في الصميم
بقلم |
عبد الحق التويول |
أسس القراءة الصحيحة وعلاقتها بالكرم الإلــهي |
لمّا كان الإسلام دين القراءة، ولمّا كانت أول آيات الوحي الإلهي نزلت داعية ومؤكّدة على القراءة في قوله سبحانه «اقرأ»، فقد عُلـم من ذلك أنّ فعل القراءة من الأفعال الواجبة (واجب كفائي) على أفراد هذه الأمّة التي جعلها سبحانه خير أمّة أخرجت للنّاس «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»[1]، وعُلم من ذلك أيضا أن لا نهضة لهذه الأمّة ما لم يوقظ فيها سراج القراءة ويتوهّج فيها نور العلم، بيد أنّ الواقع يخبرنا ويشي لنا بأنّ مصباح القراءة فينا قد تعطّل، وأنّ نور العلم في أفئدتنا قد انطفأ، وأنّ رائحة الجهل والتّخلف عن ركب التّقدم والإبداع قد لاحت في الآفاق لدرجة تزكم الأنوف وتُنبئ بوقوع كارثة عظمى.
إنّ خيريّة الأمّة التي أخبر بها الله سبحانه إنّما تتأتّى بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كما جاء في صريح الآية، ولا شكّ أنّ أكبر منكر يهدّد الأمّة ووجب عليها النّهي عنه ومحاربته بكلّ ما أوتيت من قوّة هو منكر (الجهل)، ولا شكّ أيضا أنّ أكبر معروف وجب على الأمّة الأمر به والحثّ عليه بكلّ ما أُوتيت من قوةّ أيضا هو معروف (العلم) ، لكنّ الواقع يأبي مرّة أخرى إلاّ أن يخبرنا بأنّ معالم الآية قد شوهّت، وأنّ القاعدة قد عُكست، وأنّ أعلام الجدّ قد نُكست، ورفعت بدلها أعلام الخمول والكسل، لا لشيء إلاّ لأنّ الأمّة في أغلبها صارت تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف، وتشجّع الجهل والجهلاء وتحبط العلم والعلماء، وتصرف الأموال الطّـائلة في التّفاهات وتبخل بالقليل عمّا يمكن أن ينفع الأمّة ويخرجها من الظّلمات .
إنّ بُعد الأمّة عن الرّيادة وتخبّطها في براثين الجهل والتّخلف بعيدا عن ركب الحضارة والتّقدم، يجعلنا نتساءل بحرقة ونقول : ألسنا الأولى بالتّقدم باعتبارنا أمّة اقرأ ؟ ألسنا نحن من ينبغي أن يحمل لواء العلم ومشعل النّهضة باعتبارنا نملك مرجعا مقدّسا يعتبر بمثابة خارطة الطّريق لنا ولغيرنا وهو القرآن العظيم وسنّة النّبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم؟
لا شكّ أنّ الإجابة عن هذين السّؤالين العريضين تقتضي منّا أن نعود لآية «اقرأ»، لنقرأها القراءة الحقّة، بقلوبنا لا بألسنتنا، ولنفحصها ببصيرتنا لا ببصرنا، ولنستنبط منها أسس القراءة الصّحيحة التي يمكن أن تنهض بنا من سباتنا وتجتثّنا من غفلتنا، ذلك أنّه ليست كلّ قراءة توصل صاحبها للعلا، وتمهد له الطّريق نحو الاستعمار والاستخلاف الحسن في الأرض وتؤهّله للفوز في الأخرة، بل إنّ القراءة التي توصل إلى كلّ ذلك هي تلك التي خُطّت بمداد الوحي الإلهي راسمة معالم القراءة المثاليّة، ونموذج القارئ المثالي الذي يقرأ باسم ربّه (اقرأ باسم ربك) مُفتتحا أقواله وأفعاله باسمه سبحانه، ملتمّسا العـــون والبركة منه عزّ وجل، موطنا نفسه على غرس هذا الاسم في قلبه وجعله يجري على لسانـــه في كلّ وقت وحين ممّا يجعله في منأى عن عصيانه، وساعيا بعلمـــه لإرضائه وحده دون غيره، وشتّان ببن أن تسعى لإرضاء الخالق (الذي خلق) وبين أن تسعـــى لإرضاء المخلوق، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ، رَضِيَ الله عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَـــا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ، سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عليه الناس»[2] ومن الحكم المأثورة أنّ « رضا النّاس غاية لا تدرك ورضا الله غاية لا تترك فاترك ما لا يدرك وادرك ما لا يترك» .
