وجهة نظر

بقلم
هبيري محمد أمين
القدس، محرّمة علينا إلى تحقُّقِ الكرّة الثانية
 يوم فرض الله تعالى التيه في بقاع الأرض على بني إسرائيل، عقابا منه جلّ جلاله على جبنهم وكسلهم حين أمرهم بالدّخول ‏إلى الأرض المقدّسة فرفضوا بتعلّة أنّ فيها قوما جبّارين. يومها حرّمها الله على بني إسرائيل أربعين سنة وبسبب جبنهم ‏لم يستطع نبي الله موسى عليه السّلام أن يدخل الأرض المقدّسة.‏
إن كان بنو إسرائيل قد حرمت عليهم أربعين سنة، فإنّها حرّمت علينا سبعين سنة ولازالت محرّمة علينا إلى يومنا هذا. أمّا ‏التيه في الأرض فإنّه قد يكون نعمة من الله على بني إسرائيل –من وجهة نظر أخرى- إذ أنّهم انتشروا في الأرض ومعهم ‏نشرت عقائدهم وأفكارهم وسلوكياتهم، وهو ما يؤدّي إلى نشر الثّقافة الفاسدة لبني إسرائيل في كامل الأرض، الأمر الذي يعدّ ‏مبتغى وهدف كلّ جماعة تحمل إيديولوجيا معيّنة. إلاّ أنّ تيهنا في الأرض لم يجعل منّا إلاّ أمّة مستهلكة لثقافة غربيّة دخيلة على ‏ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة المتأصّلة منذ القدم. ‏
إنّ القدس بما تمثله من أولى القبلتين وثالث الحرمين، تمثل معيار حال الأمّة الإسلاميّة. إذ أنّها تعبّر عن حالة الضّعف والهوان ‏التي تعاني منها أمّة الإسلام حين تكون بأيدي الصّهاينة وفرسان الهيكل أو أنّها تلخّص حالة القوّة والهيمنة التي تؤدّي إلى ‏تطبيق العدل داخل النّظام العالمي، العدل الذي تصحبه القوّة فتكون بذلك قوّة عادلة. تلك هي القوّة التي جعلت من الفاروق عمر ‏رضي الله عنه ومن معه يوصفون في القرآن بأنّهم « عبادا لنا أولي بأس شديد»(1)  
تلك هي الكرّة الأولى التي مكّنت المسلمين من مفاتيح بيت المقدس وهو الوعد الأول للمسلمين، أمّا الوعد الأخير وهي الكرّة ‏الثانية فهي لتمكين المسلمين من إسترجاع الأمانة المقدّسة ممّن جبنوا أول الأمر ولم يسعوا للدّخول إلى تلك الأرض. والعلّة ‏أنّ جموع المسلمين اليوم حين يتحدّثون عن نصر الله واسترجاع القدس فإنّهم يقرّون بأنّه وعد الله إلاّ أنّهم لا يسعون في ‏الأرض من أجل تحقيق وعد الله لهم كما وعد الله بني إسرائيل من قبل بالنّصر والتّمكين بمجرد الدّخول. لذلك فإنّ حالنا اليوم ‏هو حال بني إسرائيل زمن موسى عليه السّلام. ‏
ربّما تكون الكرّة الثانية قريبا إلاّ أنّ الوضع لن يتغيّر إذا استمرت حالة الخمول والكسل الذي تعيشه الأمّة في هذا العصر. ‏وللإشارة فإنّ مدّة أربعين سنة تمثل المدّة الطّبيعية لبناء جيل قادر على حمل راية التّغيير والدّفاع عن قضية الأمّة ودعوتها. ‏وقد حرّمت الأرض المقدّسة كما أسلفنا الذّكر أربعين سنة، في المقابل حرّمت علينا القدس لأكثر من سبعين سنة. ولن نحلم ‏يوما أنّنا سنتمكن من استرداد أمانتنا ونحن بنفس العقلية وبنفس الخذلان والكسل. فهذا يتناقض ومفهوم الأخذ بالأسباب.‏
بعد سبعين سنة من إحتلال الأراضي المقدّسة، وبعد أن جرّبنا جميع أنواع الحلول لاسترداد حقّ العرب في ثالث ‏الحرمين، قد يكون من الضّروري بالنسبة لطائفة منّا الآن الإقرار بصفة قطعيّة أنّ الحوار مع الكيان الغاصب هو ضرب من ‏الخيال. فالذي يفتكّ الأراضي بالدّم لا تستطيع أن تسترجعها منه بالحوار واتفاقيات السّلام، بل إنّ القانون السّائد هو أنّه ما افتكّ ‏بالدّم لابدّ أن يسترجع بالدّم(2)   فحوارات السّلام مع العدوّ تمثّل عبثا وضربا من الوهم والخيال. وذلك يؤدي إلى حسن التّدبير ‏والأخذ بوسائل القوّة ورباط الخيل ومن خلالها نحقّق النّصر.  ‏
