شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
حُنَيْن بن إسحق العِبَادي
 يعد ضيف هذا الركن عالم لغات ومؤرخ ويعدّ من كبار المترجمين في عصره ومن أشهر علماء العرب في طب العيون وهو من العلماء الذين أثروا الحياة العلمية بكتبهم ومؤلفاتهم واختراعاتهم، وكان لهم الفضل في تغيير الحياة البشرية، وما كانت نهضة الغرب أن تبدأ إلا بالاعتماد على أمثاله من العلماء وجهودهم ومؤلفاتهم. إنّه العالم العربي الشهير أبو زَيْد بن إسحق العِبَادي المعروف بحُنَيْن بن إسحق العِبَادي نسبة إلى قبائل «العبّاد» وهي قبائل من بطون العرب اجتمعوا على المسيحية بالحيرة، وكانوا قد هاجروا اليها، مع قبائل عربية أخرى مثل «بنو شيبان واياد واسد»، راحلين من اليمن، في القرن الثالث للميلاد خاصة بعد خراب سد مأرب وامسى العيش صعبا في بعض انحاء اليمن .
ولد حنين في الحيرة عام 194 هـ (810م) من عائلة مسيحيّة، ونشأ محبا لمهنة الطّب توّاقا لها بما أنّ والده كان يشتغل بالصيدلة وله حانوت لطب الأعشاب والنباتات. وكان انسانا مؤمنا بدينه مواضبا للذهاب الى الكنيسة حتى صار مساعد القس. تعلّم في طفولته وشبابه اللغات السريانية والفارسية واليونانية اضافة الى اللغة العربية. وأول ما حصل لحنين من الاجتهاد والعناية في صناعة الطّب، سافر الى بغداد ملتحقا بمجلس الطبيب «يوحنا بن ماسويه» الذي كان مشرفا على اطباء البلاط العباسي. لكنّه سرعان ما اختلف معه فغادر بغداد إلى بلاد الروم لمدّة سنتين قضاها في إحكام تعلّم اللغة اليونانية التي كانت مصدرا رئيسا لتعلم الطب، وتوصل هناك في تحصيل بعض كتب الحكمة والطب وقراءتها. ثم عاد الى بغداد وعمل مترجما في بيت الحكمة وذلك في نهاية عهد الخليفة هارون الرشيد تحت اشراف الحكيم جبرائيل بختيشوع أين قام بترجمة أعمال أبقراط وجالينوس وتعليقاته على كتب أبقراط بدقة وأرسطو والعهد القديم من اليونانية.
كان حنين حريصا كلّ الحرص في ترجمته على آداء النّص اليوناني اداءا صادقا، وأعانه على ذلك أنّه لم يكن مترجما أو ناقلا ، كما يستهين به البعض وحسب، بل كان طبيبا بارعا ذا ثقافة واسعة ومنطق قد درس الفلسفة إضافة الى إجادته للّغة العربية. وقد استحكم في التّرجمة من خلال وجوده الطويل في بيت الحكمة، وتسلّم رئاستها في اواخر عهد  الخليفة المأمون، بعد وفاة أستاذه يوحنا بن ماسويه، إذ عينه الخليفة العباسي المأمون مسؤولا عن بيت الحكمة وديوان الترجمة، وكان يعطيه بعض الذهب مقابل ما يترجمه إلى العربية من الكتب. ورحل كثيراً إلى فارس وبلاد الروم وعاصر تسعة من الخلفاء، وله العديد من الكتب والمترجمات التي تزيد عن المئة، وأصبح المرجع الأكبر للمترجمين جميعاً ورئيساً لطبّ العيون، حتى أصبح كتابه «عشرة وثائق في أمراض العيون»، مرجعاً مهماً في علم أمراض العيون وأقدم مؤلَّف على الطريقة العلمية في طب العيون وأقدم كتاب مدرسي منتظم عرفه تاريخ البحث العلمي في أمراض العين.فهو يشرح فيه تكوين العين والأمراض التي تصيبها من التهابات وتقرحات بالقرنية وطرق علاجها بالدواء والعمليات الجراحية. ويبين هذا الكتاب خبرة حُنين بن إسحاق ليس فقط كطبيب ماهر، ولكن أيضاً جراحاً بارعاً.  
