بهدوء

بقلم
د.لطفي زكري
تأملات في تاريخ التحالفات السياسية المعلنة والخفية في تونس منذ الاستقلال
 تثير التّجاذبات السّياسية التي أربكت مسار الانتقال الدّيمقراطي في تونس منذ ثورة 2011 على نظام بن علي وحزبه التّجمع الدستوري الدّيمقراطي الكثير من المخاوف حول مستقبل التّجربة ‏الدّيمقراطية وما غنمه منها التّونسيون من مناخات الحرّية. ولعلّ ما يعمق هذا الشّعور السّلبي هو ما ‏أضافته هذه التّجاذبات على الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة من تداعيّات خطيرة تجلّت بالخصوص في ‏تزايد مشاعر القلق والخوف بسبب تدهور المقدرة الشّرائية للمواطن وارتفاع نسبة المديونيّة وانحدار ‏قيمة الدّينار التونسي بصفة مستمرة بعد 2011. واليوم بعد مضي ثماني سنوات عجاف يعاودنا السّؤال ‏عن سبل الخروج من الأزمة التي تزداد استفحالا يوما بعد يوم؟ وهو سؤال لا يجد له في تقديرنا إجابة ‏خارج المسار التّاريخي للتّحالفات المعلنة والخفيّة التي حكمت الممارسة السّياسية في تونس منذ ‏الاستقلال واستلام الحبيب بورقيبة مقاليد الحكم إثر عودته من المنفى في شهر جوان من سنة 1955.‏
إذا تجاوزنا الخلافات التي حفّت بمشاريع مقاومة الاستعمار الفرنسي منذ سنة 1881 وما بعدها ‏وقصرنا نظرنا على ما أفرزته حركة المقاومة من قوى سياسيّة ونقابيّة، فإنّه يمكننا أن نرصد مشهدا ‏سياسيّا ثلاثي الأقطاب قامت عليه تجربة الحكم في تونس منذ سنة 1956. وهي التّيار اليميني الدّيني ‏‏(مؤسّسة الزّيتونة وبقايا الحزب الحرّ التّونسي لمؤسّسه الشيخ عبد العزيز الثّعالبي وخاصّة منهم ‏اليوسفيّون) والتّيار اليميني اللّيبرالي (الحزب الاشتراكي الدّستوري بزعامة الحبيب بورقيبة) والتّيار ‏اليساري الماركسي (الحزب الشّيوعي التّونسي وروافده النّقابية بالإضافة إلى الحركات القوميّة ‏العروبيّة). وقد نجح الحبيب بورقيبة في احتلال رأس هذا المثلث من خلال كسب ثقة مشائخ الزّيتونة ‏والظّفر بتزكيتهم في خلع الباي وإعلان الجمهوريّة والظّهور بمظهر الاعتدال والوسطيّة بين اليمين ‏الدّيني واليسار الماركسي في بناء الأمّة التّونسيّة على حدّ تعبيره. 
ولعلّ ما يكشف لنا حنكة الحبيب ‏بورقيبة وذكاءه أو دهاءه السّياسي في إحكام الإمساك بخيوط اللّعبة السّياسية هو اقتداره على توظيف ‏الخصومة العقائديّة بين مشائخ الزّيتونة ورموز الفكر الشّيوعي (بمختلف تلويناته الماركسيّة، اللّينينيّة، ‏السّتالينيّة، التّروتسكيّة، الماويّة) من السّياسييين والنّقابين وعموم المثقّفين في خدمة البورقيبيّة بوصفها ‏أفقا لحماية تونس من خطر المدّ الشّيوعي ومن هيمنة المؤسّسة الدّينية. لذلك لا نستغرب حرصه على ‏احتواء مؤسّسة الإفتاء من جهة والمنظمة النّقابية من جهة أخرى حتّى يبقى الرّصيد الشّعبي الموالي لهما ‏طوع إرادته حتّى وإن اقتضى الأمر التّدخل بصفة مباشرة في تغيير القائمين عليهما. 
