بهدوء
بقلم |
د.لطفي زكري |
صورة الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان |
ما يزال الوعي البشري بالحقوق الإنسانية الثابتة غائما وإشكاليا، بالرغم مما قدمته فلسفات الحق من مقاربات نظرية ترصد أسس الحقوق الطبيعية والمدنية العامة منها والخاصة أو تشرع لحقوق فردية وجماعية ضاقت عنها الممارسة السياسية المحكومة بفن تحقيق المصالح تاريخيا. ويمكننا أن نلمس هذا الوضع الضبابي في سجال التأويلات والقراءات لمختلف النصوص والوثائق والإعلانات الحقوقية القديمة والحديثة منها. وإذا كانت تطورات الحياة السياسية منذ عصر الأنوار قد منحت الأفكار الحقوقية بعض أوجه تحققها بمرور بعض الدول من النظم الشمولية إلى النظم الجمهورية، فإن ما شهده العالم الحديث والمعاصر من صراعات وحروب ومطامع استعمارية كان له كبير الأثر في تنامي ظواهر الاحتجاج على انتهاك الحقوق الإنسانية من جهة، وانزياح الفكر عن التشريع لها إلى المراجعة النقدية لأسسها من جهة أخرى.
لم ينتظر العقل النقدي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حتى يشرع في نقد المسألة الحقوقية في علاقة الدولة بالمجتمع المدني الحديث. ففي سياق نقده للطبيعة الاستغلالية للنظام الرأسمالي شدد «كارل ماركس» على أن دولة ديمقراطية البورجوازية لا يمكنها أن تستمر في البقاء إلا بالتفريط في مقتضيات الديمقراطية الاجتماعية والسبب في ذلك هو ببساطة انبثاقها من صراع طبقي حسمه التعاضد بين السلطة السياسية (الدولة) والسلطة الاقتصادية (الرأسمال). وإذا كانت هذه الدولة قد رفعت شعار الحقوق الإنسانية ـ كما هو الحال في دستور 1793 في فرنساـ فهذا الشعار لا يزيد عن كونه كذبة بورجوازية تهدف إلى طمس الاستغلال الذي تمارسه الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج وتدعمها فيه ممارسة سياسية «ديمقراطية بورجوازية» تتوسل أجهزة قمعية وأخرى إيديولوجية لتوجيه الرأي العام وتضليله. وأول ضحايا هذه الحقوق الغائمة والمخادعة هي الطبقة البروليتارية التي تكابد الشقاء والمعاناة داخل العمل وخارجه. وحتى يفضح الوجه الطبقي الخفي لدستور 1793 بين «كارل ماركس» أنّ هذه الوثيقة ترسم للإنسان صورة يكون فيها « الإنسان الحقيقي في الواقع ليس الإنسان بما هو مواطن وإنّما الإنسان بما هو بورجوازي» على حدّ تعبيره. فليس من باب الصدفة أن يراوح نص الوثيقة في مختلف فصوله بين حدي الإنسان والمواطن لبيان ما يناسب كل منهما من حقوق.
يكفي المتتبع لبنود هذا الدستور وفصوله أن يلاحظ اقتران مفهوم الإنسان فيها بحقوق الحرية والملكية والاستثمار والربح حتى يدرك التهوي الخفي بين الإنسان والبورجوازي، وحسبه أيضا أن يلاحظ اقتران صورة المواطن بحقوق العمل والرعاية الصحية والاجتماعية وتحسين الأجر ودفع الضرائب حتى يكتشف الهوية البروليتارية للمواطن. وهذا يعني أن المواطنة في منطق هذه الوثيقة درجة أقل رفعة من الإنسانية أو أن المواطن في النهاية ليس إنسانا، بل هو ذكرى إنسان أهدرت كرامته بعد أن استحال إلى قطعة لحم بين آليات من فولاذ في المصانع الرأسمالية. لذلك لا غرابة في أن يمتد هذا الفكر الحقوقي الأعرج خارج حدود أوروبا ليحول بقية العالم إلى مستعمرات تساعد على تأبيد الاستغلال وتعميمه حتى وإن اقتضى الأمر خوض حروب عرضية أو ضرورية في هذه المنطقة أو تلك إلى حد صار معه الحق في الحرب يغالب الحق في السلم. وهو ما حمل «ميلوزوفيتش» على قراءة السلم بوصفه مواصلة للحرب بطرق أخرى. والأدهى في هذا الامتداد هو ما أحدثه من شرخ في العلاقات البشرية بين مستعمر غالب يرى في نفسه سيدا ومالكا للعالم وبين مستعمر مغلوب يعامل بوصفه متخلفا أو لصا وقاطع طريق في بلده وعلى أرضه.
