في العمق
بقلم |
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام |
أزمة الإنتاج في الأمة المرهقة بين الاستنساخ والمسخ (1/2) |
مقدمة
يقولون أنّ التّاريخ يعيد نفسه مرّتين، لكنّه حين يعيد نفسه، يكون مرّة مأساة ومرّة ملهاة كما يقول «ماركس». والمشكلة في الحقيقة تكمن في أنّ الإنسان عموما مفطور على التّقليد، ولا تقوم أمم أو تجارب كبرى على تقليد غيرها فقط، ولا يقلّد غالبا إلاّ المغلوب كما يقول «ابن خلدون» في مقدمته، أو كما يقول «أبو عمر بن عبد البر» - حافظ المغرب - «أجمع النّاس على أنّ المقلّد ليس معدودا من أهل العلم، وأنّ العلم معرفة الحقّ بدليله»[1] . لذلك وجب أن يكون لكلّ أمّة تريد النّهوض آباء مؤسّسون لنهضتها في كلّ مجالات العلم والمعرفة والتطبيق، وهؤلاء ليسوا محترفين في فنونهم فقط بل أصحاب رؤى واسعة وأوزان معرفيّة ثقيلة (وليسوا المجددين بالمصطلح الشّرعي فقط، فهؤلاء منوط بهم تفعيل المنظومة القيميّة في الواقع)، حتّى وإن ابتدؤوا بالتّقليد، فهذا ممّا لا تنفك عنه الطّبيعة البشريّة أبدا، لكن لا بدّ وأن يكون لهم منهج خاصّ بهم يصوّغونه هم، يجيبون فيه عن التّساؤلات الهامّة والكبرى، حتّى وإن جمعوا في لبناته من حضارات الأمم الأخرى، فلا شكّ أنّ العلم نهر يصبّ فيه أبناء الثّقافات المختلفة حضاراتهم، لكن لا بدّ من وجود بصمتهم التي تميّزهم عن غيرهم، وحتّى تبدأ الأمم الأخرى في تقليدهم. فالتّجربة الغربيّة في النّهضة لا يمكن تكرارها عندنا حتّى ولو حذونا حذو الغرب قدما بقدم كما كان يقول توفيق الحكيم، فردّ عليه المسيري: «فحتّى لو فعلنا ذلك لن نتقدّم مثلهم لأنّ حضارة الغرب بنيت على أساس لا أخلاقي» وكما يقول روجيه جارودي عن الحضارة الغربيّة «إنّها حضارة حفرت قبرا يكفي لدفن العالم» وحتّى الأسس التي بنيت عليها تلك الحضارة تمّ تجريمها الآن مثل الحقبة الاستعماريّة ونهب الثّروات وقتل قرابة المائة مليون من الهنود الحمر، ومثل ما قال المسيري «أعطني حقبة استعماريّة وأنا أعطيك تقدّما» وذلك ليس تبريرا للاستعمار لكن تفسيرا لنهضة الغرب في مراكمة رأس المال المنهوب أساسا من المستعمرات والذي بني به مصانع عصر النّهضة. لكن المهمّ أنّ الهوّة الحضاريّة السّحيقة بيننا وبينهم أصبحت واقعا، وأصبح التّعامل معها لا مفر منه بل أصبح تكوين رؤية مستقلّة بخصوصيتنا الثّقافية تتطلّب معرفة بمذاهب النّاس بل و ينفي أن تكون منعزلا عن العالم ورحم الله عمر بن الخطاب حيث قال: «تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية» وليس المقصود من إيراد كلام أمير المؤمنين حرفيّة المعاني بل المقصود هو مدى تكامل الرّؤية عنده في أنّ ترابط وتماسك منهجك يرتبط بدرجة وثيقة بمدى إلمامك بثقافات الآخرين حتّى لو وصل هذا الآخر لحدّ العداوة المنهجيّة. فالإبداع غالبا لا يكون إلاّ على الحدود الفاصلة بين الثّقافات المختلفة كما يقول الفيلسوف «كلود ليفي شتراوس»، خلافا لما كان يردده «أورباخ» في تعريفه للثّقافة، بأنّها ذلك الشّعور القومي الذي يتعامل ولا بدّ مع الآخرين بحسّ عدواني، لصالح الأمّة والوطن والجماعة والانتماء.