وقد حرص الحبيب بورقيبة على ‏الحفاظ على هذه التّوازنات في البرامج التّعليميّة التي اختزلت التّربية الدّينية في فقه العبادات وقدّمت ‏الفلسفة مادّة لجدل عقيم بين التّيارات المادّية والتّيارات المثالية وبينها تتسلّل الخطابات البورقيبيّة ‏بوصفها صوت العقل والاعتدال المناهض للتّطرف اليميني الدّيني واليساري الماركسي.‏
هذه الاستراتيجيا الثلاثيّة التي أقام عليها الحبيب بورقيبة الجمهورية الأولى ورئاسته لها مدى ‏الحياة استمرت ثلاثة عقود كان يستقوي خلالها في كلّ مرّة على أحد التّيارين بالآخر. وحتّى يتجنّب حدّة ‏المواجهة مع خصميه اليميني واليساري، حرص الرّئيس بورقيبة على الإبقاء على شعب الحزب القديم ‏‏(الحزب الحرّ التّونسي) إلى حدود سنة 1964 وضمّ القيادات النّقابية إلى الدّيوان السياسي للحزب ‏الاشتراكي الدّستوري، لكنّه في الأثناء لم يكن يتوانى في اتّخاذ الإجراءات التي تحدّ من سلطة خصومه ‏كلّما كانت الفرصة مناسبة. ففي مطلع السّتينيات من القرن العشرين شنّ هجمة على مشائخ الزّيتونة ‏‏(التّهكم على عصا موسى والدّعوة إلى إفطار رمضان) كانت سببا في تشريد بعضهم ووضع البعض ‏الآخر تحت الإقامة الجبريّة وغلق جامعة الزّيتونة تحت شعار تحديث التّعليم بالتّوازي مع تصفية ‏الحركة اليوسفيّة واغتيال زعيمها صالح بن يوسف. وفي المقابل أصدر قرارَ حظر نشاط الحزب ‏الشّيوعي التونسي قبل أن يمنح أحمد بن صالح الذي كان يناصبه العداء بسبب أفكاره الماركسيّة، ‏صلاحيّات واسعة (5 وزارات). 
وحتى يحافظ على شرعية الحكم التي استفادها من الزّيتونيين، فتح ‏أبواب النّشاط الثّقافي (الإنتاج المسرحي، السينمائي، التلفزي) والإعلامي (المكتوب والمسموع ‏والمرئي) أمام رموز الحركة الشّيوعية ممثّلة في‎ ‎تجمّع الدّراسات والعمل الاشتراكي في تونس المعروف ‏وقتها بحركة «آفاق» الذين طالهم الاعتقال سنة 1968. ويبدو أنّ هذه الاعتقالات وفشل تجربة التّعاضد ‏التي قادها أحمد بن صالح كانت من أسباب تنامي المدّ الشّيوعي وانتقاده لسياسات الرّئيس بورقيبة في ‏السّبعينات من نفس القرن والتي شهدت فوز الطّلبة اليساريّين بقيادة الاتحاد العام لطلبة تونس وانقلاب ‏الطّلبة الدّساترة عليهم في مؤتمر قربة سنة 1972. وفي الأثناء ظهرت  بوادر نشاط دعوي ديني بدعم ‏غير معلن داخل الجامعة وخارجها كانت وراء تشكّل الجماعة الإسلاميّة وليدة المؤسّسة الزّيتونية ممثّلة ‏في عدد من أعلامها أمثال الشّيخ محمد صالح النيفر. لكنّ تطور هذا النّشاط الدعوي ليأخذ بعدا سياسيّا ‏ممثلا في إعلان تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي بعد أحداث جانفي 1978 وحوادث قفصة 1980 كان ‏من الأسباب التي قادت الحبيب بورقيبة إلى إعلان التّعددية السّياسية ومنح التّأشيرة لعدد من الأحزاب ‏المعارضة ومنها الحزب الشّيوعي التونسي مقابل استبعاد الحركات والأحزاب الدّينية ومن ثمّ بدأت ‏مواجهة الإسلاميين بتواطؤ صريح من اليسارييّن الذين اعتبروا المعركة بين خصمين يمينيّين رجعيّين ‏بالرّغم من الإجماع على أنّ انتخابات سنة 1981 كانت تجربة فاشلة لم يتخلّ فيها بورقيبة فعليّا عن ‏فكرة الحزب الواحد وفكرة الزّعيم الأوحد. 
