في الصميم
بقلم |
عمر بن سكا |
قراءة في معالم التجديد في مبحث المقاصد عند الدكتور طه عبد الرحمان (1/2) |
مقدمة:
بدأ التّصنيف والبحث في مجال مقاصد الشّريعة على نحو مبدئيّ وغير مستقلّ عن علم أصول الفقه منذ وقت مبكّر مع بداية عصر التّدوين في العلوم الشّرعية أي خلال القرنين الثّاني والثاّلث الهجريين، وقد أسهم عدد كبير من علماء الفقه والأصول بعد ذلك في إغناء مباحث المقاصد والمصالح الشّرعية التي جاءت الشّريعة لمراعاتها وحفظها، كأبي الحسن العامري(تـ381هـ)، والإمام الجويني (تـ 478هـ)، وأبي حامد الغزالي(تـ 505هـ)، والفخر الرازي (تـ 606هـ)...وكذلك مع ثلّة أخرى من العلماء البارزين كالعزّ بن عبد السّلام (تـ 660هـ)، دون إغفال أعمال كلّ من شيخ الإسلام ابن تيميّة (تـ 728هـ) وتلميذه ابن قيم الجوزيّة (تـ751هـ)، وغيرهم.
لكنّ الدّرس المقاصدي باتّفاق جلّ الباحثين تبلور بشكل أوضح وأعمق مع الإمام الشّاطبي (تـ791هـ) صاحب كتاب الموافقات، الذي عمل على تخصيص - ضمن موافقاته - كتابا للمقاصد بيانا وتقسيما وترتيبا لها...ويعتبر جلّ من جاء بعده من العلماء مقتفيا أثره في تقسيمه للمقاصد وتحديد رتبها، وتقعيد ضوابط تلك المصالح والعلاقات المفترضة بينها...وفي العقود الأخيرة، كثر المؤلّفون في مباحث المقاصد الشّرعية إلى درجة اعتمادهم تقريبا على التّراث المأثور في باب المقاصد، وخاصّة ما تقرّر عند الرّواد الأوائل في هذا العلم من أمثال الشّاطبي والجويني، وكذلك الطّاهر بن عاشور فيما بعد.
وقبل طرق باب دعاوى ودواعي التّجديد في مبحث المقاصد، لابدّ من التّأكيد على أنّ جميع هؤلاء أجمعوا بالفعل على أنّ الشّريعة مبنيّة على الحِكم ومراعاة مصالح العباد في الدّارين، ويمكن تلخيص ذلك المعنى في نصّ جميل مأثور سطّره الإمام ابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين» حينما قال:«فإنّ الشّريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرّحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشّريعة وإن أدخلت فيها بالتّأويل، فالشّريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلّه في أرضه، وحكمته الدّالة عليه....فهي بها الحياة والغذاء والدّواء والنّور والشّفاء... وهي العصمة للنّاس وقوام العالم، وهي عمود العالم وقطب الفلاح والسّعادة في الدنيا والآخرة»(1) .
بالطّبع لا يعني ما ذكرناه سابقا أنّ الدّرس المقاصدي ظلّ جامدا ومحصورا في قضايا سطرها المتقدّمون. ذلك أنّ النّقاش الذي طرحه بعض المعاصرين حول حدود وإمكانيّات التّجديد في علم أصول الفقه(2) لفت النّظر إلى مسألة التّجديد أيضا في مبحث المقاصد. ممّا فتح المجال للحديث عن عيوب ونواقص اعترت نظرة المتقدّمين لقضايا معينة في باب المقاصد، وخاصّة على مستوى تقسيم المقاصد وتحديد رتبها، أو التّقابل الثّنائي الذي اعتمده جلّ الأصوليين في تصنيف الأحكام الشّرعيّة إلى صنفين اثنين فحسب، فالأحكام -عندهم- تدور بين ما هو «معقول المعنى» وبين ما هو «غير معقول المعنى».
