وجهة نظر

بقلم
عبد الحق التويول
الحكمة الإلهية في رعي سيد البشرية صلى الله عليه وسلم للغنم ‏
 لم يكن رعى الرّسول صلّى الله عليه وسلم للغنم بالأمر الاعتباطي العاري عن الحكم والأسرار الإلهيّة كما ‏يتوهّم البعض بل كان أشبه ما يكون  بمعهد للتّكوين قضى فيه الرّسول  صلّى الله عليه وسلّم مدّة غير ‏يسيرة مع الأغنام  بمراعي مكّة  يكوّنه ربّه ويصنعه على عينيه و يدرّبه  لذلك الأمر الجلل الذي يعدّه له ‏وهو ( تبليغ الرسالة) ، والتّأمل في حدث رعي الرّسول صلّى الله عليه وسلّم للغنم والتّدبر فيه ‏يوصل إلى إدراك الحكمة الإلهيّة الباعثة على ذلك والتي تجلّت في تدريب الرّسول صلى الله عليه وسلم على ‏رعاية الخلق فيما بعد وإكسابه القيم والمبادئ التي ساعدته على النّجاح في دعوته وتبليغ رسالته وهي القيم ‏التي يصعب عدّها وحصرها في هذه الأسطر التي بين أيدينا لكن سأكتفي بذكر أهمّها وهي كالتالي :‏
(1)  الصبر
اختار الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم رعي الأغنام دون غيرها من الحيوانات لأنّ الأغنام كما هو معلوم حيوانات بطيئة في رعيها، فضلا عن كونها تسرح في المراعي وتتفرّق ‏بعيدا، فإن الرّاعي يكون بحاجة إلى نفس طويل وشحنة من الصّبر حتى يُمكّنها من البحث عن كلئها ‏وقضاء وطرها، وبالمداومة على ذلك يكتسب الرّاعي صبرا لا يضاهى ينعكس في أفعاله وتعامله ‏مع النّاس عامّة، فتجده صبورا على نفعهم متحملا المشاق في سبيلهم، قادرا على مواجهة آذاهم، مفوضا ‏الأمر لله تعالى دونما جزع أو قنوط، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم بعد نبوءته وتحمّله الرّسالة، ‏فقد لاقى صعوبات جمّة بعد إعلان دعوته تمثلت في معارضة عشيرته له، فصبر واحتسب إلى أن ‏استطاع جمع أمّته على كلمة واحدة ودين واحد ومنهج واحد بعد أن كانت مشتّتة مفرّقة تائهة في ‏دروب مكّة الشّاسعة «وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ...»(1).‏
(2) التواضع
وكما هو معلوم أيضا فإنّ الأغنام حيوانات صغيرة الحجم من طبيعتها أنّها لا تُمتطى ‏ممّا يضطر راعيها إلى التّنقل دائما على رجليه في تواضع تامّ بخلاف البهائم الضّخمة التي تُمتطى ‏كالإبل مثلا والتي إذا ما ركبها صاحبها أحسّ بشيء من العلوّ الذي قد يولد في نفسه مع الوقت ومع ‏الرّكوب المتكرّر إحساسا بالرّفعة والكبر عمن سواه ممّن يمشي على رجليه وهو الأمر الذي لم ‏يتّصف به صلّى الله عليه وسلّم وإنّما كان متواضعا في مشيته وفي كلامه وفي شأنه كلّه «ومن ‏تواضع لله رفعه» (2)، أضف إلى ذلك أنّ  الغلظة والشّدة في الطّبع من الصّفات التي تميّز الأبل وهي ‏الصّفات التي سرعان ما تنتقل لمن يرعاها وتؤثّر في صاحبها فيصير بملازمته اليوميّة لها واحتكاكه ‏وتصادمه الدّائم معها فظّا غليظا شديدا مثلها لا يألفه النّاس إلا بصعوبة بخلاف الغُنيمات فهي وديعة ‏وأقلّ شدّة وبعيدة عن الغلظة، الشيء الذي ينعكس على صاحبها فيصير وديعا مألوفا محبوبا لدى ‏الجميع وكذلك كان صلّى الله عليه وسلم متواضعا ومحبوبا ومألوفا  «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»(3).‏
(3) الشجاعة
