في العمق
بقلم |
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام |
أزمة الإنتاج في الأمة المرهقة بين الاستنساخ والمسخ (2/2) |
الأفكار لا تموت لكنّها تتيبّس
الأفكار التي يبدعها العقل البشري لها زخم في دفع الحضارة الإنسانيّة إلى الأمام. لكن هذا الزّخم يخبو شيئا فشيئا، وإذا لم تتفتّق العقول عن أفكار جديدة خارجة عن مجرّد التّطوير للأفكار القديمة، لأنّ الأخيرة هذه لا تعدو عن كونها عمليّة ترميم ثقوب البناء القديم، سيفقد هذا الزّخم تماما يوما ما ويترهّل الجسد ويصير عبئا على الأفكار التي لا تقوى على تحريكه للمستقبل، ويصير الزّمن لدى الأمّة مثل الزّمن لدى الميّت لا ماض ولا حاضر ولا مستقبل.
يقول الفيلسوف الهولندي: «يوهان هويزينجا» في كتابه «خريف العصور الوسطى»: « كانت أوروبا تتغذّى على رصيدٍ من الأفكار المرهَقة، والتي لم تعد تلْهِم العقل الأوروبي، بل أصبحت عِبْئًا ثقيلا عليه. وعندما تصبح الأفكار الموجِّهة لحياة النّاس مرهقَةً، فإنّها تغلق مسالك المستقبل، وتُعْشِي الأنظار في تطلّعها نحو الأفق البعيد والأمل الفسيح. [1] وأسوأ ما يقابل النّاس به الأفكار البشريّة هو التّقديس وأن يخلط بينها وبين الدّين، فيصير كلام فلان «العالم الفذّ» في قضيّة خلافيّة ما دينا في نفوس أتباعه برغم أنّها لا تعدو عن كونها اجتهادا يعبر عن فهمه هو، أو حتّى فهم فريق بأكمله لطالما كان هناك من يعارضه، وفي نظري أنّ الفكرة البشريّة المختلف فيها التي يرفعها أصحابها للتّقديس «بلسان الحال طبعا وليس بلسان المقال»، هذه الأفكار تموت حقيقة ويبني لها رعاتها هيكلا حتى تظلّ هالات التقديس محيطة بها في نفوس أتباعها. وعلاج ذلك لا يكون إلاّ برفع سلطة الاستدلال وقبول النقد طالما كان وفق منهج متفق على أدواته، وأرى أنّ تلك خصيصة لا تملكها الدّولة الحديثة التي تصادر على سلطة الاستدلال في مناطق كثيرة جدا برغم أنّها ترفع الحرّية شعارا، فمثلا عدم التعقيب على أحكام القضاء مصيبة كبرى على العقل البشري في هدم سلطته في الاستدلال، خصوصا إذا كان النّقد لا يمنع من تنفيذ الحكم أصلا، فلا تلازم بين التعقيب والهروب من التنفيذ.
سلطة الاستدلال هذه وحدها أكبر منجزات الثقافة الإسلاميّة التي أنتجت دولا فيها قضاء يحكم في أقضيات النّاس وعلماء ومفتون يعلمون ويفتون بسلطة الاستدلال غير الملزمة والتي ربّما خالفت القضاء «الملزم» في كثير من الأمور. وكما أنّ ثبات قدر معين من التّشريعات وتنفيذ أحكام القضاء مهمّ جدّا لاستقرار المجتمع، فإن النّقاش «غير الملزم» لقضايا داخلة تحت هذا القدر مهمّ جدّا في ديناميكية العقل الجمعي في التّحرك ناحية الأفضل. ولمّا تجمدت هذه الديناميكية وتحجر الاجتهاد لدرجة أنّه كان هناك من علماء المؤسّسات الرّسميّة في هذا الوقت من يفتي بحرمة الأكل بالملعقة، ومرّ على ذلك عقود طويلة وتعاقبت أجيال على هذا النّحو حتى كادت تمحى ملكة الاجتهاد. وشاء الله أن يولد من رحم هذه الظلمة عصر للنّهضة لكنّها وئدت تحت نير الاستعمار ومن خلفه الاستبداد.