رقاد أكثر من أهل الكهف
والنّهوض بالأمّة من جديد بعد سبات دام أكثر من خمسة قرون أي أكثر من رقدة أهل الكهف هو أمر مركّب ومعقّد غاية التّركيب والتّعقيد، وهذا هو شأن كلّ الظّواهر الاجتماعيّة في أنّها تتميّز بالتّركيب المعقّد وتعدّد أسباب الحدوث، ولأجل فهمها بشكل جيّد فمن الأفضل التّعامل معها من خلال آليّة نقديّة تتبع طرق التّفكيك والتّركيب ووضع حلول على شكل موجات من الاحتمال. فلا يستطيع أحد إنكار أنّ النّهضة الحديثة التي نحياها غربيّة بل وربّما تكون أمريكيّة بامتياز، وسيكون من العسير جدّا البحث عن قطر إسلامي غير متخلّف، والتّخلف هنا ليس له علاقة بمستوى الرّفاهية، إنّما علاقته بإنتاج أدوات الحضارة الحديثة، بينما مستوى الرّفاهيّة في استخدامها، ولن أكون مبالغا إذا قلت أنّه ليس للمسلمين في الحضارة الحديثة نصيب. فمعظمنا إن لم يكن كلّنا نقتات أفكارا تمّ إنتاجها في عقول الغرب حقيقة. ولا يوجد لدينا إنتاج أصيل، لا يوجد لدينا نماذج تفسيريّة جديدة للعلوم الحديثة، فليس لدينا نظريّة سياسيّة جديدة في عالم ما بعد الخلافة تحتوي خصوصيتنا الحضاريّة.
خمسة قرون مرّت دون انتاج حقيقي نوعي وكمّي وتفصيلي يحكي السّرديّة الكبرى التي تخلط فيها مكوّنات الدّين، واللّغة، والعرق، والأساطير، والخبرة الشّعبية، وكلّ ما تهتزّ له جوانب النّفس المتخيّلة» [2] تحكي كيف تمّ التّحول من عالم بسيط لعالم معقّد تدخل فيه الدّولة إلى أدقّ التّفاصيل بصياغة القوانين المنظّمة في عصر الحداثة وتخرج في نفس الوقت بتعظيم فضاء الحرّية في مابعد الحداثة حتّى تصوّروا موت المؤلّف، فما أنتجه المؤلّف ليس ملكا له بل ملكا للعالم بل وتفسير ما أنتجه المؤلّف ليس حكرا على المؤلّف، وبتبنّي السّاسة الغربيّين لهذه النّظريات تمّ سرقة أكثر من 70% من آثار العراق في حرب الخليج الأخيرة بحجّة أنّها منتجات حضارة وليست ملكا لأحد، وسوف تسرق دولا أخرى بالكامل مستقبلا ويلتهمها حوت القوة العظمي. ليس لدينا نماذج تفسيريّة للظّواهر الطّبيعية وليس لدينا من ساهموا بقسط وافر في تطويرها، أقصى ما نمتلك حالات فرديّة لمجتهدين «وليسوا بالضّرورة مبدعين» في بعض المجالات، وبنوا أنفسهم بأنفسهم وليسوا نتاج بيئة علميّة لأنّ أوطاننا بالأساس طاردة للعلم، وليس هذا جلدا للذّات، فالذّات العربيّة والإسلاميّة لا تعرف بوصلتها إلى الآن، بل هو اعتراف بواقع أليم. ما نمتلكه حقّا ربما يكون نموذجنا التّفسيري في اللّغة بناه عظماء بدْءا من الخليل بن أحمد وعبد القاهر الجرجاني إلى محمود شاكر لكنّه يحتاج إلى سقاية زرعه الذّابل في التّربة المرهقة.
بحثا عن نموذج تفسيري مفقود
بحثا عن نوذجنا التّفسيري المفقود، لابدّ من رصد النّموذج الغربي للحضارة الحديثة وأين تكمن نقاط قوّته لنستفيد منها وأين تكمن فيروساته القاتلة لنتجنّبها. في مقال سابق قلت إنّ أهم ما تمّ إنتاجه في الحضارة الغربيّة بالفعل هو وضع الطّبيعية في قوالب رياضيّة رصينة البناء. بل قابلة للقياس واختبارات الصّحة وعدمها، مع أنّه من المحتمل أنّ الطّبيعة ربّما لا تسلك المسارات التي ترسمها هذه القوانين بالضّبط، لكنّها ولا شكّ حتي صدورهذه القوانين هي أثمن ما نملكه كمعرفة مادّية عن الطّبيعة. هذا النّموذج المادّي البحت كان وباستمرار يتمّ ضخّه في كلّ منتجات العقل البشري بدءا من الفلسفة إلى الطبّ إلي الفيزياء حتّى إنتاج الأطفال والعلاقة الجنسيّة والتّنمية البشريّة والفروع المختلفة للعلوم الإنسانيّة.