لما كانت الأغنام ضعيفة بطبعها ودائما ما يحوم الخطر حولها خاصّة من طرف الذّئاب ‏المفترسة، فإنّ الأمر يقتضى من  الرّاعي أن يتمتّع بقسط من البسالة والشّجاعة وأن يكون دائما حذرا ‏متفطّنا مستعدّا للذّود عن قطيعه والدّفاع عن أغنامه وردّ كلّ هجوم محتمل، وبالاعتياد على ذلك ‏تصبح البسالة والشّجاعة عنوانا مميّزا للرّاعي وكذلك كان صلّى الله عليه وسلم، فقد اكتسب برعيه ‏للغنم شجاعة عزّ نظيرها آتت أكلها وظهرت ثمارها في الدّفاع عن عقيدته وشريعته وفقراء أمّته ‏وتحصين دولته، حيث أبلى البلاء الحسن في حياته وخاصّة في غزواته التي كان يخوضها بمعيّة ‏صحبته والتي لم يكن يلعب فيها دور المحرض الذي يصدر الأوامر ويلقي بجيشه في ساحة الوغى ‏بينما هو متربّع في بيته ينتظر النّتائج والغنائم وإنّما كان يبادر ويقود الجيش بنفسه ويقاتل في مقدمة الصّفوف ويصدّ ‏الأعداء بكلّ ما أوتي من قوّة، كيف لا وهو الذي اكتسب دُربه في طفولته ‏بالدّفاع عن غُنيماته ، فكيف لا يدافع ببسالة عن دينه وأمته ؟؟ ‏
(4) الرحمة
قد يصيب الأغنام وهي تسرح في المراعي شيء من الأذى أو الجراح أو الكسور نتيجة قطع ‏المسالك الوعرة أو التردّي من علٍ أو قد يحدث أن تنجب الأغنام خرافا في الحقول أو غير ذلك من ‏الحالات المستعجلة التي تقتضى تدخل يد رحيمة بالإسعافات اللاّزمة، وبالمداومة على ذلك تصبح ‏الرّحمة والشّفقة خصلة لازمة للرّاعي يمكن أن يمتدّ صداها ويعمّ أثرها جميع المخلوقات بما في ذلك ‏الجمادات وما ذلك بغريب عنّا في سيرة الحبيب المصطفى، فقد كان أرحم النّاس بالنّاس عامّة وبأفراد ‏أمّته خاصّة كرحمته بالأطفال حيث كان إذا دخل في الصّلاة فسمع بكاء الصبيّ، أسرع في أدائها ‏وخفّفها، فعن أبي قتادة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:« إنّي لأقوم في الصّلاة أريد أن ‏أطول فيها، فأسمع بكاء الصّبي، فأتجوز في صلاتي، كراهية أن أشقّ على أمّه» (4) ، وعلى ذلك قس رحمته صلّى الله عليه وسلّم بالنّساء اللاّئي شدّد على الاهتمام بهنّ ورعاية ‏شؤونهنّ ورحمتهنّ، فقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم قوله  «ألا واستوصوا بالنّساء خيرا ؛ فإنهنّ ‏عوان عندكم ليس تملكون منهنّ شيئا غير ذلك، إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيّنة»(5)، ‏بل قس على ذلك أيضا رحمته بجدع النّخل واحتضانه صلّى الله عليه وسلّم له بعدما سمع أنينه وهو ‏يخطب فوق منبره، كل ذلك جاء نتيجة طبيعية لتلك الرّحمة الإلهيّة التي زرعت في قلبه وتمكّنت ‏منه أيام الرّعي  في الحقول، فلم يلبث صلّى الله عليه وسلّم بعد رسالته أن سلب بها الأفئدة والعقول «‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ » (6).‏
الخاتمة
إذا تبين هذا نكون قد عرفنا الحكمة الإلهيّة في رعي سيد البشريّة صلّى الله عليه وسلّم للغنم في صباه وعرفنا ‏كذلك السرّ وراء افتخاره صلّى الله عليه وسلّم وإخبار صحابته بذاك العمل الذي زاوله منذ نعومة أظافره ‏قائلا لهم :«مَا بعَثَ اللهُ نَبِيًّا إلاّ رَعَى الغَنَم» فيقول أصحابُه: وأنتَ ؟ فيقول: «نَعم، كُنتُ أَرعَاها على ‏قَرارِيطَ لأهْلِ مَكَّةَ» (7)، دون أن يحسّ صلّى الله عليه وسلّم بأدنى حرج أو ضيق أو يعتبر ‏ذلك تنقيصا من شأنه لأنّه بكل بساطة قنع بما قسمه الله واختاره له ولأنّه استفاد من رعي الأغنام استفادة ‏كبرى اكتسب من خلالها قيما نبيلة وصفات جليلة أنارت طريق دعوته فيما بعد وأهّلته لركوب غمار التّحدي ‏الذي اصطفاه الله له وكلّه عزم ويقين بأنّه سينجح في مهمّته وكذلك كان ، فسبحان الله المنزّه عن العبث ‏والذي أودع في كلّ شيء حكمه وأسراره . ‏
الهوامش ‏ ‏
(1) سورة النحل - الآية 127
(2) مُسْنَدِ الشِّهَابِ،ج3 - الْبَابُ الثَّانِي - رقم الحديث: 320 (حديث مرفوع) رواه بْنِ رَبِيعَةَ عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
(3) سورة آل عمران - الآية 159
(4) ‎رواه البخاري ‏ومسلم
(5) سنن ابن ماجة
(6) سورة الأنبياء - الآية 107 
(7) رَوَاهُ البُخَارِيُّ