لقد ارتأيت في هذا المقال (في جزءين) أن أسلّط الضّوء على إشكاليّة التّجديد في مبحث مقاصد الشّريعة، فوقع اختياري على «مشروع» أسماه الدّكتور والفيلسوف المغربي «طه عبد الرحمان» بالتّجديد العلمي لمبحث المقاصد، وهو عمل يجوز لنا أن نسمّيه بالمشروع الأخلاقي لعلم المقاصد، وفيه عرض «طه عبد الرحمان» نظريته المقاصديّة التي تروم حسب قوله تصحيحَ عدد من الاخلالات التي شابت تقسيم الأصوليّين للمقاصد و تحديد مراتبها، فجاءت اعتراضاته تقيس أساسا الإخلال بشرط كلّ من «تمام الحصر»، «التّباين»، «التّخصيص»، و«التّرتيب» ، وأيضا تقويمَ نظرتهم العامة للمصالح التي تراعيها الشّريعة، علاوة عن إعادة ترتيب بعض المباحث التي اهتم بها الأصوليّون تحت مسمّى: «الوسائل أو الأسباب»، ثمّ «الحيل»، وأخيرا «الذّرائع».
لقد دخل الدكتور «طه عبد الرحمان» مبحث المقاصد من باب الاهتمام بقضيّة التّجديد المنهجي في تقويم التّراث الإسلامي، وكان منطلقه الأول في الدّعوة إلى تجديد مبحث المقاصد هو صياغة تعريف ومفهوم جديدين لعلم المقاصد يقترن بدلالات ثلاث هي: المقصود (المضمون الدّلالي)، القصْد(النّية)، والغاية أو الحكمة. أمّا منطلقه الثّاني فيرتكز على النّظر إلى علم المقاصد باعتباره علما أخلاقيّا غايته ومنتهاه تحقيق صلاح الإنسان، وبالتّالي تحقيق العبودية لله تعالى.
وباختصار شديد، وقبل الخوض في معالم التّجديد في مقاصد الشريعة عند «طه عبد الرحمان»، تجدر الإشارة إلى أنّ مشروعه الأخلاقي ذاك يتأسّس على ثلاث نظريّات يكمل بعضها البعض أطلق عليها تباعا: «نظريّة القيم (الغايات)»، «نظريّة النّيات»، «نظريّة الأفعال (الوسائل)». حيث تتبوّأ «نظريّة القيم» أعلى مرتبة، تليها «نظريّة النّيات»، ثم «نظرية الأفعال».
1-- التصور العام للتجديد العلمي في مبحث المقاصد:
إن مبحث المقاصد بالنّسبة للدّكتور «طه عبد الرحمان» كان ولايزال محطّ اهتمام بالغ من لدن علماء الفقه والأصول وكذا الباحثين في علوم الشّريعة الإسلاميّة، ولا يقلّل إطلاقا من شأن ومحورية النّظر في المقاصد والمصالح الشّرعية في إطار التّشريع الإسلامي من أجل إدراك معاني الشّريعة والوقوف على حِكَمها. غير أنّه نبّه إلى مسألة وقع فيها المتقدّمون من الأصوليين، حيث كان البحث عندهم في الأحكام (الأحكام التفصيلية والجزئيّات الفقهيّة) صاحب الحظّ الأوفر في اجتهاداتهم وكتاباتهم مقارنة مع «مبحث المقاصد».
قبل تأسيسه للتّصور الجديد الذي يقترحه من أجل تطوير البحث في علم المقاصد، يبدأ «طه عبد الرحمان» بتعريف الجهاز المفاهيمي الذي يؤطّر هذا التّصور، ومن خلاله يمكن فهم معالم ذلك التّجديد (مشروع تخليق المقاصد) الذي يتطلّع إليه، وكانت البداية مع مفهوم «الأخلاق»(3)، وهي عنده ليست أفعالا محدودة كما يتصوّر البعض، بل إنّه ما من فعل إنساني إلاّ ويقترن بالأخلاق، فإمّا أن يرفع الخلقُ الفعلَ ويسمو به، وإمّا أن يخفضه ويحطّ من ذلك الفعل. وهو يقصد بالفعل في هذا السّياق الأفعال والسّلوكات الذّهنية والعينيّة التي تصدر عن الإنسان من نوايا وأفكار وأفعال سلوكية محسوسة؛ « فقد يريد الإنسان بهذا الفعل الذّهني جلب خير أو دفع شرّ، فيرقى به إلى أعلى، أو يريد به جلب شرّ أو دفع خير فينحطّ به إلى أسفل» (4) . ويذهب بعيدا في تقرير أهمّية القيم الخلقيّة وشموليتها للفعل الإنساني، حيث قال إنّ الحد الفاصل بين الإنسان والحيوان ليس هو قوة العقل، وإنما قوة الخلق، «إذ لا إنسان بغير خلق» (5) .
