تحت المجهر

بقلم
محمد بن الظاهر
القراءة المادّية للتّصوّف
 أطنب العديد من الباحثين في التّصوف في المثالية والميتافيزيقيّة حدّ الغدق. حيث تمّ تفسير ظاهرة التّصوّف بحدّ ذاتها، أي كونها ظاهرة عالميّة مرتبطة بالدّين ونحن لا ننفي الشّرط الأول كونه كوني _ أو يغترف من تيارات فلسفيّة ذات صبغة دينيّة كالأفلاطونيّة المحدثة. 
إنّ التّصوف لا ينبلج ذات صباح من الدّين للنّاظرين بالضّرورة. لهذا ننفي القول الرّائج المزعوم أنّ التّصوف الإسلامي مصدره الإسلام كدين إلهي وأنّ هناك علاقة سببيّة بينهما. حيث يغفل غمار من الدّارسين الظّروف التّاريخية التي حملت البذور الجنينيّة للتّصوف.
سنقارب من خلال مقالتنا هذه التّصوف الإسلامي بقراءة مادّية _مادّية تاريخيّة_ يعني العلاقة الدّيناميّة القائمة بين الفرد ومجتمعه، بين وعيه والواقع، وبمعنى أوضح وصريح، هو أنّ التّصوف إنّما هو نتاج واقع اجتماعي ألزمته الظّروف السّياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة في صدر الإسلام والعصر الرّاشدي وفي عصر الدّولتين الأمويّة بالخصوص والعبّاسية.
  يقول الدكتور الحبيب الجنحاني «إنّني أميل إلى الاعتقاد أنّه من الصّعب فهم كثير من القضايا الخطيرة التي واجهت الدّولة العربيّة الإسلاميّة النّاشئة في المدينة، وما نتج عن ذلك من تحوّل جذري في هياكل المجتمع العربي الإسلامي من دون التّعرف بدقّة على أساليب التّنظيم الاقتصادي والمالي التي برزت في المدينة غداة هجرة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إليها، وما مرّت به هذه الأساليب من تطور وتحول» [1].  وسننطلق لنفسّر مرمانا وبغيتنا من نشأة الحركة الزّهديّة والتّصوف التي ستكون في بنيتها الفوقيّة ذات طابع ديني لكنّ جوهرها موقف اجتماعي-سياسي. يقول رينالد نيكلسون « القرن الأول في الإسلام(..) العوامل التي شجّعت على ظهور الزّهد وانتشاره، كالحروب الأهلية الطويلة الدّامية التي وقعت في عهد الصّحابة وبني أميّة، والتّطرّف العنيف في الأحزاب السّياسيّة وازدياد التّراخي في المسائل الأخلاقيّة وما عاناه المسلمون من عسف الحكام المستبدّين» [2] . 
بدأت حركة التّصوّف وجودها الجنيني ببدء حركة الزّهد في القرن الأول الهجري(7م)، فقد اكتسى الزّهد طابعاً سلبيّاً عدميّاً بمعنى اعتزال النّشاط الاجتماعي والانقطاع الكلّي عن الحياة اليوميّة والاعتكاف على الطّقوس الدّينيّة والعبادة، وكان هذا السّلوك ينطوي ويحمل في جوفه موقفا سياسياَ ضدّ ما يقع من صراعات دامية مدوّية بعد مقتل الخليفة الثّالث والبؤس الاجتماعي في عهد الدّولة الأمويّة (التزام الحياد وعدم الالتحاق بأيّ من الفريقين وقالوا: «لا يحلّ قتال علي ولا القتال معه») هزّت أركان المجتمع العربي الجديد _بداية تشكّل المجتمع لا كقبائل متفرقة_ إذ أنّ الصّراعات السّياسيّة كانت تفسيراً فوقيّاً لما كان يجتمع في قاعدة المجتمع من تناقض طبقي وبلطجة. 