قد يكون من العسير أن نتقبل الواقع كأمر وقع بالفعل سعيا من ورائه إلى أمر أعظم وأخطر وهو إغتصاب الأرض من طرف العدو ‏الصّهيوني إلاّ أنّ العرب اليوم يستأهلون ما حدث لهم من هزيمة ونكبة ستكون لهم عارا وخزيا إلى نهاية التاريخ. فقد أخذ ‏الرّئيس الأمريكي الموافقة من أربعة رؤساء عرب منها مصر التي كانت تناصر القضية الفلسطينيّة منذ البداية ولا ننسى ‏حرب أكتوبر سنة 1973 وما تكبّده الكيان الصهيوني من خسائر مادّية ومعنويّة. إلا أن خيانة قادة العرب عامّة أوصلت ‏العرب إلى حالة من الجبن حتّى يوافقوا على جعل القدس عاصمة للكيان الصّهيوني.‏
إلاّ أنّه لابدّ من الإشارة –مع كلّ هذا الأسى والألم على مصاب الأمّة الإسلاميّة- أنّ في هذا الأمر خيرا كثيرا؛ ومن ذلك ‏فالشّعوب العربيّة أضحت واعية بقضيتها المركزيّة بفضل هذه الصّدمة التي تلقتها من الرّئيس الأمريكي بإعلانه القدس ‏عاصمة للكيان الصّهيوني. فبمجرّد الإعلان عن هذا القرار توجّهت بوصلة الشّعوب العربية جميعها نحو التّركيز على ‏القضيّة الفلسطينيّة من جديد، فخرجت مظاهرات عارمة مندّدة بهذا الإعلان وهذا يحسب على قرار «ترومب» لا له. وكذلك نجد ‏أنّ الاعلان صدر من رجل لا مصداقية لكلّ مواقفه عند كلّ حكام الغرب وضمنها الموقف من فلسطين والقدس.
والكلّ يعلم أن إعلان القدس عاصمة لإسرائيل تمت المصادقة عليه من قبل الكونغرس الأمريكي منذ سنة 1995 أي أنّ هذا ‏القرار لم يطبّق من الرّؤساء السّابقين الذين لهم مصداقيّة لدى شعبهم وإنّما طبّق من شخص تشوبه عدّة قضايا من بينها أنّه تلقّى ‏دعما من الرّوس للوصول إلى السّلطة، وهذه إستراتيجية الإلهاء التي عبر عنها نعوم تشومسكي حين قال : «استراتيجية الإلهاء هي ‏عنصر أساسي في التّحكم بالمجتمعات، تتمثّل في تحويل انتباه الرّأي العام عن المشاكل الهامّة والتّغييرات التي تقرّرها النّخب ‏السّياسية والاقتصاديّة، يتمّ ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التّافهة»(3) وهي الإستراتيجيا التي اتخذها «‏ترومب» لإلهاء الشّعب الأمريكي وصرف نظره عن مصداقيته.‏
‏ وكلّما كان عدوّك بهذه الصّفات السّلبية كان ذلك أفضل ظرف للعمل على بيان قضيتك والسّعي لابرازها وفرضها سلما وحربا. ‏وشباب الثّورة مطالبون بالعمل وفق استراتيجيّة ثوريّة فعليّة لا تكتفي بالمطالب الاجتماعيّة والحقوقيّة، ‏بل تمرّ لشروط تحقيقهـا ولذلك ينبغي أن نشكر «ترومب» على ما فعله لأنّ فيه خيرا كثيرا وأهمه توحيد الشعوب العربية تحت ‏سقف واحد وقضية واحدة وهذا ما لم ننجح فيه طوال قرن من الزّمن.‏
ختاما، من المؤسف أن نجد الأمّة الإسلاميّة لا تملك دراية بأهمّية العدوّ وخطورته. ولو تدبّرنا في تاريخ اليهود وكيفية قيام دولتهم ‏المزعومة لوجدنا أنّها تفاعل لعقيدة تمّ تكوينها ونشرها والإشتغال عليها مئات السّنين من بعد «يهوذا» (4)  ثم أطّروها بالنّظريات ‏الفلسفيّة السّياسيّة والنّظريات الدّينية المرتكزة على علماء الحاخامات، تمّ تدوين كلّ هذا في التّلمود وإعداد إستراتيجيا محدّدة. ‏
معلوم أنّ الدّولة التي تبنى بالعلم لا تسقط الاّ بالعلم الذي يأتي بأسباب القوّة المحقّقة لترهيب العدو. وما علينا إلاّ أن ندرك أنّ ‏إرادة التّغيير بأيدينا وأنّه لابدّ من بذل الجهد حتّى نستحقق شرف تحقّق الكرّة الثّانية والوعد الآخر.  
الهوامش
‏(1) سورة الاسراء ، الآية 5 ‏
‏(2) رأي قائد المقاومة وزعيم حركة حماس الشهيد أحمد ياسين‏
‏(3) استراتيجيا التحكم بالشعوب، نعوم تشومسكي‏
‏(4) أبناء يعقوب وجد الأنبياء‏‎ ‎داود‎ ‎وسليمان‎ ‎والمسيح‎.‎‏