وإذا كان بورقيبة قد أجبر بعد انتفاضة الخبز في شهر جانفي ‏من سنة 1984على بعض التّراخي في تعامله مع ملف الإسلاميّين أو الإخوانجيّة أو الخمينيّين كما اعتاد ‏الإعلام تسميتهم آنذاك، فإنّ تجدّد التوتّر في العلاقة بينهما واحتداد خطاب الاستعداء والعودة مجدّدا إلى ‏المواجهة الأمنيّة كان سببا في تشكّل مجموعة الإنقاذ الوطني التي قطع عليها زين العابدين بن علي ‏الطّريق في إزاحة الرّئيس الحبيب بورقيبة عن الحكم صباح 7 نوفمبر 1987 بعد أن كان قد منحه ‏صلاحيّة وزارة الدّاخلية والوزارة الأولى. ‏
‏بعد وضع بورقيبة تحت الإقامة الجبرية في صقانس سنة 1987، وجد زين العابدين بن على ‏نفسه داخل الاستراتيجيا البورقيبيّة بالرّغم ممّا أعلنه من وعود في بيان 7 نوفمبر ومنها القطع مع ‏الرّئاسة مدى الحياة وحقّ التونسي في حياة حرّة وكريمة... فقد كان عليه أن يستأنف ما انتهى إليه سلفه ‏في محاصرة الحركات الدّينية وفي مقدّمتها حركة الاتجاه الإسلامي التي أشار عليها بتغيير تسميتها حتى ‏تنسجم مع قانون الأحزاب، فكان اسم حركة النّهضة هو البديل. وكان على الرئيس بن علي أن يحسم ‏أمره في مؤتمر الإنقاذ الذي استبدل فيه الحزب الاشتراكي الدّستوري بالتّجمع الدستوري الديمقراطي ‏بعد ما أظهره البورقيبيّون من تمسّك بالصّفة الدّستورية في التسمية الجديدة. 
وحتى يكتشف الحجم ‏الحقيقي لخصومه نظّم بن علي انتخابات تشريعيّة ورئاسيّة سنة 1989 بمشاركة ‏الإسلاميّين لأوّل مرّة في قائمات مستقلّة بنفسجيّة اللّون. ويبدو أنّ النّسب المفاجئة التي حازت عليها ‏القائمات البنفسجيّة كانت سببا في انخفاض منسوب الثّقة بين الرّئيس الجديد والحركة المغادرة لدهاليز ‏العمل السّري والاندفاع إلى الصّدام والمواجهة في بداية التّسعينات. وإذا كان الحبيب بورقيبة قد استفاد ‏في الثّمانينات من اليساريّين في المواجهة داخل أسوار الجامعة، فإنّ زين العابدين بن علي استفاد من ‏دعمهم أو صمتهم (كما هو الحال بالنّسبة إلى حزب العمال الشّيوعي رغم الحظر الذي مورس عليه) ‏على حملات الاعتقال التي امتدت إلى شرائح اجتماعيّة مختلفة في الجامعة وخارجها. ولم يقتصر ‏انحياز اليسارييّن إلى سياسة بن علي على التّزكية وحسب بل كانت أكثر فعالية في التّنظير ‏والممارسة. بحيث يكفي استحضار مشروع تجفيف المنابع لمحمد الشرفي أو مباشرة التّحقيق مع ‏الإسلاميين وتعذيبهم من قبل أمنيين يساريّين حتّى نتبين استمراريّة السّنة البورقيبيّة في رسم المشهد ‏السّياسي. 
