في النقد الأدبي
بقلم |
د.ناجي حجلاوي |
الأقنعة الفنّيّة والدّروس التَّاريخيَة في مسرحيَة شمتو لطارق العمراوي(1/2) |
توطئة:
إن إثارة قضيّة المسرح العربي الّذي شهد الحياة منذ ما يناهز القرن ولم يحظ بكثير من الاهتمام تأصيلا وبناء واستشرافا، رغم جهود البعض مثل «الظّواهر المسرحيّة عند العرب» لعلي عقلة عرسان و«المسرح العربي من أين وإلى أين» لسلمان قطاية، فإنّ المسرح يظلّ جهازا ثقافياّ وأداة توعية واتّصال، ووسيلة إعلام لذلك يحتلّ منزلة قصوى تخوّل لنا التّساؤل حول ماهية المسرح ووظيفته، وهل للمسرح التّاريخي بالذّات من الخصائص ما جعله يوازي الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في لحظة حضاريّة تتصارع فيها الاتّجاهات الأدبيّة والفنيّة، آخذة من الأرضيّة الايديولوجيّة مجالا خصبا. فكيف سيرسم المسرح طريقه بين التّربية والتّاريخ والواقع بجميع تناقضاته؟ ولعلّ الحركة النّضالية في الحياة الثّقافية تظلّ الميسم الأكبر المتعالق مع النّزعات التّحرّريّة والنّهضويّة، في مواجهة التّهديدات الضّاغطة في كلّ ما يتعلّق بشؤون الهويّة، والثّقافة الوطنيّة والتّنوير، والتّقدم، ممّا يُكسب هذا الجهاز وظائف إضافيّة إلى جوانبه الفنيّة. وماهي حدود المساهمة المسرحية التّاريخيّة في نحت هذا السّبيل المتعدّد الوجوه، لغة وعرضا، نصّا وحركة؟
لقد تكثّفت اللّحظة الفنّية بكلّ تجلّياتها في المجال المسرحي، لأنّه جماع الصّوت والإضاءة والحركة والصّورة والإشارة. فكان بذلك عند كثير من الشّعوب أبا للفنون، ولمّا كان المسرح بهذه الخطورة وهذه الأهميّة ، فإنّ الثّقافات عامّة لم تعدم الاهتمام به والاحتفال، لأنّه الوسيلة المباشرة لتشخيص الأدواء المختلفة، والطريقة اليسيرة للاتّصال بالأذهان من أجل إيصال وعي يسعى إلى البناء.
إنّ هذه الأهداف السّامية والإنسانيّة النّبيلة التي يضطلع المسرح بترويجها بين ظهراني النّاس يجعل منه فرعا من الأدب الهادف. و لو لا الوسائط الرَّمزية و الفنّية الَتي يتوسَّل بها المسرح للبلوغ إلى المتلقّي بطريقة مسلّية ومرفَّهة، لسهل القول إنَّ المسرح مرآة يمكن أن يقرأ فيها الدّارس هموم مجتمع بعينه، فهو أصدق الوسائل الفنيَّة تعبيرا عن هموم مجموعة بشريَّة ما، لأنّه أكثر ضروب الفنّ اِلتصاقا بالبُنى الاجتماعيَّة التي تحتضنه. وإذا تعذَر على الباحث منهجيّا، وضع اليد على كلّ ما عرفته السّاحة الفنّية المسرحيّة من نصوص نُسجت في الفضاء التّاريخي، فإنّه يتعيّن عليه أن يختار أنموذجا ممثّلا ولو بدرجة مقدّرة بقدرها، لما حواه من توهَج جمالي مؤثر أو توغل في ثنايا التّجربة وعمق الكتابة، وسعة الاطّلاع، وفنيّة الأداء.
وفي هذا الصّدد انتخبت مسرحيّة «شمتو» لطارق العمراوي. ولقد تمّ التوسّل إلى ولوج عوالم هذه المسرحيَّة الفنّية بمدخل عرّج على التَّاريخ المسرحي قصد التزوّد بأرضيَّة نظريَّة تؤطّر هذا النّشاط الثّقافي في الصَيرورة الَتي رسمتها عجلة الزمان.