أمّا وقد استحال العالم إلى فضاء لصناعة الحروب فقد صار من الضروري لهذه الاستراتيجيا الحربية إيجاد وثيقة حقوقية عالمية تكون سندا لصناع القرار ومرجعا لحسم الخلافات بينهم وبين حلفائهم وخصومهم. نقرأ في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يلي: «... وﻟﻤﺎ كان ﺗﻨﺎﺳﻲ ﺣﻘﻮق اﻹﻧﺴﺎن وازدراؤها ﻗﺪ أﻓﻀﻴﺎ إﻟﻰ أﻋﻤﺎل همجية ﺁذت اﻟﻀﻤﻴﺮ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ، وكان ﻏﺎﻳﺔ ﻣﺎ ﻳﺮﻧﻮ إﻟﻴﻪ ﻋﺎﻣﺔ اﻟﺒﺸﺮ اﻧﺒﺜﺎق ﻋﺎﻟﻢ ﻳﺘﻤﺘﻊ ﻓﻴﻪ اﻟﻔﺮد ﺑﺤﺮﻳﺔ اﻟﻘﻮل واﻟﻌﻘﻴﺪة وﻳﺘﺤﺮر ﻣﻦ اﻟﻔﺰع واﻟﻔﺎﻗﺔ... ﻓﺈن اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﺗﻨﺎدي ﺑﻬﺬا اﻹﻋﻼن اﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﻟﺤﻘﻮق اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻠﻰ أﻧﻪ اﻟﻤﺴﺘﻮى اﻟﻤﺸﺘﺮك اﻟﺬي ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﺗﺴﺘﻬﺪﻓﻪ كاﻓﺔ اﻟﺸﻌﻮب واﻷﻣﻢ ﺣﺘﻰ ﻳﺴﻌﻰ كل ﻓﺮد وهيئة ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ، واﺿﻌﻴﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﺪوام هذا اﻹﻋﻼن ﻧﺼﺐ أﻋﻴﻨﻬﻢ، إﻟﻰ ﺗﻮﻃﻴﺪ اﺣﺘﺮام هذه اﻟﺤﻘﻮق واﻟﺤﺮﻳﺎت ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺘﺮﺑﻴﺔ واﺗﺨﺎذ إﺟﺮاءات ﻣﻄﺮدة، ﻗﻮﻣﻴﺔ وﻋﺎﻟﻤﻴﺔ، ﻟﻀﻤﺎن اﻻﻋﺘﺮاف ﺑﻬﺎ وﻣﺮاﻋﺎﺗﻬﺎ ﺑﺼﻮرة ﻋﺎﻟﻤﻴﺔ ﻓﻌﺎﻟﺔ ﺑﻴﻦ اﻟﺪول اﻷﻋﻀﺎء ذاﺗﻬﺎ وﺷﻌﻮب اﻟﺒﻘﺎع اﻟﺨﺎﺿﻌﺔ ﻟﺴﻠﻄﺎﻧﻬﺎ».
لكن من هم الذين تناسوا الحقوق الإنسانية تحديدا وكانوا وراء مآسي البشرية؟ هل هم المقهورون والمستضعفون أم هم صناع الحروب وناشروا روائح الموت في العالم؟ ومن هم المعنيون بنداء الجمعية إلى احترام الحقوق الإنسانية؟ هل هم المستبيحون للأوطان أم هم المدافعون عن أراضيهم وأعراضهم؟ في الواقع يوحي هذا الجزء من الديباجة أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يوم 10 ديسمبر 1948 كان «حدثا تاريخيا» جعل منه الخطاب السياسي والإعلامي المعاصر عنوانا للتحضر والمدنية، ووثيقة تدعى جميع الدول إلى الالتزام بها حتى تكتسب صفة الدولة الديمقراطية الضامنة لحقوق الإنسان. لكن من مفارقات هذا الحدث المزعوم أن يعقب إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني على قاعدة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» في 14 ماي 1948. وهو تعاقب يدعو إلى السؤال عن حقيقة إنسان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: هل هو الفرد أم هو الشعب؟ وهو سؤال اشتغلت عليه المفكرة الألمانية «حنا آرندت» في كتابها الإمبريالية حيث نصت على أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أدى من أوّل أمره إلى مفارقة متعددة الأبعاد. لعل أهمها أن مرجع هذا الإعلان إنسان لا وجود له في أي مكان من العالم. ذلك أن فكرة إنسان مكتمل الحقوق ليست سوى تجريد أقنومي لا يطابق أي وجود عيني، ففي الواقع لا توجد جماعة بشرية ـ قديما أو حديثا ـ تخلو من نظام حقوقي يحدد لأفرادها ما لهم وما عليهم. لكن وجود هذا النظام أو ذاك لا يعني بالضرورة أنه ثمة احترام تام أو كلي للحقوق الإنسانية. وإذا سلمنا جدلا بوجود انتهاكات لهذه الحقوق بدرجات متفاوتة في العالم، فهذا الاعتراف لا يبرر الحاجة إلى إعلان عالمي يتوسط العلاقة بين الإنسان وحقوقه الطبيعية والمدنية. فالحقوق لا توهب لأصحابها بل تنتزع من مغتصبيها.