وبالرغم مما منحه زين العابدين بن علي لليساريين من مساحات النّشاط الفنّي والإعلامي ‏والتّربوي، فإنّ انخراط جانب منهم في النّشاط الحقوقي والتزامهم بالدّفاع عن المعتقلين الإسلاميّين ‏وتشهيرهم بالاعتداءات التي تورّط فيها أصهاره الطّرابلسيّة كان سببا في التّضييقات والملاحقات التي ‏طالت عددا من الرّموز اليسارييّن من الحقوقيّين والسياسيّين والإعلاميّين. ‏
بعد استفراده بالحكم ومحافظته على نسبة أصوات لا تنزل تحت 99 بالمائة في كلّ الانتخابات ‏التي نظّمها (1989، 1994، 1999، 2004، 2009) ونافسه فيها بعض المعارضين (محمد على ‏الحلواني وأحمد إبراهيم عن حركة التجديد...) بات من الواضح أنّ الرّئيس الجديد استلذّ كرسي الرّئاسة ‏وليس له أدنى استعداد للتّخلي عنه، فكان لزاما على ما بقي من إسلاميّين ويساريّين وقوميّين نشطين في ‏ظلّ القبضة الأمنيّة المشدّدة أن يلتقوا على مشروع وثيقة تطالب بالحقوق والحرّيات السّياسية وهو ما ‏أعلن يوم 18 أكتوبر 2005 في وثيقة لم يتجاوز صداها آنذاك أوساط النّخب السّياسية المقيمة في واقع ‏التّصحر السّياسي في تونس أو في أشواق المهجر إلى أرض الوطن. 
وإذا كان زين العابدين بن علي قد ‏نجح في تطويق أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 ومنع امتدادها إلى بقيّة الجهات فإنّ الشّعور ‏بالضّيم في أوساط اجتماعيّة مختلفة جرّاء تحكّم المقربين من قصر الرّئاسة بقرطاج في قطاعات حيويّة ‏كانت على ما يبدو سببا في تحوّل احتراق محمد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر ‏‏2010 إلى شرارة اندلاع ثورة تطوّرت مطالبها من «شغل، حرّية، كرامة وطنية» إلى «الشّعب يريد إسقاط ‏النظام» وكان ذلك مساء 14 جانفي 2011 بعد فرار الرّئيس زين العابدين بن علي إلى المملكة العربية ‏السّعودية.‏
بعد ابعاد التّجمعيين رأس المثلّث السّياسي أو اختفائهم ودخولهم في حالة كمون وجد اليساريّون ‏‏(الماركسيّون والقوميّون) والإسلاميّون أنفسهم أمام وضع غير مسبوق. وكان السّؤال الرّئيسي هو أيّة ‏علاقة ينبغي إرساؤها بين خصوم الأمس؟ هل يمكن تجاوز الخصومات الإيديولوجيّة التي وسمت ‏العشريّات السّابقة أم لا مناص من استئنافها بصورة مباشرة؟ وهل ينبغي في هذه الخصومة القديمة ‏المتجدّدة استبعاد التّجمعيين من المشهد السّياسي أم السّماح لهم بالحضور فيه على نحو من الأنحاء؟ فكان ‏الرّأي الغالب هو حلّ حزب التّجمع الدّستوري الدّيمقراطي الحاكم والسّماح للتّجمعيين بتشكيل أحزاب ‏بديلة. ورغم ذلك حرص اليساريّون والإسلاميّون على مغازلة التّجمعيين للاستفادة من أصواتهم في أوّل ‏مناسبة انتخابيّة في الجمهورية الثّالثة. وبقدر ما سرّ الإسلاميّون بنتائج انتخابات 2011 أصيب ‏اليساريّون بخيبة أمل كانت سببا في تشكّل الاتحاد من أجل تونس للمطالبة بحلّ المجلس التأسيسي أو ‏إنهاء عمله فورا والدّعوة إلى حوار وطني يضع خطّة للخروج ممّا سمي آنذاك بانزياح المجلس ‏التّأسيسي عن مهامه. في هذا الظّرف المربك عاد رأس المثلّث السّياسي إلى تصدّر المشهد من خلال «‏حركة نداء تونس» التي ضمّت طيفا ملوّنا من التّجمعيّين واليسارييّن، وكان الغرض المعلن هو التّصدي ‏لتغوّل حركة النّهضة وتحكّمها في مفاصل الدّولة وصمتها على النّشطاء المتطرّفين من الإسلاميّين من ‏الدّاخل والخارج. ‏
‏نجح هذا الاستقطاب في إزاحة حركة النّهضة عن تصدّر المشهد السّياسي لكنّه لم ينجح في دفعها ‏إلى الزّاوية وعزلها عن سائر مكوّنات الخارطة السّياسية. وبالرّغم من تعالي الأصوات المنادية ‏باستبعادها وعدم التّحالف معها فإنّ ما يلاحظ في هذه المرحلة هو التّيقظ البراغماتي لحركة النّهضة ‏ونجاحها في التّقارب مع حركة نداء تونس تحت مسمّى التّوافق بنفس القدرالذي كان عليه الأمر قبيل ‏الانتخابات بين الجبهة الشّعبية وذات الحركة فيما سمي بالاتحاد من أجل تونس. 
وهكذا عدنا مجدّدا إلى ‏المثلّث السّياسي لكن هذه المرّة في صورة مغايرة. فلم يعد التّجمعيون أو بالأحرى النّدائيون هم من ‏يضربون هذا الخصم بذاك بل صار الخصمان اليميني الدّيني واليساري الماركسي هما من يوظّفان ‏النّدائيين ضدّ بعضهما. والسّؤال اليوم هو هل يمكن لهذه التّجربة العسيرة أن تشهد تراخيا في العلاقة ‏بين اليمين (حركة النّهضة) واليسار (الجبهة الشّعبية) يدفع باتجاه محاصرة رموز النّظام السابق والكفّ ‏عن مغازلتهم من أجل رسم مشهد سياسي يقطع مع الاستراتيجيا التي وضعها الحبيب بورقيبة وواصلها ‏زين العابدين بن على؟ ألا يساعد وجود عدد من الوجوه اليّسارية في الحكم وانخفاض حدّة التّوتر بين ‏الحكومة والمنظمة الشّغلية ذات الأغلبيّة اليسارية على تقارب مواقف الخصمين الإيديولوجيين؟ ‏
حتّى لا نسقط في الهوس والتّفاؤل المفرط يمكن القول أنّ جميع الفرقاء السّياسيين مجبرون على ‏التّعايش بسبب حالة توازن الضّعف التي تحول دون هيمنة طرف على آخر. فلا مجال في تونس اليوم ‏لأية استراتيجا إقصائيّة أو مشروع سياسي للاستفراد بالحكم. لكن هل يمكن للنّخب السّياسية أن تتجرّد ‏من الجلابيب الإيديولوجيّة وتنخرط في إنعاش الدّيمقراطية الوليدة بعيدا عن منطق الحسابات الحزبيّة ‏الضّيقة؟ وهل يمكن لهذه الأحزاب أن تستمرّ في البقاء بعد أن تتجرّد من تلك الجلابيب التي عرفت بها؟ ‏وإذا كنّا اليوم نقيم تحت مظلاّت الشّيوخ وما يحيكونه من نسيج حزبي وسياسي لضمان توازن القوى، ‏فكيف سيكون الأمر بعد انزياحهم عن المشهد؟ هل يمكن للأحزاب السّياسية أن تفرز قيادات قادرة على ‏ملء الفراغ الذي سيخلفه رحيل الرموز التاريخية التي عرفت بها؟
