كلمات

بقلم
عبداللطيف العلوي
حنين
 لم أشعر أنّني أعود بعد كلّ تلك الأعوام إلى مسرى طفولتي وصباي، شيء مّا في «عين البيّة» رحل معك يا حبيبي، شيء مّا، أو ربّما «عين البيّة» ذاتها بكلّ ما فيها، رحلت إلى غير رجعة، أو أنّني لم أعد أعرفها، ولعلّها لم تعد موجودة أصلا إلاّ في خرائط ذاكرتي القديمة المفسوخة. كان لها رائحة غير كلّ الرّوائح الّتي عرفتها في غيرها من المدن والقرى، ولها ألوان لا تشبه غيرها وسماء لا تشبه السّماء. اليوم أشعر أنّها تغيّرت بشكل مأساويّ ولم تعد تعرف أبناءها. 
جيلنا الّذي كان يعرف خرائطها بيتا بيتا وشجرة شجرة وحجرا حجرا، لم يعرف كيف يبقى صغيرا، ورحل إلى أماكن أخرى يبحث فيها عن أيّام حبّ مختلفة بقلب مثقوب. ابتعدنا عنها أو ابتعدت عنّا، وفقدنا عاطفتنا تجاه الأماكن الّتي ولدنا فيها ونبتنا فيها كزرع موسميّ سرعان ما استحصد وداهمته المناجل من كلّ الجهات. تركنا ظلالا لنا تحت الأشجار وبين السّنابل والصّخور، ومع القطط والكلاب والعصافير الّتي كانت جزءا منّا، من أهلنا، من أيّامنا السّعيدة البعيدة الّتي غرّبتنا وحمّلتنا هموما كبيرة، أكبر من أعمارنا، وأورثتنا حكايات لم نستطع أن نورثها إلى أبنائنا أو نكمّلها. كنّا نرى صورنا وأرواحنا في مرآة «عين البيّة»، هناك حيث الجميع ضيوف لدى الأرض تعرفهم بألوانهم وروائحهم السّرّيّة ولهجاتهم. اليوم ماتت أشياء كثيرة في عين البيّة كان يمكن أن تعطي لباقي التّفاصيل معنى، وترهّلت ذاكرتنا ولم نشبع جوعنا منها، نحن الّذين كنّا روح الأرض ولحمها وعظامها.
يقال إنّ الأماكن لا تبقى كما كانت بعد رحيل أبنائها، ويقال إنّها تحزن على أناس ألفتهم وأحبّتهم إلى حدود البكاء، الشّجر يبكي والحجر والماء والتّراب، أنا أصدّق ذلك الآن يا شهيدي، ويخيّل إليّ أنّ كلّ شيء في كلّ خطوة أخطوها يسألني عنك، ثمّ يستدير إلى داخله ويبكي... وأنا امرأة حزينة جاوزت الخمسين، أعود إلى «عين البيّة» فراشة مثقوبة بالذّكريات، ليس لها من سلاح تواجه به برودة الزّمن البطيء سوى الحنين. جئت أبحث عن طفلة أضعتها هنا قبل أربعين عاما، وعن طفل ولد معي، وعاش في قلبي خمسين عاما حتّى شبت ولم يشب.
سألني عامر وهو يطوي السّهول والجبال بعينيه صاعدا نازلا، في فرح يكاد ينزع عنه ذلك الوقار الغادر الّذي يرتديه منذ أشهر:
ـ كيف يمكن لمن عاش في مثل هذه الجنّة أن يصبر عليها كلّ هذه السّنوات!؟
أجبته:
ـ لأنّها صارت جحيما يا ولدي! «عين البيّة» مازالت تبدو جميلة، ولكنّها بمساحيق ملوّنة لم تعطها الجمال الّذي يعرفه القلب. كانت أكثر براءة وأكثر عدلا ورحمة وإنسانيّة، ومنذ أطلق فيها بن علي كلابه، تحوّلت إلى رحم هجين، يخنق أبناءه أو يشرّدهم وينتزع أرواحهم بأظافر وسخة. تحوّلت إلى رحم متعدّد الأزواج، لا يسكن إلاّ إلى الأقوى.
توقّف ينظر إلى جبل «بوقطران»، فأشرت إليه أن نصعد قليلا ونلقي نظرة على القرية. أعجبته الفكرة وراح يمدّ الخطى ممسكا بيدي، وأنا أتبعه بمشقّة كبرى، بلغنا السّفح وصرنا على مرتفع يطلّ على الأجنّة الدّاكنة، وقطعان الأغنام المطمئنّة السّارحة في السّهول، ومسارب الفلاّحين الملتوية داخل الحقول، وسطوح البيوت المتناثرة هنا وهناك مثل علب الكبريت. أشرت عليه بالجلوس فوق صخرة كبيرة غُرِست من أحد أطرافها في الجبل مثل لفتة ضخمة، أصغينا نسمع إلى صفير الرّيح حولنا وهي تنزلق بنعومة إلى آخر المدى، وراح «عامر» يحوّل عينيه في كلّ الأرجاء كأنّه صقر يستكشف المكان...