تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
أنا وسيزيف الحرمة
 كلما حفرت في الذاكرة البشرية ازددت قناعة ويقينا أن سيزيف رمز العذاب ‏والتحدي حسب الأسطورة (الميثولوجيا) الإغريقية لا يكون إلاّ امرأة. وما ‏نسبة هذه الشّخصية إلى الجنس الذّكوري إلاّ شاهد آخر على غطرسة هذا ‏الجنس الذي افتك لسيزيف الحرمة شرف تحدّي الموت والوقوف في وجه ‏الإله زيوس وكشف أسراره الشّنيعة. وما صبرها على العقاب الذي سلّطه ‏عليها بأن تحمل الصّخرة إلى الأبد من أسفل الجبل إلى أعلاه وتعود ترفعها ‏بعد أن تتدحرج الصّخرة كلّما بلغت بها القمة، إلا عنوان آخر للتحدّي لا يزيد ‏سيزيف إلا ّكبرياء ورفعة. ‏
هل رغبت امرأتنا يوما منذ الأزل في التّخلّص من هذا الحمل الثّقيل؟ كلاّ، ‏ولن ترضى، بدليل ما كشفته الحفريّات من رواسب الاستغلال والتّمييز بكلّ ‏أنواعه، وأشده الذي سلّط عليها ومازال السّائد منذ عصر النّهضة وما تلاه من ‏تنوير وعلم حديث. ولا غرابة إذ ظلم الجاهل أهون من إضمار المتعلّم وما ‏يدسّه من دهاء وخبث معرفي. ففي كلّ الحالات يدرك الجلاد معنى الكيّ ‏وأساليبه، فيبلغ أقصاه دون الحرق ويعرف حدود الموت يغتصبها دون ولوجه. ‏فتتكوّر البطون ويستمرّ النسل. ‏
في سجلات بلدي كانت البيوت ومازالت  تفتح أبوابها ونوافذها شرقا ترنو ‏لأنوار الفجر  ودفء الصّبح ثم تختبئ من أشعة الشّمس الحارقة بعد الظهر ‏وتبقى النّوافذ مترعة من هناك بعيدا ومن حيث جعلت قرص الشّمس خلفها ‏إلى المغيب. في بلدي الذي لم يغلق هذه النّوافذ القديمة وفتح مرائي ‏شاسعة وشاشات كبيرة وصوب الهوائيّات مشرعة على أنوار الديمقراطية ‏في حقول الإنسانيّة، كنت أظنّ أن احتقار المرأة زال ولم يعد للجندرة معنى، ‏حتّى أنّي استنكرت فرض التّناصف في قوائم الانتخابات باعتباره مهين ‏للمرأة بعد هذا كلّه، بل ولأنّها قادرة على أكثر من ذلك إذا ما أرادت. ولكن -لا ‏لشيء إلاّ لأنّها سيزيف - اختارت المسار الأصعب الذي لا يقدر عليه دونها من ‏الرّجال. فلقيتها بصخرتها بين السّفح والقمة تدير ظهرها لمن يتودّد إليها ‏بالمال والجاه ولا ترضى. ‏
مازلت منذ عهود مضت أتساءل وأعيد سؤالي «متى استقام معها حساب؟ ‏وهل سيستقيم؟» على لسان شاعرها الذي قرأها حتى حفظها عن ظهر ‏قلب بعد أن قلّبها يمينا وشمالا ومن أعلى وأسفل ولم يترك ركنا وإن تخفّى ‏ولا سفحا ولا سهلا، وجاب كلّ الأخاديد والهضاب ولم يترك حتّى القمم إلاّ ‏تسلّقها واكتشف أسرارها الخفيّة وغمر من عبقها ونثره  في شرقنا حبّا لها ‏في كلّ حالاتها. لا أظنني أشْعَر منه ولا من مثله ولا أدّعِي محبة لها أكثر ‏منهم إذا ما اعتقدت أن لن تتراجع سيزيف هذه عن معركتها ولن تتخلّى عن ‏صخرتها ولن ترضى بشراء قصر هي ركن فيه. ‏
الأخلاق والقيم النبيلة استأثرت بالقصور الشّامخة والمترفة، وبالحرير ‏والألماس وبكل الأحجار التي مثلها كريمة تزينت، وأعلى المنابر تسلقت ‏وعلى التواضع وعلى من جعلتهم عامة تحتها تسيدت. أنا هنا من موقعي ‏غارق في النذالة على يميني النفاق والرذيلة وعلى شمالي ظلم وغطرسة ‏وأنانية، على خطى سيزيفنا أحمل معها صخرتي حتى نقلب الطاولة أو ‏نزلزلها فيسقط الجميع أرضا.‏