كان علماء الغرب ينزعجون جدّا عندما يرصدون ظواهر طبيعية لا يستطيعون تفسيرها وفق النّموذج التّفسيري للمادّة، ولا أوضح من افتراض وجود وسط مادّي يسير الضّوء فيه، حيث لم يستطيعوا أبدا افتراض أنّ الضّوء يسير في الفراغ. ما هو الفراغ؟ سيهدم ذلك هيكل نظريتهم، وانتجوا أبحاثا كثيرة فيزيائيّة ورياضيّة عن هذا الكائن المجهول المسمّى بالأثير تبحث عن خواصه الطّبيعيّة من حيث المرونة والتّوصيليّة للكهرباء والحراريّة وتشويه الفضاء. وفي الطّب كانوا يجرون التّجارب على الحيوانات قبل نقلها للبشر لإيمانهم الشّديد بالواحديّة المادّية التي تسكن الخليّة الحيوانيّة في كلّ من الحيوانات والبشر، وأنّه لا يوجد ما يسمّى بالرّوح التي نفخت في البشر. وإمعانا في النّموذج المادّي، كان العلماء الألمان في عهد هتلر يجرّون التّجارب على أحد التّوائم بالتّعذيب سواء بالنّار أو بالتّجميد وقياس التّأثير على التّوأم الآخر. إذن قوّة هذا النّموذج في ابتكار معايير حكميّة وأدوات قياس دقيقة لكلّ ما نريد تقريبا، أما فيروساته فهي طمس لتأثير الرّوح على الجسد ثمّ في نفيها.
جهد الاستنساخ للخروج من التيه
من أجل الخروج من هذا المأزق، ذهب البعض في تفكيره إلى استنساخ تجارب الماضي، فالبعض ظنّ أن الحلّ هو إرجاع الخلافة على نسقها التّاريخي الامبراطوري متغافلا تعقيد الأوضاع الدّاخلية والدّولية الحديثة، والبعض الآخر ظن أن الطريق إليها بتكوين وإعداد ثلاثمائة وبضعة عشر فردا إعدادا جيدا وهم عدّة أصحاب بدر أو اثني عشر ألف على قول لا يغلب اثنا عشر ألف من قلّة، اعتمادا على حديث اختلف في تصحيحه وتضعيفه، وهو حديث بن عباس رضي الله عنهما «ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة»[3]. وآخرون ظنّوا أنّ الحلّ هو بمجرد الرّجوع للكتاب والسّنة بدون جهد تفصيلي لقضايا النّهضة والتي تزداد كمّا وكيفا وتفصيلا يوما بعد يوم، وإن كان كلّ هؤلاء معدودين في جانب واحد فهناك آخرون ظنّوا أنّ الحلّ هو في تفعيل النّموذج المادّي الغربي وهو علمنة كلّ شيء وربّما علمنة التّدين نفسه وجعل الدّين علاقة شخصيّة جدّا بين العبد وربه فقط، يصوغ هذه العلاقة العقل والعقل فقط، إيمانا منهم أنّ سبب تخلّف أوروبا كان الدّين ممثّلا في الكنيسة وليس ذلك صحيحا على الإطلاق، بسبب محاكمة «جاليليو» الذي كان يتولّى منصب نائب البابا آنذاك، والمتتبّع لهذا الصّراع يجد التّأييد الواسع جدّا من الكنيسة للعلم، لكنّ المشكلة كانت تكمن في بعض نتائج العلم المحدودة جدّا المخالفة للمعتقدات الكنسيّة حول الإنسان ومركزيته في الكون، فالكنيسة كانت أكبر رعاة العلم في أوربا، يكفي أن نعلم أنّ يوهان كبلر ونيكولاس كوبرنيكوس وجريجور يوهان مندل مؤسّس علم الوراثة وجورج لومتر صاحب النّظريات العظيمة في الرّياضيات والفيزياء النّظرية وجيوفاني جيرولامو ساتشيري صاحب نظريّات في أسس الهندسة الزّائدية، والبابا جريجوريوس الثّالث عشر، والرّاهب الهنجاري انويس جدليك وهو صاحب فكرة المحرك الكهربائي ولم يكن فيرما، هيجنز ونيوتن أنفسهم بعيدين عن ذلك الجوّ الكنسي. حتّى أنّ هناك مخترعات تمّت داخل الكنيسة اليسوعيّة مثل ساعات البندول، البارومترات، التلسكوبات والميكروسكوبات، وأجهزة بصريّات وأجهزة كهربائية ومغناطيسية كثيرة، ونظريات حول الدّورة الدّموية، ونظريّة الاحتمال النّظري للطّيران، وطبيعة المدّ والجزر ورسم خرائط النّجوم لنصف الكرة الجنوبي، وصياغة نظريات في المنطق الرّمزي، وتدابير مراقبة الفيضانات في الأنهار وإدخال علامات الجمع والطّرح في الرّياضيات.
المراجع
[1] نقل هذا القول ابن قيم الجوزية عن حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر في مقدمة كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الكتب العلمية، 1991م .
[2] إدوارد سعيد: «الثقافة والإمبريالية»، ترجمة كمال أبو ديب، ص 16-17، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان،
[3] صححه الألباني في جامعه ثم تراجع وضعفه -رحمه الله- كما نقل ذلك الشيخ عبدالله بن زقيل في موقع الدُرر السنية . |