من جهة أخرى وقف «طه عبد الرحمان» على مصطلح المقاصد، وحاول أن يبيّن مختلف الدلالات التي يمكن أن يوحي بها لفظ «مقْصد»، ذلك أنّ تعريف المقاصد باعتباره العلم الذي يبحث وينظر في مقاصد ومصالح الشّريعة الإسلاميّة ليس إلاّ مجّرد وصف لفظي للمعرَّف، ومفهوم المصلحة أيضا يطرح إشكالات متعدّدة على مستوى مدلولها، فهو يتجاوز مفهومها كما صاغه الأصوليّون ليجعله «طه عبد الرحمان» مرادفا لمعنى الصّلاح، وليس بمعنى أنّها غرض. ويشرح ذلك قائلا: « فإذا قيل علم المقاصد ينظر في مصالح الإنسان الدّنيويّة والأخرويّة، فالمراد إذن أنّه ينظر في وجوه صلاح الإنسان في الدّنيا والآخرة». إذن المصلحة كما عرّفها هي الطّريق أو المسلك الذي يقود إلى تحقيق صلاح الإنسان في الدّنيا والآخرة (6).
بناء على مفهوم «الأخلاق» و«المقاصد» كما حدّدهما «طه عبد الرحمان»، يتحصل أنّ علم المقاصد يعني «العلم الأخلاقي الذي موضوعه الصّلاح الإنساني». ويصحّ إطلاق اسم «علم الأخلاق»، و«علم الصلاح» على مقاصد الشّريعة.
2-- علم المقاصد ونظرياته الثلاث عند طه عبد الرحمان:
يعتبر البحث في مفهوم الأخلاق والمقاصد بالنّسبة لفيلسوف الأخلاق «طه عبد الرحمان» مجرّد توطئة أو تمهيد لشرح المقومات التي يجب أن يبنى عليها علم المقاصد بمفهومه الجديد، وبهذه المناسبة فهو يقترح ثلاث نظريّات متكاملة فيما بينها تحدّد ماهيته بغية تجاوز ما اعتبره ثغرات أو خللا أفرزه التّعريف والتّقسيم التّقليدي لعلم المقاصد.
وقد استقى الرّجل نظرياته الثّلاث من خلال الوقوف على الدّلالات المتاحة التي توحي بها كلمة «مقصد» وبيانُها على النحو الآتي:
* المقصِد يأتي بمعنى «المقْصُود» أو المراد، وهو المضمون الدّلالي المراد من القول، وإذا ربطنا هذه الدّلالة بالشّريعة وقلنا مقصود الشّريعة فهذا يعني «المضامين الدّلالية المرادة للشّارع بأقواله التي يخاطب بها المكلفين»(7) . وتلك المضامين الدّلالية للشّريعة عبَّر عنها «طه عبد الرحمان» باسم «الأفعال». ومعلوم أنّ مقاصد الشّريعة تنظر في الأحكام التي تتضمّنها أقوال الشّارع الحكيم، ومادام علم المقاصد علما أخلاقيّا وجب أن يقوم على ركن أوّل سماه «طه عبد الرحمان» «نظرية الأفعال» مهمّتها البحث في الجوانب الأخلاقيّة للأفعال الشّرعية التي تنصّ عليها الأحكام (المضامين الدّلالية).