وأخذت الحركة الزّهديّة تستمر كظاهرة وتنتشر وكان مضمونها معارضة الأوضاع الاجتماعيّة والسّياسية القائمة في ظلّ الاستبداد الأمويّ والتّمايز الطّبقي فخرجت من مرحلة الاعتزال الى مرحلة الوقوف ضدّ التّيار الجارف في عهد الحجّاج الطّاغية، حيث أنّ عبد الله بن عمر وهو من الزّهاد قال:«ما شبعت منذ مقتل عثمان». «ولم يكن عبد الله بن عمر، حين أطلق صرخته هذه، يشكو جوعه هو شخصياَ، لأنّه كان في ذلك الحين لا يزال ملتزما سلوك الزّهد الممعن في زهده، وإنّما كان يريد بذلك إعلان موقف المعارض للمظالم الاجتماعيّة السّائدة عهد الحجّاج، بقدر ما كان سلوكه الزّهدي نفسه تعبيراً عن هذا الموقف المعارض. أي أنّ الزّهد، في تلك الحقبة، لم يبق سلوكاً عدمياً يعبر عن موقف ((الحياد)) والهروب من المعركة السّياسيّة الدّائرة، بل دخل المعركة منحازا الى صفوف المناهضين للتّسلّط الاجتماعي_السّياسي الجائر» [3] 
إذن الباعث وراء الزّهد كان هو الظّلم الاجتماعي والبلطجة السّياسية، فخرج الزّهاد للإدلاء بموقفهم منحازين الى صفوف المناهضين للتّسلط الاجتماعي والسّياسي. فيكون الرّدّ إمّا:
- أوّلا: كما عند الحسن البصري حين قال: « كلمة باطل حقنت بها دماً»، أي أنّه قد اضطر أن يقول في علي مالم يكن يعتقده فيه، وإنّما فعل ذلك حفظا لحياته هو شخصيّا. وقد رأينا معبدا الجهني وعطاء بن يسار يأتيان الحسن البصري، فيقولان له: «يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويقولون : إنّما تجري أعمالنا على قدر الله تعالى» فيقول لهما الحسن البصري:«كذب أعداء الله». وغير البصري الكثير. 
-أو ثانياَ: الالتحاق بإحدى الانتفاضات المسلّحة ضدّ الدّولة الأموية  «كانت حركة الزهد، في الحقبة التّاريخية المذكورة، تحمل في أحشائها بذور اتجاهات جديدة في النّظر الى الحياة والكون، وفي تأويل النّصوص الإسلاميّة لتحديد موقف جديد تجاه الشّريعة وتجاه النّبوة والإمامة وغيرها من مفاهيم الإسلام، ولاكتشاف مصادرجديد للمعرفة، ولرؤية مكانة الإنسان في الوجود بصورة جديدة» [4] .
على تخوم القرن الثّاني الهجري (8م) بدأت الحركة الزّهديّة تنفصل عن عوامل اجتماعيّة وتتّخذ لنفسها بعداً دينيا ً يعني أنّ الطّابع الدّيني بدأ يتغلّب على مضمونها الاجتماعي_السّياسي. فبدأت الحركة الزّهدية بنوع من التّحرك والتّجلّي فانعكس الواقع على الوعي وبدأت مرحلة «علم المعرفة الذّوقية» (التصوف الفلسفي) وتأسيس نظريات ومفاهيم فلسفية، فألقت هذه الظّاهرة الجديدة أحجارها في بحيرة الزّهد الرّاكدة.
نحن هنا _في مقالنا_ وضعنا التّصوف الإسلامي في مكانه التّاريخي وأخضعناه لمسطرة النّقد وإعادة البناء من جديد تحت ضوء النظرة المادّية التّاريخية.
الهوامش
(1) د.الحبيب الجنحاني، المجتمع العربي الإسلامي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، عالم المعرفة، ع:319 سبتمبر2005، ص:15
(2) رينالد نيكلسون ، في التصوف الإسلامي، ترجمة ابو العلا عفيفي، ص:47
(3) حسين مروة: النزعات المادّية في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، المجلد2،دار الفارابي-بيروت،1979،ص:152
(4)  حسين مروة، نفس المرجع، ص:156