ألّف وترجم حنين في مجالات علمية متعدّدة أبرزها طبّ الجسم  وطب العيون أو الكحالة وكذلك الصّيدلة، فقد عرف الأدوية المركّبة والأدوية المفردة وبرز في حقل الأدوية المركبة بكتابه «المنهج المنير في معرفة اسماء العقاقير». كما ألمّ بالطّبيعيات والدّين والأخلاق، وقد ألف فيها ثلاثة كتب بالاضافة الى ترجمته للتوراة. وقد ساعده في النقل والمعرفة عدد من التلامذة الذين عملوا في بيت الحكمة وقد بلغ عددهم اكثر من عشرة مساعدين بينهم ابنه اسحق الذي كان على اطلاع بالطب ومهتما بالفلسفة. وهكذا خلّف حنين في الترجمة مدرسة علمية أو جيلا من المترجمين في العلوم المختلفة، أفادوا الثّقافة العربيّة سواء اولئك الذين عملوا معه في بيت الحكمة أو الذين تفرّقوا ليستمروا في ترجمة ما تبقى من التّراثين اليوناني والسّرياني.
وكان حُنين وتلامذته في ترجماتهم يبتعدون عن أسلوب النقل الحرفي وعن التقيد بالألفاظ، ويحرصون على نقل المعنى بأبسط الصور وأوضحها؛ لذلك نجحت ترجماتهم نجاحاً منقطع النظير.
وقد لاحظ حُنين مدى افتقار اللّغة العربيّة إلى المصطلحات العلميّة والفلسفيّة، التي تزخر بها اللّغات الأخرى كاليونانية والسريانية والفارسية؛ فحرص على اختيار المصطلحات الفنّية المناسبة التي لم يتمكن المترجمون الأوائل من وضعها، وقام حُنين بهذه المهمة وحيداً دون الاستعانة بجهود اللّغويين.
وقد كُتِبَ للاصطلاحات التي استعملها حُنين البقاء والاستقرار، فثبتها كل المؤلفين الذين جاؤوا بعده. وقد لجأ إلى أساليب عدة في وضع المصطلح العلمي بالعربيّة، كالاشتقاق والمجاز أو الافتراض. 
عاش حنين المحنة تلو الأخرى في عهد الخليفة الواثق (ت864) الذي عني بترجمة العلوم النقلية اكثر منه بترجمة العلوم العقلية واعتمد بذلك على الطبيب يوحنا بن ماسويه في هذا المجال. فقد كان هذا الخليفة حنبليا متعصبا،قضى معظم فترة خلافته بمطاردة المعتزلة ومحاربتهم وكان المتوكل  يتوجس أيضا من المسيحيين، حيث ألزمهم بلبس ملابس تختلف عن ملابس المسلمين، وضيّق عليهم بدفع العشر بما يكسبون. وقد أمر بسجن الطبيب حنين الذي كان رئيسا لبيت الحكمة في بغداد، نتيجة رفضه طلب الخليفة في أن يصنع له سما قاتلا لاستخدامه في شأن ما.فحبس لمدّة سنة كاملة ذاق فيها الأمرّين، حتى فُكّ أسره. 
وبعد فترة وجيزة من عودته الى العمل، اشتكى عليه طبيب المتوكل «بختيشوع بن جبرائيل» الذي كان يحسد حنين على مكانته وعلمه، حيث ادّعى أمام الخليفة أنّ حنينا أهان صورة مريم العذراء .فتحمس المتوكل  للشكوى وأمر بحبس حنين، وإعدام كتب مكتبته. وقد بقي في السجن لمدة سنتين حتّى مرض ، فاطلق سراحه. وقد ذهب بعض المؤرخين أنّ حنينا مات فجأة من شدّة الغمّ، وذلك في 1/12/873 م.
توفّي حُنين بن إسحاق بعد حياة حافلة بالإنجازات العلمية وغادر الحياة تاركاً حجر الأساس في تأسيس الطّب العربي الإسلامي، الذي أصبح بعد ذلك أساساً لقيام النّهضة الطّبية الأوروبيّة الحديثة.