفرنسيّـــة: «ﻛﻨّﺎ ﻻ ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﺄﺗﻲ ﻣﺎﻧﻼم ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ‏اﻷﻓﻌﺎل، وﻟﻜﻦّ اﻷزﻣﺔ ﻛﺎنت ﺗﺪﻓﻌﻨﺎ إﻟﻴﻪ». 
ومنذ ثمان سنوات مضت كنّا قد أوشكنــا أن نقف على تخوم الفرح لكن وآسفاه غصنا في ‏بحار الألم لأنّ ثوّارنا لم يكن لديهم أصلا هذه العملة الثّورية النّادرة. فضلا على أن يكون عندهم قـــدر من الحيطة والحــذر في ‏التّعامل مع هؤلاء وظنّ الأخ الأكبر أنّه باستطاعته اختراق هؤلاء لكن كشفت الأحــداث بعد ذلك أنّه هو المخترق حتى النّخاع.‏
مغنطة النّخبة
تكمن مشكلة النّخبة ربّما في كونها لم تتشكّل بعد بدرجة تسمح للكتلة الحرجة أن تثق في خطابها وثوريّتها فتسير خلفها، ‏أو أنّها تشكّلت بالفعل لكنّها مبعثرة هنا وهناك ابتداء من الاختلافات الأيديولوجيّة وانتهاء بالتّوزيع الجغرافي الواسع، ممّا يجعل ‏قناعات النّاس بها وطمأنينتهم إليها صفريّا في المحصلة، ومن ثم تحتاج هذه النّخب المبعثرة إلي مغنطة حتى يشتدّ فعلها الثّوري ‏تماما كما يتمّ مغنطة القطعة الحديديّة كي يشتدّ فعلها المغناطيسي وتستطيع أن تجذب إليها شعبها الحديدي. فلمّا كان العزم ‏المغناطيسي في اتجاهات متعدّدة، فإنّه يبعثر بعضه بعضا، لكن لمّا تمّ مغنطة قطعة الحديد توحّد الاتجاه فقط نحو الهدف.  
لقد كان ‏يقال عن فلان أنّه «كارت محروق» يقصد بذلك أنّه قد انتهت صلاحيّة فعله الثّوري، وقيل عن آخر أنّه درويش، وقيل عن ثالث أنّه ‏مدسوس، لقد قيل إنّ الثّورة في البرلمان وليست في الميدان، لقد قيل إنّ الثّائر الحقّ يثور لأجل أن يهدم الفساد ثمّ يهدأ ليبني البلاد، ‏لقد ظنّ كثير من نخبتنا أنّه نستطيع أن تحيط دولة الثّوار بدولة الفساد والمفسدين وتطوّقها في ثمانية عشر يوما، لم يدركوا  أنّ ‏الطّغاة  يمغنطون دولتهم منذ ما يقرب على الخمسة قرون وبدؤوا بقطف الثّمار منذ ما يقرب من ثلاثة قرون. حتى أوشكنا أن ‏نصدّق أنّ للفساد المعاصر والدكتاتوريّة جينات تتوارثها الأجيال.‏
فطرة المقاومة
الثّورة الشّعبيّة في أصلها عمل غير قانوني لكنّه عمل محترم «فالقانون البشري ليس محترم بالمطلق، لكنّه يحترم حين ‏يحقّق نقطة التّوازن المجتمعيّة، ويلقي به في صناديق القمامة حين ينتهكها بالممارسات السّيئة المشينة». تخرج الثّورة دون إذن ‏مسبّق كزلزال غير متوقّع في وجه الاستبداد، لا تمثّل تيّاراً دون تيّار، ولا طبقة دون طبقة، ولا طائفة دون طائفة، كأنّه برنامج ‏فطريّ زرعه الله في النّفس البشريّة لمقاومة الظّلم، وتعمل بشكل عام كقانون طبيعي، لا تملك حتّى الوقوف السّلبي أمامها بل ‏أحيانا وكما يقول «جوستاف لوبون»: «اﻟﺜّﻮرة‎ ‎أﻣﺮ‎ ‎ﻟﻢ‎ ‎ﻳﻔﻘﻬﻪ‎ ‎ﻣﻦ‎ ‎أﺗﺎه». 
