كلمات

بقلم
عبداللطيف العلوي
القرّة
 لا أعرف إن كان يوجد مرادف حقيقيّ ومقنع لعبــارة الـ «قرَّهْ» بالفصحــى أم لا. هي أيّام تظلم فيها الدّنيا بالسّحاب الثّقيل، وتبكي السّماء أيّاما بلياليها، ويبرد الطّقس حتّى لا تتعارك فيه الكلاب كما كانت تقــول «داده» رحمها الله، وتتدفّق الميــاه من أرحام الأرض وتسيل في الثّنايا والمسارب الضّيّقة بين الحقول، ويصبح القيام بعمليّة إنزال جوّي وبرّمائيّ على سطح المرّيخ، أسهل بكثير من التّنقّل بين أطراف القرية. 
«الـقرر» في شتائنا القديم كثيرة، أيّام كان الشّتاء شتاء والصّيف صيفا. كانت «داده» تعرفها بحدسها وحده، بلا رزنامة وبلا تواريخ، كان يكفي أن تنظر إلى لون السّمـــاء أو تصغي إلى عزف الرّيـــح لتعرف أنّهـــا «العزارى» أو «حيّان» أو «قرّة العنـز» أو «الحسوم» أو «فورار» أو «المباركات»... داده تعرفها جميعا ولا تخطئها أبدا، ولكلّ قرّة حكاياتها وبشائرها وأحزانها الجميلة.
أيّام «القرّة» كنّا نتحلّق كامل النّهار وكامل اللّيل تقريبا حول الموقد الكبير في «المعمّرة»، هو عبارة عن قصعة عريضة أو نصف برميل نملؤه بالحطب و «الجَلّة»، والجلّة لمن لا يعرفهــا هي زبل الأبقــار، تعالجه أصابـع النّسوة الحاذقــات بسفا القــشّ في الصّيف وتعجنه أقراصا دائريّة تجفّفها أيّاما للشّمس، وتدّخرها للشّتاء في «كوامير» تبنى بذوق وعناية، وكان «الكامور» العالي في البيوت شاهدا على سعة الحال وحذاقة نسائها.
كانت أيّاما للفرح والدّفء العميق، نقلي الفول والحمّص على المجامر ونتهامس بنوع من الحميميّة اللّذيذة، وننصب الفخاخ في الأجنّة القريبة، حيث يكثر «التّرودة» ويتعالى ضجيج «الزّرور»، وبين السّاعة والسّاعة نعود بغنيمة جزيلة، «ترد» سمين مكتنز أو زرزور جميل واسع العينين حادّ المنقار، وسرعان ما تتصاعد رائحة الشّواء وتتلمّظ الشّفاه كالقطط ببقايا الطّعم البرّيّ على الشّفتين...
وفي ليالي «القرّر» كنّا نقضي الوقت في الحديث، كان الحديث وليمتنا الكبرى... لا شيء يوقفنا عن الحديث الممتع السّهل الشّجيّ، حديث الذّكريات وحديث الأمنيات وحديث العمر الذّاهب... كم كان الحديث سهلا وممتعا ومشاعا مثل حبّات البرد الّتي نملأ بها أكفّنا، ونتركها حتّى تذوب ونحن نتلذّذ برودتها الدّافئة، ونضحك من آبار أعماقنا كما لو أنّه العيد الّذي لا ينتهي.
حبيبتي يا «داده»...
لم تتركي شيئا يمكن أن تأسفي عليه يا جمرتي الخجولة.
مضى كلّ شيء يا «داده»، وتغيّرنا بعدك كما لن تعرفينا...
كانت «القرّة» حولنا، أيّاما من الفرح والطّمأنينة والمحبّة الّتي لا تذوّبها شمس جهنّم يا «داده»...
اليوم صارت «القرَّهْ» بداخلنا يا حبيبتي، أيّاما وأشهرا وسنوات من البرد والصّقيع، 
لماذا لم تخبريني أنّك سترحلين يوما، وتأخذين معك كلّ شيء!