لقد كان الفعل المسرحي علامة مضيئة خلّدت تطلّعات الإنسان نحو نحت كيانه وترك أثر يتجاوز نسبيّته ومحدوديّته، و من ثمّ شقّ المسرح لنفسه سبيلا من العهود البشريّة المتقادمة، حيث القداسة والميثيولوجيا والجوقات والغناء، والرّقص، والمُكاءُ، والتّصديّة تعبيرا عن الوجود وبحثا عن المعنى وإنتاجه. ولا أدلّ على شموخ المسرح ممّا هو قائم من مسارح متقادمة شاهدة وحاملة لذاكرة مازالت تنبض بالحياة منذ عهد اليونان، أو الرومان، أو الفراعنة. إنّها شامخة شموخ الثّقافة ، لا يزيدها التّاريخ إلاّ تعتّقا ورسوخا، وسيظلّ كذلك، لأنّ المسرح في ارتباطه بحركة الواقع يزداد نموّا يوما بعد يوم بتبلور أفكار واتجاهات وتجارب فنّية مستجدّة.
والحاصل أنّ المسرح الذي وفد إلى الثّقافة العربية في الفترة المعاصرة من الحضارة الغربيّة يبقى في حاجة إلى مزيد النّقد والتصويب. وإذ ذهب بعض النّقاد إلى أنَّ المسرح لم يُحظَ بكثير من النَّقد فإنَّ هذا السّبب، هو من أقوى الأسباب الدّاعية إلى الانكباب على المسرح ولا سيَّما أنَّه أدب هادف.
المسرح في التاريخ:
لقد شهد القرن 5 ق.م أوج الحركة المسرحيّة، فأفعال الآلهة وأفعال النّاس لم تكن محكومة بمنطق محدّد وقبل الاِغريق كانت الدّراما معروفة ولكن درجة وضوحها كانت أقلّ ممّا هي عليه زمن الاِغريق ممّا يؤكد أصالة تفاعل البشر مع الحياة ترفيها عن النّفس و تعبيرا عن الأفكار والمشاعر وهو ينهض على فنّ الكلام وفنّ الحركة. والملاحظ أنّ مصطلح المسرح تتنازعه تعاريف متعدّدة ممّا يحيل على تنوّع هذا المجال وثرائه. فمجدي وهبه يرى أنّ المسرح: « هو البناء الذي يحتوي على الممثل وخشبة المسرح وقاعة النّظارة وقاعات أخرى للإدارة واستعداد الممثلين لأدوارهم وقاعة المشاهدين.»(1)
وللمسرح أنواع ومدارس: المسرح الكلاسيكي أومسرح العبث والمسرح الذّهني أوالتّراجيديا أو الكوميديا والمسرح التَاريخي. والمسرح نقطة خلاف بين النّقاد حول نصيب الأدب في المسرح. هل تأتي هذه الأدبية من النّص أم من جهود الممثل في إبراز الجماليّة والاضطلاع بالوظيفة التّأثيرية؟ ولكن الذي تجدر الإشارة إليه هو أنّ مجموعة كبيرة من النّقاد ترى أنّ المسرح هو جماع الفنون وهو نقطة اِلتقاء بينها تستضيئ فيها الحياة بنور التوّهج الفني .
لقد ارتبط المسرح في الاغريق بالأعباء الدّينية، فاكتسب من ذلك قداسة وكان الرّقص علامة ابتهاج الآلهة وأضحى «ديونيزوس» راعيا للسّحر والأقنعة والمسرح(2) وقد استخدم الرّقص إنذارا من الحرب وتدرّبا عليها.
عرفت الانسانية الدّراما بشكل من الأشكال منذ بداية التّاريخ وتطوّرت الأشكال المسرحيّة بحلول الفترة الاغريقيّة. يقول جون جاسنر: «إنّ الدّراما تمثّل الإنسانيّة في أشدّ لحظات توتّرها وصراعها وأزماتها كما أنّها تحاول حلّ هذه التّوترات والصّراعات والأزمات عن طريق الرّجوع إلى الأوضاع الإنسانية ذاتها» (3) وعلى هذه الشّاكلة يتبنّى المسرح معاناة الإنسان إزاء القوى الطّبيعيّة غير المفهومة فضلا عن صراعه من أجل تذليلها وتوظيفها لصالحه وقد زخر المسرح بتقديم القوانين تعبيرا عمّا في مسرح الحياة من تصوّرات وأحداث، وعليه فقد ارتبط المسرح بالكهنوت وامتزجت الثّقافة بالطّقوس الدّينية والشّعائر وقد اهتم النّقاد المسرحيّون بما شهدته مصر القديمة من حركة مسرحيّة ثلاثة قرون قبل الميلاد ومنهم من أكدّ أسبقيته على المسرح اليوناني بل إنّ المسرح الهيروغليفي قد أثّر في مسرح أثينا أيّما تأثير، حيث انتصر «حوريس» رقصا وغناء تعبّدا وقد شارك فيه رجال الدّين في الأداء تجنيدا لآلام الآلهة وإرادته للحياة .