* المقصد ثانيا يأتي بمعنى «القصد» أو النية، وعليه فمقاصد الشّريعة يراد منها قصود الشّارع وقصود المكلّف، أي النّية التي تصدر عنهما. «ومتى كان علم المقاصد علما أخلاقيّا ينظر في القصود (النّوايا) التي تصدر عن الشّارع والمكلّف لزم أن يقوم على ركن أساسي ثان هو «نظرية النّيات» تنظر في الجوانب الأخلاقيّة لهذه القصود التّكليفية» (8) .
* ثالثا المقصد يأتي بمعنى الغاية المرغوب فيها والتي يراد تحقيقها، وعلى حدّ تعبير «طه عبد الرحمان» تكون الغاية قيمة يتوجّه إليها القول وتوجّهه. وما دام أيضا مبحث المقاصد علما أخلاقيّا ينظر في الغايات المرغوب فيها التي تسعى الشّريعة لتحقيقها في حياة المكلّفين، يجب كذلك أن يقوم على ركن ثالث هو «نظريّة القيم» تبحث في الجوانب الأخلاقيّة لهذه الغايات الشّرعيّة.
والملاحظ أنّ النّظريّات الثّلاث التي صاغها «طه عبد الرحمان» لا تستقيم إلا بشرط تعريف المقاصد على أنها علم أخلاقي موضوعه الصلاح كما سبقت الإشارة، والمبرر المنطقي عنده أن الأحكام الشرعية لا يمكن أن تخلو من مضمون دلالي وإلا صارت لغوا، ولا يمكن أن تخلو أقوال الشّريعة وأحكامها من القصد والنّية وإلا كانت سهوا، وأيضا لا يمكن أن تخلو من القيمة والغاية وإلا صارت عبثا وجزافا.
خلاصة القول إنّ علم المقاصد ينبغي أن تؤطّره القيم الأخلاقيّة الإسلاميّة التي تحقّق صلاح الإنسان، ويقوم على نظريّات ثلاث متكاملة وهي-تذكيرا- «نظريّة الأفعال» وتدور على مفهوميّ القدرة والعمل، و«نظرية النّيات» وتدور على مفهومي الإرادة والإخلاص، و«نظرية القيم» وتدور على مفهومي الفطرة والصلاح (9) .
الهوامش:
(1) ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، 3/3، ص: 359
(2) انظر على سبيل المثال: حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، دار القرافي للنشر والتوزيع. ط:1، 1993. وخاصة مبحث: (تجديد أصول الفقه الإسلامي، ص: 33). فقد قال حسن الترابي: «لابد أن تقوم هذه النهضة على منهج أصولي مقدر، علما بأن منهج أصول الفقه الذي ورثناه بطبيعة نشأته بعيدا عن واقع الحياة العامة، وبتأثره بالمنطق الصوري وبالنزعة الإسلامية المحافظة والميالة نحو الضبط والتي جعلته ضيقا- لا يفي بحاجتنا اليوم ولا يستوعب حركة الحياة المعاصرة...»
كما يؤكد حسن الترابي على أن الفكر الإسلامي يتجدد، لأنه نتاج تفاعل العقل المسلم مع أحكام الدين الخالدة، وقد ذكر أن الفكر الإسلامي تعتريه ثلاث علل كبرى، أولاها أنه انقطع عن الأصول الخالدة للدين بتقادم العهد، وبالتالي لابد أن يتفاعل الفكر الإسلامي ويتصل بتلك الأصول. والثانية: أن الفكر الإسلامي يتأثر بالعلوم والمعارف العقلية التي أبعدته عن أصوله العقدية في الكتاب والسنة، والثالثة أن الفكر الإسلامي صار فكرا مجردا انقطع عن الواقع وعن حياة الناس.
(3) طه عبد الرحمان، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، 2000.
(4) طه عبد الرحمان، مشروع تجديد علمي لمبحث المقاصد، مجلة المسلم المعاصر، العدد 103، 2002. ص: 42.
(5) سؤال الأخلاق، مرجع سابق، ص: 147
(6) مشروع تجديد علمي لمبحث المقاصد، ص: 43
(7) نفسه، ص: 46
(8) نفسه، ص: 44- 45
(9) نفسه، ص: 44- 45
|