تحت المجهر

بقلم
حسن الطرابلسي
تحديات الإندماج في ألمانيا
 يعتبر بعض الباحثين في موضوع الإندماج في ألمانيا أنّ الإندماج فشل ولم ينجح في استيعاب ‏المهاجرين ضمن مشاريع الدّولة ومؤسّساتها ومن ثمّة فإنّ الحوار يجب أن يبدأ من الإقرار بهذه الحقيقة ‏ثمّ البحث عن حلول‎.‎ في حين يعتبر آخرون أنّ اندماج  المهاجرين قد حققّ أعلى درجات النّجاح وأنّ الجدل الدّائر اليوم في ‏مستوياته السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة هو أكبر دليل على ذلك‎. 
يتناول الدّكتور «علاء الدين المافلاني» الذي يعتبر أحد أبرز ممثّلي نظريّة الاندمـــاج النّاجح في ألمانيا فــــي كتابـــه الجديـــد المعنــــون «تناقض الإندمـــاج: لماذا تزداد الصّراعـــات كلما نجح ‏الإندمـــاج؟» (‏Das Integrationsparadox: Warum gelungene Integration zu mehr ‎Konflikten führt‏)‏‎   ‎ الذي صدر في شهر أوت/أغسطس 2018، تقييما وتشخيصا جديدا ‏لموضوع الإندماج يجيب فيه على الأسئلة التالية:‏
-  لماذا تحوّل موضوع الإندماج إلى موضوع يومي يشغل السّاسة والخبراء؟ وما هي ‏التّردّدات والإستتباعات التي أنتجها الإختلاف في فهم هذا الموضوع؟
- من أين أتت المواقف المتطرّفة في قراءة الإندماج وفهمه؟
- هل حقّقت سياسة الإندماج بألمانيا اليوم أفضل النّتائج وبالتالي كيف سيتمّ التّفاعل مع ‏التحديّات الجديدة وغير المسبوقة؟
وعلاء الدّين المافلاني هو باحث ألماني من أصل سوري ولد سنة 1978 بمنطقة حوض الرّور ‏‏(‏Ruhrgebiet‏) وشغل منصب أستاذ للعلوم السّياسية وعلم الإجتماع السّياسي في جامعة ‏مونستر‎ ‎‏(‏Münster‏)‏‎ ‎‏.‏ مع بداية سنة‎ 2018 ‎‏ انتقل للعمل في وزارة الطّفولة والعائلة واللاّجئين والمهاجرين في مدينة ‏دسلدورف عاصمة مقاطعة شمال الراين-وستفاليا (‏Nordrhein-Westfalen‏)‏‎ ‎وتركّزت بحوثه ‏التي حصل بها على عدد من الجوائز القيّمة على علوم التربية والإندماج.‏
والفكرة الأساسيّة التي يتأسّس عليها كتاب المافلاني هي أنّ ألمانيا تسير في الإتجاه الصّحيح ‏نحو تحقيق المشاركة السّياسية والمجتمعيّة لمجموعات متعدّدة في البلاد، وبالتّوازي مع ذلك ‏يحتدّ النقاش ويرتفع الصّدام. وهذا الصّراع لم يكن فقط بين وزير الدّاخلية «زيهوفر» والمستشارة ‏الألمانية في الموقف من اللاّجئين وإنّما أيضا في تدخّل لاعبين جدد في المشهد من مثل حزب ‏البديل لألمانيا (‏AfD‏) وقبله بقليل مجموعات «بيجيدا» (‏PEGIDA‏) المعادية للأجانب والمسلمين ‏على الأخصّ.‏
ثم ليزداد النّقاش حدّة بعد أن قدّم لاعب وسط الميدان الدّولي والحائز على كأس العالم مع ‏الفريق الألماني «مسعود أوزيل» استقالته من المانشافت (أي الفريق الوطني) بتعلّة تعرّضه ‏للعنصرية، وإطلاقه لموقع ‏‎#MeTwo‎‏ على صفحات تويتر، الذي يتحدّث عن حالات التّمييز ‏العنصري. وقد أنتشر هذا الموقع بسرعة كبيرة ووجد دعما ومساندة من شخصيات كبيرة ‏وسياسييـــن من الصفّ الأول مثل هايكو ماس (‏Heiko Maas‏) ووزير الخارجيّة وروبرت هاباك ‏‏(‏Robert Habeck‏)‏‎ ‎زعيم حزب الخضر. ‏
يعتبر «المافلاني» أنّ الإندماج في ألمانيا لم يشهد له نجاحا كما هو الحال اليوم (1) كما ‏أنّ سياسة الإندماج تحسنت بشكل كبير بالمقارنة معها في الماضي حيث لم تكن لألمانيا من ‏خمسينيات الى ثمانينات القرن الماضي سياسة للإندماج (2). ‏
