همسة

بقلم
الخامس غفير
قضية «العنف» في قصة موسى عليه الصلاة والسلام
 إنّ المتأمّل في قصّة موسى عليه الصّلاة والسّلام وما رافقها من أحداث ووقائع يجدها من بين أهم ‏المواضيع ذات البعد القصصي التي حظيت باهتمام بالغ من قبل الدّارسين والمهتمين بتاريخ الأديان ‏والقصص القرآني، بل وتناولها القرآن الكريم من خلال تيمات مختلفة وزوايا متباينة حسب المجال التداولي ‏الذي جاءت في سياقه...‏
ويعد موضوع «العنف» في قصّة موسى‏‏ من المواضيع التي لا يجرؤ على إثارتها كثير من الدّارسين نظرا ‏لحساسيته لدى البعض، لكنّ الدّراسة الموضوعيّة والاتصال العقلي المباشر بالنّص القرآني أو المتن ‏الإصحاحي كما هو مبثوث في سفر الخروج، يجعلنا نصل إلى حضور «العنف» كآليّة للدّفاع عن النّفس في ‏قصّة موسى، بل ذهب بعض من تطرّق إلى هذا الموضوع باعتباره منهجا في التّغيير وسبيلا من السبل ‏لإصلاح الأوضاع الاجتماعيّة.‏
ويتجلّى لنا «العنف» بوضوح في ما أقدم عليه موسى من قتلٍ للرّجل العبراني « وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ»(1)، منتصرا ‏بذلك لبني عشيرته، وكأنّنا أمام لحظة إنسانيّة عاديّة تتجلّى فيها معاني القبّة البشريّة التي تنأى بنفسها عن ‏البعد النّبوي والمتجرّدة عن الوحي الإلهي المنزه عن الخطأ.‏
إنّها محطّة كانت بمثابة علامة فارقة بين لحظتين في حياة موسى عليه الصّلاة والسّلام، لحظة انتقل فيها من ‏رجل خاضع للانفعال باعتباره جزء لا يتجزّأ من الطّبيعة البشريّة إلى لحظة الاتزان النّفسي والانسجام ‏الدّاخلي القائم على التّحكم في الذّات والانفعالات الفطريّة، وكان سنده في ذلك معيّة الله وتوجيه ‏ربّاني، ثمّ ما وجده من بحث عن بعض الحلول التّتويجية لمعضلته الإنسانيّة والبشريّة، منها مغادرته للبيئة ‏الفرعونيّة التي كان يعيش فيها وتأثيراتها المتعدّدة في بناء شخصيّته الأولى.‏
إنّ هجرة موسى إلى مدينة مدين أو «أرض مديان عند البئر»، ساهمت إلى حدّ كبير في إعطائه الفرصة ‏المناسبة للوقوف مع الذّات والتّأمّل والتفكّر بنفس عقلاني تغيب فيه معاني «العنف» ومظاهر الغريزة ‏المندفعة نحو تخطّي القيم الإنسانيّة النبيلة إلى لحظة استحضر فيها المعطى السلمي في تبليغ الكلمة وتوصيل ‏الرّسالة وبذلك كان موسى معترفا بخطأ القتل ولاجدوى لفعله وسلوكه وممارسته، ثمّ مقرّا بعدم صوابية ما ‏فعل واقترف في حقّ الرّجل العبراني فكان قوله:«قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ »(2) 
إن طلب العفو والصّفح من ربّ العالمين كان بمثابة انتقال من زمن «العنف» إلى زمن اللاّعنف والسّلم ‏المؤيد بالوحي، والمستلهم من التّشريع الرّباني والتّوجيهات الإلهيّة المؤسّسة على الدّعوة بالحكمة والقائمة ‏على الموعظة الحسنة، وقد استعان في تحقيق ذلك المقصد بأخيه هارون الذي كان سندًا له وعونًا له على ‏تبليغ الدّعوة والرّسالة.‏
إن من العبر المستقاة من قضية «العنف» في قصّة موسى وعلاقته بالرّجل العبراني متعدّدة ومتنوّعة حسب ‏عموميتها ونجملها في النّقاط الآتية:‏
‏-‏ العنف لا يأتي بخير بل هو سبيل للتّفتيت.‏
‏-‏ العنف معول من معاول الهدم الاجتماعي .‏
‏-‏ العنف ليس طريقا للبناء الحضاري والإنساني.‏
‏-‏ العنف منزلق من المنزلقات الخطيرة لتحطيم الأمم والمجتمعات.‏
‏-‏ العنف لن يكون أبدا سبيلا في التّغيير والإصلاح الاجتماعي.‏
‏-‏ الرّحمة واللّين سبيلان للتّغيير والفعل في المجتمع.‏
‏-‏ التّعاون والتآزر مدخلان مهمّان لأيّ صناعة أخلاقيّة وإنسانيّة.‏
‏-‏ العمل التّطوعي والإنساني نقيض للعنف وسبيل لتأليف القلوب كما حصل مع نبيّ الله شعيب ‏عليه الصّلاة والسّلام.‏
الهوامش
(1) سورة القصص - الآية 15
(2) سورة القصص - الآيتان 16 و 17