برنامج الثّورة هو اقتلاع الفساد والاستبداد من الجذور وليس بحّ ‏الصّوت بالمناداة بلقمة هنا أو لقمة هناك. وكما قلت في مقال سابق‎[1] ‎‏ «الثّورة إذن ليست تذمّرا وليست هبة وليست مظاهرة تطالب ‏بتحسين ظروف العبوديّة والقهر». وصف ماركس هذه الأشياء كلّها بـالجَيَشان الثّوري، الذي يجعل القوى الثّورية تتلقّى هزائم ‏متلاحقة تطيل عمر الثّورة المضادّة: «وحالما كان يعتري أحدى الفئات الاجتماعيّة الكائنة فوقها جيشان ثوري، كانت البروليتاريا ‏تدخل في حلف معها وهكذا كان لها نصيب في جميع الهزائم المتواليّة التي منيت بها الأحزاب المختلفة. بيد أنّ هذه الضّربات التي ‏تلت كانت تضعف بقدر ما كان سطح المجتمع الذي تتوزّع فوقه يتسع»‏‎[2]‎‏.‏
مقاومة الاحتلال الدّاخلي
مرّت ثمانية أعوام على لحظات كنّا ظنّنا أنّا قد وقفنا على تخوم الفرح، لكن الغربان لا يمكن أن تترك البلابل تغرّد ‏بالحرّية، وكما يقول أحمد مطر «فهذه الأوطان تعتقل الفأس إذا ما حلّت الأوثان». لكن فأس نبي الله إبراهيم عليه السّلام أودعت ‏بصماتها وجهدها الكامن في كلّ نفس شريفة تأبي الظّلم والاستبداد، والغلام الذي قال للطّاغية إنّك لن تصل إلى قتلي حتّى تجمع ‏النّاس وتأخذ سهما من كنانتي وتقول باسم الله ربّ الغلام، ومع أنّ هذه العبارة أودت بحياة الغلام إلاّ أنّها أيضا كانت الضّياء الذي ‏أفنى ظلمات الحاكم الظّالم، وقضى بالضّربة القاضية على قضيّة الحاكم الطّاغية، كان الغلام هو النّخبة التي قادت معركة التّغيير ‏بإظهار عين الحقيقة من فم الطّغاة أنفسهم، بجملة واحدة تمّ اقتلاع بنية الاحتلال الكامن في نفوس الجماهير «للحاكم». والحقيقة أنّنا ‏كلّنا محتلّون من الدّاخل، لا يوجد فرد غير محتلّ، لكنّنا في الوقت نفسه نملك أدوات مقاومة هذا الاحتلال، المهم أن لا تحاول نفي ‏ذلك عنك، فالكلّ بالفعل يحاول جاهدا إقناع الآخرين بأنّه غير محتلّ، منّا من يحتلّه الإحساس بالفقر فيقاوم ذلك بسطوة المال، ومنّا ‏من يحتلّه الجهل فيقاوم ذلك بالانتساب إلى العلم ولو زورا، يحاول كثير منّا أن يتوازن مع محتلّه، وإذا كانت الغلبة للمحتلّ مثل ‏غالب الفئات التي يسكنها أكثر من محتلّ مثل الجهل والفقر والكبر والسّطوة غالبا ما تنعكس عنده الموازين. 
هذا المرء غالبا يفقد ‏أعز ما يملك الإنسان من هدوء المتأمّل وصمت المفكّر بل ويغطي على ذلك كلّه بأفكار من محتلّيه مثل الصّخب والعنف في القول ‏والفعل. لابدّ من معرفة دقيقة بطرق مقاومة المحتل الدّاخلي حتّى ندرك كيف نثور ضدّ الظّلم والاستبداد الخارجي. لابدّ من تعليم ‏جيل بالكامل لماذا يجب أن نثور، ولا تكون الإجابة للظّلم والفساد المنتشر في الدّولة، لابدّ من معرفة التّفاصيل الدّقيقة لعمليات ‏الظّلم والفساد التي تمّت. لابدّ من معرفة الأسباب التّفصيلية - حتّى ولو برؤى مختلفة - لفشلنا في مرّات سابقة. لابدّ من تشريح ‏جثث المرّات الفاشلة بأكثر من مبضع للوقوف على معرفة دقيقة أين يكمن الخلل.‏
الهوامش
‎ [1]‎‏ فوزي أحمد عبد السلام، مجلة الإصلاح، «الربيع العربي أجنة ثورات مهددة» ،عدد ‏‎126‎، صفحة ‏‎20‎‏-‏‎23‎، تونس، ‏‎2018‎‏.‏
‎[2]‎‏ كارل ماركس، «الثامن عشر من برومير ـ لويس بونابرت»، صفحة ‏‎11‎، هامبورج ‏‎1869‎‏.‏