الغذاء المقدّس للأفكار
مرّت قرابة المائة عام على أفول نجم عصر كان يؤمل أن يكون عصر النّهضة العربي بأعلامه: الأفغاني، محمد عبدة، رشيد رضا، رفاعة الطّهطاوي، الكواكبي، حسن البنّا، محمد حامد الفقي، خير الدّين التّونسي، الطاهر بن عاشور، أحمد بن أبي الضياف، عبد الحميد بن باديس، مالك بن نبي، محمد البشير الإبراهيمي، الشوكاني، المودودي، محمود شاكر وغيرهم كثير كثير، لكنّهم لم يرتقوا إلى مستوى الآباء المؤسّسين لعصر النّهضة الأوروبي، فمعظمهم كان يغلبه التّأثر بغيره «أكثر ممّن ينبغي» سواء من بني جلدته ممن غبروا أو ممّا حضروا أو من الحضارة الغالبة «الغربية أعني» ولم يؤسّسوا لمناهج جديدة في النّهضة والإصلاح تخصّهم، وربّما كانوا النّواة للجيل القادم، لكنّنا وللأسف نكصنا على أعقابنا ولم نكمل خطواتهم التي بدؤوها. لم يكن لديهم جهد عظيم يكافئ الخروج من النّفق المظلم الذي قارب خمسة قرون، لم يكن هناك نماذج فذّة وعديدة بالقدر الكافي مثل تلك التي وجدت عند الغرب وهؤلاء واكبوها تقريبا، تلك النّماذج التي كانت تقدّم رقبتها ثمنا لأفكارها، كما يقول سيد قطب إنّ «كلّ فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان! أمّا الأفكار التي لم تطعم هذا الغذاء المقدّس فقد ولدت ميّتة ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام» [2]. فعلى سبيل المثال مع توفّر المادّة الخام لاستخلاص نظريات في الحكم والسّياسة والإدارة والاجتماع متمثّلة في الثّروة الفقهيّة والتأصيلية والسّلوكية المتفرّدة ومع توفّر الثّروة العلميّة التجريبية، لم يوجد من يستخرجها من بطون الكتب ومن أبجديات الواقع، ومن تجارب السّابقين حتى أتى آباء النّهضة الأوروبيّة في كلّ فنّ فاستفادوا من هذا كلّه وأحدثوا نقلة نوعيّة غير مسبوقة في العلم والسّياسة والاجتماع والآداب والفنون. والعجب العجاب أن يأتي - بعد ذلك بقرنين من الزمن- من كان يغطّ في سبات عميق ليقول إنّ هذا كلّه موجود عندنا في ديننا الحنيف، وأنا أشكّ في وعي ذلك النّائم شكّا عظيما، لأنّه في الغالب يأكل طعاما «أفكارا» أكله غيره، لكن الذي لا أشك فيه لحظة هو الجهد العظيم والإرث الغالي الذي تركه لنا أجدادنا في حين كانت أوروبا تعيش عصورها المظلمة، والذي كان يتوجب علينا إمداد هذا الضّوء بمادتة الغالية من قدح الذّهن على الأفكار الجديدة دوما، لكنّنا ويا للأسف نمنا وفي المقابل أفاق الغربيّون فأخذوا الأسس التي أسس بها أجدادنا للنّهضة، فاستفادوا منها وأضافوا عليها إضافات نوعيّة جدّا لم يسبقهم إليها أباؤنا.
لكن ما الذي أعجزنا طوال هذه القرون على أن نأتي بها ونفعلها في الواقع؟، أم أنّنا أعدنا قراءة ديننا عندما صدمنا بتقدّم الغرب الرّهيب الذي كان قد أيقظ كلّ شيء قبل أن يستيقظ الإنسان المسلم، فقد أيقظ البقر والشّجر والحجر، حتّى قال محمد رشيد رضا، في معرض إجاباته التي كانت تنشر في مجلة المنار عام 1907.. مايلي» لا تقل أيها المسلم إنّ هذا الحكم «المقيد بالشّورى» أصل من أصول الدّين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الرّاشدين، لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف على حال الغربيين، فإنّه لولا الإعتبار بحال هؤلاء النّاس لما فكرت أنت وأمثالك أنّ هذا من الإسلام. [3]
طرح بعض آليات الحلّ
للخروج من هذا النّفق المظلم أطرح بعض التّصورات التي تحتاج نقاشا عميقا وطويلا وتفكيرا وتأملا وإعادة النّظر عدّة مرّات من طرف عقول كثيرة لعلّه يجدي نفعا ويساعدنا في خروجنا للنّور مرّة أخرى:
أولا: لا بدّ من إنتاج نخبة مثقّفة من الطّراز الرّصين يكون منها الآباء المؤسّسون للنّهضة تحمل همّ الخروج من هذا النّفق على عاتقها، وتلك مسؤوليّة الأسرة قبل المدرسة في بناء عقل ناقد وباحث عن العدالة في كلّ شيء، يأبي الظّلم حتّى من والديه.
ثانيا: مسؤولية الدّولة (إن وجدت بشكل فاعل بين الأمم وليست في صورة المفعول فيه) في تفعيل دور المدرسة حيث ينبغي ألاّ تهتم ابتداء بتخريج موظّفين يشغّلون دولاب الدّولة فقط، بل لا بدّ وأن تهتم المدرسة ببناء علماء رصينين متقنين، فإن خرّجت 5 بالمائة على هذا النحو وتفلت الباقي، فسنحصل على أكثر من 70 بالمائة موظفين جيّدين وهذا شيء ممتاز، أمّا إذا تمّ صياغة السّياسات على تخريج موظّفين، فلن نحصل في أحسن الأحوال إلاّ على 10 بالمائة من الموظّفين الجيّدين ثم يكون غالب الانتاج بعد ذلك موظفين رديئين يمثلون عبئا على الحضارة.