إنّ هذه البدايات المسرحيَّة عبر تاريخ البشر تعتبر أنّ المؤثّرات الصّوتية والإشاريّة تفتقر إلى مؤكّدات وشواهد عدا ما كانت عليه النّصوص من شكل شعري ملحمي وكانت المسارح تقام في السّاحات العامّة تشريكا للنّاس في تقمّص الأدوار وطرح القضايا وتفهّمها. والجدير بالملاحظة أنّ الجماعة البشريّة ما كان لها أن تظلّ دون إبداع فنّي مباشر طالما ابتدعت لذاتها عادات وتقاليد وبدت الفنون الكلاميّة والبصريّة.
ولأهل علم الإناسة قول مفيد في هذا المجال وإن أُدمج المسرح ضمن الأساطير والسّحر دون إبرازه شكلا فنّيا مستقلاّ. ولقد سمّي المسرح لديهم بأبي الفنون لأنّه يجمع في رحلة الصّيد أو الحرب أو استنزال المطر بين أدوات الحرب وحركاتها وصيحاتها إلى جانب النّحت والغناء والرّقص والإيقاع طلبا للوظيفة التّأثيرية عبر إبراز صدق مشاعرها وتشجيعا للمحاربين. وهذا المشهد في تناغمه يقترب من شكل الأوبيرا الذي سيظهر لاحقا وكثيرا ما كان البخور مصاحبا للأداء المسرحي استحضارا للأرواح الكامنة في الطبيعة. وقد يتحوّل الحوار إلى «المونولوج» الأقرب إلى المناجاة ومع ذلك ظّل المسرح قناة حُبلى بمشاعر النّاس الغيبيّة والواقعيّة المشكّلة لممارساتهم الثّقافيّة.
وليس حال القبائل الافريقيّة ببعيد عن هذه البدايات في نشأة المسرح البدائي. فهو نشاط حركي وكلامي ملتبس بالمشاغل اليوميّة لأصحابه احتفالا بالأعياد والمناسبات الاجتماعيّة. وهو أقرب ما يكون إلى ما شهدته أوروبا ممّا يُعرف بحفل المجانين الذي تنقلب فيه الأمور انقلابا جذريّا لخدمة الملوك للخُدّام حيث يكثر الضّحك والتّندر وهي طريقة تخفّف من ضغط المشاعر المكبوتة (5) .
وهكذا يتجلى أنّ المسرح ليس بالضّرورة حركة احترافيّة وإنّما هو بالإضافة إلى ذلك تقديم عروض ساخرة ذات وظائف متعدّدة في حال أنّ الاحتراف كان معروفا تدوم فيه الدّربة سنوات في إصرار على ارتداء الأقنعة ولا سيّما إذا كانت المسرحيّة ساخرة من المعمّرين أو الحكّام الجائرين أو إزاء أساطير دينيّة .
فقد بدأ الاحتراف من جماعات بشريّة تهدف إلى معالجة الظّواهر الشّاذّة والقيم الطّارئة، فيتمّ التّذرّع بالمسرح نقدا لهذه الظّواهر كقضايا الخيانات الزّوجيّة أو إفراط بعض الحكام في استرقاق النّاس واستعبادهم وقد تدرّجت الحبكة المسرحيّة عبر مرور الأزمنة وعبر اختلاف التّجارب بين الشّعوب من مصر وأثينا إلى إفريقيا قبل ظهور المسرح الغربي والأوروبي الذي عرف تقدّما مهمّا باكتشاف السّينما حيث اكتسب المسرح وظيفة اجتماعيّة أساسيّة.
وبتطور التّرجمة انفتحت أبواب المثاقفة والإفادة والاستفادة وأضحى المسرح حاملا لعديد الوظائف فنّا وقناة دعائية لبرامج الحكومات فتعالق الفنّ بالسّياسة تعالقا.
وهكذا برز المسرح الجديد النّاقد في شكل كوميدي، وتفرّع إلى مسرح مُوال وآخر معارض وكلاهما يزاوج بين الحركة والغناء، وتضاءلت مواضيع الصّيد والحرب، ودخلت مواضيع مستحدثة حول الإنسان والكون والحياة، فتمّ تدعيم الاستفادة من فنّ الرّقص والغناء والسّينما، فأضحى المسرح أكثر جدارة من غيره من الفنون لدراسة البناء الاجتماعي والثّقافي السّائدين في عصر من العصور.
وللمسرح وظيفة أساسيّة هي التّطهير، يقول أرسطو في هذا المجال:«والتراجيديا هي محاكاة لفعل جادّ تامّ في ذاته له طول معّين في لغة ممتعة لأنّها مشفوعة بكلّ نوع من أنواع التزيّين الفنّي.