ولوصف الوضعيّة الحالية للإندماج في ألمانيا فإنّه يعتمد مَثَل المائدة التي يجلس عليها ‏مجموعات متعدّدة(3). والملفت في هذه الطّاولة أنّه في فترة ما كان يجلس عليها ‏مجموعة معينة من الأفراد، ولكن بعد مدّة من الزّمن دخل إلى غرفتهم أشخاص ومجموعات ‏أخرى جلست في البداية على الأرض ولكنّها بتعاقب الأجيال بدأت تدريجيا تأخذ مكانا لها على ‏هذه الطاولة. ثم تطوّر الأمر فأصبحت هذه المجموعات تريد أن تقرّر في ما يوضع عليها ‏وهنا بالضّبط بدأ الصّدام، وطرح السّؤال المهم: من الذي يقرّر في أمر الطّاولة وما عليها؟  
الذين تصدّوا للإجابة على هذا السّؤال ذهبوا مذاهب شتى.، فمن قائل إنّه لا يحقّ إلاّ للمالك الحقيقي للطّاولة التّقرير في شأنها، طبعا دون تحديد لطبيعة ‏هذا المالك، إلى آخر يرى أنّ حقّ أخذ القرار على الطّاولة شأن يهمّ كل الذين جلسوا عليها.‏
ولتوضيح هذا الأمر يضرب المافلاني قضية الحجاب كمثال (4). إذ يذكر أنّ قضيّة الحجاب لم تطرح في الثّمانينات والتّسعينات حين كانت المحجّبات ‏يشتغلن بالتّنظيف ولكن عندما أرادت أوّل محجّبة أن تشتغل مدرّسة، عندها طرحت مشكلة ‏الحجاب بحدّة. وهذا دليل، عنده، على أنّ الإندماج ناجح وسمح للمحجّبة بأن تدرس وتريد أن ‏تحصل على مناصب أعلى من التّنظيف، ولكنّ المجتمع لم يتعود على ذلك. فأحتدّ النّقاش وقاد ‏إلى طرح قضيّة الهويّة.‏
ويرى الكاتب في تشخيصه أنّ الجيل الثالث للمهاجرين، يختلف عن الجيل الأول والثّاني، وهو يريد أن يكون له حضور أكثر في الفعل اليومي المجتمعي والسّياسي. ‏
إن كتاب «تناقض الإندماج» للمافلاني هو أقرب للتّشخيص. وليس هناك أفضل لتشخيص ‏المجتمعات، من عالم الإجتماع السّياسي، لأنّ له ملكة فهم لحركة المجتمعات أكثر من غيره. ‏ويخلص المافلاني في تشخيصه إلى أنّ ألمانيا بلد نجح بشكل كبير في تحقيق الإندماج وأنّ ما ‏تشهده البلاد الآن من حدّة في الحوار السّياسي والمجتمعي إنّما هو أشبه بالآلام المتزايدة ‏‏(‏Wachstumscherzen‏) التي يتعرّض لها الأطفال في فترة النّمو، فرغم حدّة هذه الآلام إلاّ أنّها ‏تقود في الأخير إلى نمو سليم للطّفل. ونفس الوضع سيكون مع ألمانيا فهذا الجدل الحادّ سيسمح ‏لها بالنجاح في تحقيق مجتمع متعدّد يتعايش بسلام في عالم سيطرت عليه العولمة.‏
والمافلاني لا يتوقف عند التشخيص بل إنه يستخدم صلاحياته كأستاذ جامعي بأن يسند ‏درجات أو تقديرا لألمانيا في «مادّة الإندماج» فيمنحها درجة المتوسط «3+» (5) ، باعتبار أن نظام التّقديرات في ألمانيا يبدأ من 1 (جيدا جدّا) إلى 6 (ضعيف جدا).‏
وفي الأخير أريد التأكيد على أن المافلاني محقّ في القسط الأكبر من تشخيصه، فألمانيا لا ‏تزال تعاني من عدم تساوي الفرص في الشّغل والتّعليم، بين الأجنبي وغيره، بين الرّجال ‏والنّساء. فوجود أسم أجنبي في مطلب الشّغل قد يحرم صاحبه من الشّغل في حين أنّ زميله ‏والذي له أسم ألماني يحصل عليه رغم التّساوي في الكفاءة العلميّة والمهنيّة بين صاحبي ‏المطلبين. ونفس المشهد نجده في المدارس إذ ينقص تساوي الفرص بين التّلاميذ من أصل ‏أجنبي وزملائهم الألمان.‏
ويؤكّد المافلاني أنّ الحديث عن هذه الموضوعات ومنقاشتها يقود عادة إلى ‏معالجتها وتقديم حلول ناجعة لها وبالتالي فالحديث عنها، بل وإحصاؤها أفضل من التّعتيم ‏عليها وتغطيتها.‏
الهوامش ‏ ‏
(1) علاء الدين المافلاني، تناقض الإندماج: لماذا تزداد الصّراعات كلما نجح ‏الإندماج؟ - ص29. 
(2) نفس المصدر - ص 35.
(3) نفس المصدر - ص 77.
(4) نفس المصدر - ص 85 ـ 86‏ . 
(5) نفس المصدر - ص 32 وما بعدها ‏.