ثالثا: مسؤولية الحركات المجتمعيّة الثّقيلة ومؤسّسات المجتمع المدني في غياب الدّولة في ممارسة عمليّة التفكيك حتّي النّخاع وعدم الوقوف عند حدّ تقديم الأجوبة المختزلة مثل «علاجنا في العودة إلى الله عزّ وجل»، «والإسلام هو الحلّ»، «أو حتميّة الحلّ الإسلامي»، «الحلّ الإسلامي فريضة وضرورة» ولاشكّ في صحّة ذلك كلّه إذا كان في الإطار القيمي، أمّا إذا قصد بذلك أيضا شموليته للتّقدم التكنولوجي «الحضاري» فلاشكّ أنّ ذلك غير صحيح على إطلاقه، لأنّ الحضارة نهر تصبّ فيه كلّ عقول البشر وليس للدّين دخل في مسيرة العلم الطبيعي إلاّ من النّاحية القيميّة فقط لضبط الإيقاع. فليست هنالك فيزياء مسلمة وفيزياء مسيحيّة أو فيزياء بوذية أو رياضيات أو كيمياء ... إلى آخره. لا يدخل الدّين في هذه الجزئيات أصلا إلاّ من زاوية دراسة استخدام منتجات العلم ومآلات تلك الاستخدامات. فكم كان يردّد بيننا نريد الطّبيب المسلم والمهندس المسلم والطّيارالمسلم والعالم المسلم ... ولا غبار إذا قصد من ذلك كلّه تكوين كوادر مسلمة في هذه المجالات، لكن الذي كان يقصد بل كان يعلن هو أسلمة العلوم، ولا أدري كيف يكون للحضارة دين وهو إنتاج مستمرّ بل ومختلط جدّا من عصير كلّ العقول يأخذ هذا من ذاك وذاك من هذا. نعم تأتي عصور تعيش فيها أمّة في الظلام وتقترب نسبة مشاركتها في العلم من الصّفر لكن يظلّ موضوع العلم الطبيعي مختلف تماما عن الدّين. عملية التّفكيك هذه تستدعي الاستفادة القصوى من التّراث والمناهج الحديثة في المعرفة في استخلاص وإنتاج منهج جديد تفصيلي يتعامل وتعقيد الواقع وارتباكاته.
رابعا: بثّ الرّوح النّقدية وقبول الاختلاف في الرّأي في النّاشئة وتعليمهم أنّه ليس كلّ من يختلف معي وينتقدني أنّه ضدي بل ربّما يكمّل الصورة عندي، ثم التّركيز أوّلا على جوهر الموضوع محلّ النّقد/ الاختلاف، ثم يأتي بعد ذلك أدبيات النّقد/ الاختلاف، فكم من موضوعات نقديّة قيمة أهدرت بسبب تقديم أدب النّقد/ الاختلاف على جوهر الموضوع المنتقد. فالاختلاف ظاهرة صحيّة جدا يثري بها التّنوع الثقافي وتتلاقح بها الأفكار، وقبول الاختلاف والنّقد والاستماع إليه أحد أهمّ مؤشرات ممارسة الحرّية في هذا المجتمع.
خامسا: مراعاة البعد الزّمني، فكلّما تأخّرت البدايات كان الطّريق للتقدم أشقّ وأشقّ، فمنذ مائتي سنة كان الطريق إلي النّجاح أسهل كثيرا من اليوم، معادلة القوى الآن تفرض قيودا على تقدّمك وتحضرك وحتى لو تطلّب ذلك تحريك الجيوش ضدّك والوضع الاقتصادي المتشابك يحركّه مصلحة أرباب المال والذين هم أصحاب النّظام المالي العالمي. خلاصة القول أنّه بدون العودة إلى الإنتاج الحقيقي في كلّ ميادين القوّة، سنظل ندور في الحلقة المفرغة بين أيدي اللاّعبين الأقوياء.
المراجع
[1] يوهان هويزينجا، «خريف العصور الوسطى: دراسة لنماذج والحياة والفكر والفن بفرنسا والأراضي المنخفضة «، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، مصر، 2015.
[2] سيد قطب، «أفراح الروح»، دار التوزيع والنشر الإسلامية ، 1993، ونشرته مجلة الفكر التونسية في عددها السادس من السنة الرابعة، آذار «مارس» 1959م بعنوان «أضواء من بعيد».
[3] وجيه كوثراني، «مختارات سياسية من مجلة المنار»، ص 23، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 1980.
|