إضافة إلى ذلك فإنّ أحوج ما يكون إليه القارئ المثالي هو التّزود بالقيم التي تشكّل عصب وجدانه وتقوي الجانب النّفسي فيه وتدفعه نحو السّلوك الأفضل والفعل المثالـــــي، ولعلّ أعظم قيمة يحتاج إليها القارئ الذي يزيد الأمّة إشعاعا وتوهّجا هي التواضع، ولذا وجدنا الخالق سبحانه ينبهه إليها بقوله « خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ» [3] ، قاصدا بذلك تذكيره بأصله حين كان قطعة دم عالقة بجدار الرحم لا حول لها ولا قوة ، ليعرف قدره وفضل الله عليه فيحمله ذلك على التّواضع والتذلل له سبحانه دون عجرفة أو كبر، وفي الحديث قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ تَوَاضَعَ للهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّيْنَ، وَمَنْ تكَبَّرَ عَلَى اللهِ دَرَجَةً وَضَعَهُ اللهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِيْنَ»[4]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» [5]. فيزداد القارئ رفعة ومكانـــة بتواضعه فيتعلم أكثر ويعلم غيـــره ويكون ذلك مدعاة للمحبة والألفة والتعاون بين الجميع بعيدا عن التكبر الذي لا محالة يكون سدا منيعـــا يحول بين صاحبه وبين التعلم الذي تضيق مسالكه وتقل فرصه وتتبخر بركته بالكبر، وفي الأثــر « اثنان لا يتعلمان : مستحي ومتكبر»، فعلم من ذلك أن الكبر لا يزيد صاحبه إلا جهلا وذلاّ وأنّ التواضع لا يزيد صاحبه إلاّ علما وعزّا وكرامـــة لـــه ولأمته، ولذلك قال سبحانــه « اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْــــرَمُ» [6] ، فكأن الله تعالى يصوغ لعبده القارئ معادلة الرقي والنّهضة والإشعاع ويقول له : أنت ما عليك إلاّ القراءة الصحيحــة الخالصة لوجهي والتي تحملك على التواضع لجلالي وأنا ما عليّ إلا إكرامك بفتح مغاليق العلم أمامك ابتداءً وتيسير النهوض والرقي لك ولأمتك انتهاءً لتكونوا خير أمّة أخرجت للنّاس .
وهي المعادلة التي لا يمكــن أن تتحقّق إلاّ بالأخذ بالأسباب والوسائل الموصلة لذلك وفي مقدّمتهــا : القلــم «الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» [7]، الذي به تحصل الكتابة ويدون العلم وبه وصلت إلينا العلوم والتّاريخ والأخبار والحكـــم، فهو الأداة المثلى التي بها يوقظ نور العلم، وتشحذ العقول لتتوهج بالأفكـــار النيرة التي تبدّد ظلمة الجهل الدّامس وتخرج الأمــّــة من براثين التّخلف وتجعلها متلألئة في سماء التقدم والإحاطة بما لم تكن تعلــم «عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» [8] .
بعد هذا البيان المختصر، وبعد إمعان النّظر في هذه الآيات المباركات وما زخرت به من حروف وكلمات حبلى بالمعاني العميقة والأسس الدّقيقة التي تعتبر بمثابة اللّبنات الأساس للقراءة الصّحيحة التي تقود صاحبها نحو العلا والرّيادة وتصنفه وأمّته في مصاف الأمم الخيريّة، فقد عرف موطن الدّاء وسبب الانتكاسة والشّقاء التي نتخبّط فيها رغم كوننا أمّة اقرأ، وذلك لأنّنا بكلّ بساطة أهملنا القراءة الصّحيحة وسلكنا قراءات أُخر أخلصنا فيها لأطماعنا المادّية ولأهدافنا الدّنيويّة الرّخيصة ومضينا في الأرض متكبّرين متعجرفين مهملين للكتابة والقلم ومهتمّين بالسّهرات والنّغم، فما كان من ربّنا إلاّ أن حجب كرمه عنّا.
الهوامش
[1] سورة آل عمران - الآية 110
[2] رواه ابن حبان.
[3] سورة العلق - الآية 2
[4] رَوَاهُ أَحْمَدُ .
[5] رواه مسلم.
[6] سورة العلق - الآية 3
[7] سورة العلق - الآية 4
[8] سورة العلق - الآية 5
|