‏الآكد اليوم هو أنّ الواقع التّنظيمي للعائلات السّياسية يبرز حركة النّهضة حزبا جماهيريّا منظّما ‏أكثر من غيره. لذلك يبدو أنّ العلاقة مع هذه الحركة أو ضدّها ستشكّل محور كلّ المبادرات والخطابات ‏السّياسية على الأقل في المدى القريب المنظور. وإذا كانت انتخابات سنة 2014 قد دارت رحاها على ‏التّخويف من تغوّل هذه الحركة، فبعد تجربة السّنوات الخمس يبدو أنّ هذا التّبرير لم يعد يجد له آذانا ‏صاغية أمام اكتفاء النّهضويين بالحدّ الأدنى من الحقائب الوزاريّة في كلّ تشكيلة حكوميّة وعدم رغبتهم ‏المعلنة في الاستفراد بالحكم حتّى في حالة تصدّر المشهد السّياسي. لذلك يغدو السّؤال الرّئيس هو ما ‏الذي سيعيد اجتماع خصوم حركة النّهضة ويمنحهم القدرة على بناء قوّة سياسية موازية لها؟ يبدو هذه ‏المرّة أنّه لا مناص من الانزياح عن المواقف الرّاديكالية التقليديّة والإصغاء إلى منطق اللّعبة السّياسية ‏خاصّة أمام خطر تداعيات الرّفع من العتبة الانتخابيّة إلى نسبة 5 بالمائة. وسواء تمّ تعديل القانون ‏الانتخابي أو الإبقاء عليه فإنّ الرّهان على إعادة تجميع العائلة الدّستورية والتّجمعية تحت سقف حزبي ‏واحد يبدو مطلبا بعيد المنال أمام تعدّد المبادرات وحرص أصحابها على احتلال منصب القيادة. 
وأمام ‏استحالة ترميم هذا الجسم الحزبي المثقل بأعباء الماضي، فإنّه لا مفر من استحالة الاستراتيجيا الثّلاثية ‏إلى استراتيجيا ثنائيّة (يمين/ يسار) بعد أن تنحاز أطيافه إمّا إلى اليمين وإمّا إلى اليسار بحسب القرابة ‏الإيديولوجيّة أو بحسب منطق اللّعبة السّياسية وما يظهره الظّرف من إكراهات. فهل نأمل في حوار ‏حقيقي ومباشر بين أطياف اليمين واليسار يذيب الثّلج الذي تراكم طوال العشريّات السّابقة؟ وهل سيرث ‏الشّباب من هذه الأطياف ما تركه الشّيوخ من خصومات إيديولوجيّة صارت غريبة في واقع يلفظ القديم ‏ولا يحفل إلاّ بالجديد من الأفكار والأشياء؟ 
يبقى هذا الأمل قائما بالرّغم من حدّة التوتر في العلاقة بين ‏النّهضة والجبهة وبلوغها في الأشهر الأخيرة حدّا غير مسبوق ومبعث هذا الأمل هو وجود أصوات في ‏الضّفتين تدفع نحو التّقارب والحوار المباشر حتّى وإن كانت هذه الأصوات غير مرتفعة كفاية في إحدى ‏الضّفتين. لهذه الاعتبارات سيكون المشهد السّياسي في تونس ما بعد 2019 محكوما باستراتيجيا ثنائية ‏معلومة (يمين / يسار) بعد استكمال مسار التّفتيت للكتلة الدّستورية التّجمعية واقترابها إمّا من اليمين وإمّا ‏من اليسار. ونحسب أنّ هذا الاتجاه سيتدعّم أكثر في السّنوات القادمة بمقتضى التّحولات التي ستشهدها ‏تركيبة السّاحة السّياسية وتركيبة الأحزاب والحركات التي ستستمر في البقاء أو التي ستولد في هذا ‏المخاض الدّائم.