قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
ثورة مباركة
 لم يدر بخلد أحد أنّ ثورة على الظّلم و الطّغيان ستحدث وتكون سرعتها قياسيّة ونتائجها مبهرة. كانت أحداث الثّورة سريعة ، قاهرة وكأنّ قوّة دفع كانت تدفعها بقوّة نحو تحقيق الهدف المنشود وهو الحرّية لشعب ظلّ لعقود يرزخ تحت نير القهر والاستبداد.
لا أحد تنبّأ بحصول حدث مزلزل فى أقلّ من شهر قلب البلاد رأسا على عقب، بل إنّ كلّ شيء كان ينبئ بأنّ البلاد تسير نحو ولاية أخرى للرّئيس بدون منافسة وأنّ الوضع يتّجه باتجاه تمكّن العائلة الحاكمة من كلّ مقدرات الدّولة، تتقاسمها أو تتنازع من أجلها، وكلّ ذلك كان يعني مزيدا من القهر والظّلم والحرمان وتحوّل البلاد إلى ما يشبه السّجن الكبير.
كانت الانتخابات تجري بمقتضى دستور من السّهل تعديله، وتحت رعاية الأجهزة الأمنيّة والجهاز الحزبي لحزب الرّئيس في مناخ من انعدام الحرّية في التّعبير عن أيّ شيء. يأتي يوم الاقتراع ويمضي دون أن يكون له أيّ صدى في حياة النّاس، فكان بمثابة الكابوس الذي يطبق عل المواطنين ويخنقهم، ويجعلهم في حالة خصام مع ذواتهم. من يشارك في الانتخابات لا يفعل ذلك إلاّ خوفا من الملاحقة ومن لا يشارك يظلّ خائفا متوجّسا من تبعات قراره، والنّتيجة في كلتا الحالتين واحدة، استبلاه للعقول والنّفوس وانفصام حادّ بين ما يتوق له غالب النّاس وما تنتجه آلة النّظام من مزيد من الاستبداد وتأبيد للخوف .
لا يتعلق الأمر بالانتخابات فقط وإنّما يغلب الرّأي الواحد واللّون الواحد كلّ مناحي الحياة. حياة لا يشعر فيها المرء إلاّ بالدّونية متى ما كان له توق للحرّية، ومن يسعى نحو تأكيد حقّه الطّبيعي كإنسان في ممارسة حقّه في التّعبير والمشاركة والدّفاع عن وطنه وأرضه وعموم شعبه من الإستباحة يلقى المصير ذاته الذي لقيه كلّ المناضلين والأحرار في كلّ العهود.
لقد كشفت جلسات الاستماع التي أشرفت عليها هيئة الحقيقة والكرامة عن تاريخ أسود من القمع والقهر وامتهان الكرامة الإنسانيّة والظّلم ممّا لا يكاد يصدّقه عقل. صدم الكثير من النّاس من هول ما استمعوا إليه، أجيال وأجيال من النّاس من مختلف المشارب والعائلات السّياسيّة ومن مختلف جهات الوطن طالتهم ممارسات غاية في البشاعة والنّذالة لم يكن لها ما يبرّرها سوي توحّش الحاكم وشعوره بالألوهيّة والفردانيّة واختزاله  للوطن في شخصه. لقد كان لجلسات الاستماع تلك وقع الرّصاص على صدور النّاس ولذلك لم تفلح كلّ آلات الدّعاية المضادة فى التّقليل من شأن ما جرى ليدرك عموم المواطنين أنّهم لم يكونوا يعيشون في سجن كبير فقط وإنّما كانوا يعيشون في رعاية وحوش مستعدّة لنهش لحم كلّ من يتمرّد.
ليس شأن الثّورة أن تعيد إنتاج واقع جديد بين عشيّة وضحاها ولا أن ترفع عن الشّعب كلّ ما كان يثقل كاهله جرّاء الظّلم واستـئـثار فئة دون أخرى بقوّته ومقدراته. قد يكون ذلك من أهدافها ولكنّها ليست مسؤولة عن تحقيق الأهداف، فالثّورة إنّما كانت فعلا ديناميكيّا فاصلا بين حقبة وأخرى وقد لا يكون ما يعقبها أفضل ممّا سبقها ولكن سوف تظلّ شاهدة على أنّ ما كان معجزة قد تحقّق، وأنّ الشّعب الذي رضي بالظّلم طويلا واستكان لعقود لم يعد يقبل بمثل هذه الإستكانة ولا عاد يقبل غير الحرّية ناموسا لحياته.
كان الإسلاميّون بجميع فصائلهم ومشاربهم وقودا للنّار التى ظلّ الاستبداد يوقدها بين حين وآخر. وحين اندلعت الثّورة كان هؤلاء بين منفي ومشرّد وسجين ومحاصر داخل بيته وحيّه، وما كان لهم من نصير إلّا قلّة قليلة من النّاس. جاءت الثّورة لتهديهم النّصر وترفع جباههم وتحولّهم من شهود على حقبة طويلة من العذاب والقهر إلى شهود على حقبة جديدة من الحرّية والكرامة. لقد استفاد الإسلاميّون أكثر من غيرهم من الثّورة بما أنّها نقلتهم من وضع إلى وضع، ولكنّهم أكثر من اكتوى بنارها حين حملهم النّاس أمانتها ورفعوا على كاهلهم أثقالها وأثقال الوطن دون أن يعطوا الحقّ فى استرداد الأنفاس .
ما حدث في البلاد كان معجزة ما أكثر شواهدها، فجأة انتفلت البلاد من الخضوع لفرد وأتباعه إلى استنشاق نسائم الحرّية بملء الصّدور. وفجأة انتقلنا من الحزب الواحد والقائد الواحد إلى تعدّدية كاملة لكلّ من شاء أن ينشيء فيها حزبا، أصبح عندنا برلمان يحكم وسلطة برؤوس متعدّدة وهيئة تشرف على الانتخابات وصرنا إلى حرّية في الإعلام لا مثيل لها بغضّ النّظر عن الهنات. 
كانت الثّورة بحدّ ذاتها معجزة مليئة بالبركات وكانت أروع بركاتها أنّها كانت فيضا من الله على مجمل الإسلاميّين بما أحدثته من نقلة في حياتهم من حقبة إلى حقبة ومن دفاع إلى آخر.