وكلّ نوع مهما يكون أن يرد على انفراد في أجزاء المسرحيّة وهذه المحاكاة تتمّ بشكل درامي لا سردي وبأحداث تُثير الشّفقة والخوف وهكذا تتمّ عملية التّطهير باللّغة والفنّ و الغناء من هذين الانفعالين.» (6)
فالمطروح على المسرح، حينئذ، إزالة الشّرور من النفوس وهي وظيفة سيكولوجيّة مهمّة لذلك ركزت الحضارات على أهميّة المسرح وأكثرت من عروضه وهي المعايشة النّفسيّة الصّادقة للأحداث عبر المشاهد المسرحيّة المشخّصة للوحات حيّة في الواقع وإن مازجها الفنّ بفضل الإخراج والسّينوغرافيا، وقد ذهب سان أوغيستان إلى: «أنّ النّاس لا يحبّون أن يعيشوا الألم في واقعهم الحياتي ولكن يُحبّون معايشته دراميّا وفنيا وجماليّا ومن ثمّ يرتاح المشاهدون كثيرا للتّراجيديّات وكلّما ضعفت الصّناعة الإخراجيّة ثار الجمهور غاضبا وخرج من المسرح ثائرا»(7).
ويضطلع المسرح حينئذ بوظيفة الإشباع النّفسي اِرتواءً فنّيا ولهفة على تصوير مآسي النّاس وإذا أشبع الاِحساس بهذه المآسي تعمّق الحبّ في داخل النّاس شفقة على الإنسان وهبوبا للإنقاذ والإعانة. ومن الوظيفة السّيكولوجية تنبع الوظيفة الأخلاقيّة، ولمّا كان النّاس ضعافا وأشرارا فإنّ الرّحمة التي يثيرها المسرح تكون إزاء الضّعفاء، وأمّا الأشرار فالانفعال الموجّه لهم هو الشّفقة عليهم.
وفي هذا الاطار توسّل أصحاب الأقلام لإنشاء نصوص ابداعيَّة توظّف التَّاريخ وتستلهم الواقع من أجل بلورة قضايا اجتماعيَّة وسياسيَّة وثقافيَّة. ومن بين هؤلاء نلفي الكاتب طارق العمراوي الذي أصدر مسرحيّة بعنوان:«شمتو حجارة العبيد والملوك»(8). وهي مسرحيّة تنهض على إبراز قيمة العمل ودورها في تحرير الأذهان والأجساد والأوطان. وأحداثها تدور في مقاطع الرّخام في العهدين النّوميدي والرّوماني. وككلّ عمل مسرحيّ تنهض هذه المسرحيّة على معمار فنّي مخصوص قوامه الأطر المكانيّة والزّمانيّة بالإضافة إلى شخوص ممثّلين يضطلعون بأدوار قوليّة تدفع بالحوار قدما ويقومون بوظائف حدثيّة. وبين دافع وجاذب، وبين مساعد ومعرقل، تنمو الحركة المسرحيّة وتتطوّر الأحداث. وهذا المعمار موظّف بدوره لبلورة قضايا من شأنها ومن شأن المعمار شدّ الدّارس إلى مطالعة هذا النَّص المسرحي. فما هو المعمار الّذي انتظمت وفقه الأحداث؟ وما هي أهمّ القضايا التّي طرحتها هذه المسرحيّة؟
الهوامش
(1)أحمد أبو زيد، ما قبل المسرح، عالم الفكر،مجلة17،ع4،سنة1987، الكويت، ص ص6-7
(2) عبد اللطيف أحمد علي، القيم: التاريخ اليوناني العصر الهللادي، دار النهضة العربية، بيروت، سنة 1976، ج1، ص333 و ما بعدها.
(3) أنظر جون جاسنر0 Masters of the Drama –Dover publication,New yarth194
(4)أحمد أبو زيد ، ما قبل المسرح، ص12.
(5) م ن ، ص 19.
(6) انظر أرسطو ،فن الشعر، ترجمة و تعليق ابراهيم حمادة، مكتبة المسرح رقم3، مركز الشارقة للإبداع الفكري، الشارقة، الامارات العربية المتحدة، ص 111.
(7) انظر جميل حمداوي، الحضارة الأمازيغية، انتروبولوجيا الإنسان ، التاريخ، الكتابة، الديانات و الثقافة، افريقيا الشرق، المغرب،ط1،سنة2011،ص 317.
(8) من إصدرات اتّحاد الكتّاب التّونسيين. وهي في طبعتها الاولى سنة 2017. |