ليس هناك أعرف من الإنسان بحقوق الإنسان، وهذا يعني أن الدوافع الحقيقية التي تقف وراء هذا الإعلان الذي تجندت له كل الدول الاستعمارية لا تتمثل في الجرائم التي ارتكبت بحق الشعوب المضطهدة في إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية، بل تكمن في التهديدات التي قد تكون لاقتها بعض الأقليات الأوروبية في ظل نظام الدولة الأمة ممثلة في النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا. ذلك أنه لا يعقل في منطق المغالبة أن يكون هذا الإعلان ثمرة صحوة ضمير الغالب ووعيه بضرورة الكف عن الاستغلال والاضطهاد. إن الأقوى لا يعطي بل يأخذ، وهو إن أعطى فليأخذ أضعاف ما أعطى. وعلى هذا الأساس يبدو ساذجا كل تأويل للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا يستحضر الرهانات التي قادت إليه أكثر القوى الاستعمارية انتهاكا لكرامة الإنسان.
ليس هذا الإعلان مجرد شهادة تاريخية على أن المجتمع المدني استحال إلى فضاء تصادر فيه الحقوق والحريات أوعلى أن الدولة تورطت في تناقض يتعذر حلّه حتى غدت آلة عنف رهيبة تبتلع كل الحقوق، بل صار ماعونا تنتزع به الحقوق من أصحابها وتمنح به لغير أهلها. ويكتسب هذا التأويل مصداقية أكثر بالنظر إلى الدور الاستفزازي الذي يلعبه توظيف هذا الإعلان للضغط والابتزاز في ظل التحالفات الدولية الراهنة. بحيث يمكن توجيه الاتهام والإدانة بانتهاك الحقوق الإنسانية إلى أية جماعة بشرية أو كيان سياسي لمجرد معارضته لمصالح القوى الاستعمارية التقليدية، وفي المقابل يكفي السير في فلك هذه القوى والاستجابة لإملاءاتها حتى تنال تلك الجماعة أو ذاك الكيان شهادة الرضا على وضع الحقوق الإنسانية الضائعة داخله. لذلك يمكن للعلاقة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن تقتصر في الكثير من دول العالم على بعض الممارسات البروتوكولية الاحتفالية التي تختزل هذا الإعلان في إحياء ذكراه وتسويقه للوعي الجمعي في صورة إنجاز تاريخي وعنوانا لدرجة الرقي الحضاري الذي بلغته البشرية وليس شهادة اعتراف بفشل الدولة الحديثة في تحقيق المعادلة بين حاجتها لاستثمار مواردها البشرية وقدرتها على تأمين حقوق مواطنيها الطبيعية والمدنية. فلا غرابة بعد ذلك أن تسمع الحاكم المستبد يتباهى في المحافل الدولية بما قطعه من أشواط في نشر الثقافة الحقوقية وحماية الحقوق الإنسانية مما يتهددها من خطر الدعاية للعنف وإشاعة الفوضى حتى يظفر بالهبات والقروض من الجهات المانحة التي تدرك حق الإدراك زيف هذا الخطاب ولكنها تزكيه حتى يبقى هذا المستبد وفيا لإملاءاتها.
يبدو إذن أنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عقب حربين أوروبيتين أمر مثير للكثير من الريبة. إذ كيف يمكن لعقل كبّل الشعوب المغلوبة بكمّ هائل من اتفاقيات استنزاف الثروات، أن يكون عقلا مشرّعا للحقوق الإنسانية؟ كيف لعقل يرى في النزعة القتالية نزعة فطرية تبرر خوض حروب ضرورية وأخرى عرضية من أجل اللّحم ومن أجل وسائل طهي اللّحم أن يكون عقلا صادقا في إعلانه حقوقا إنسانية عالمية؟
إن البشاعة التي سبقت هذا الإعلان والفظاعة التي لحقته تكشفان لنا بوضوح أنه لم يكن سوى أكذوبة من أكذوبات عدة عمدت إليها الممارسة السياسية المعاصرة لتسويق مشاريع الهيمنة والاستفراد بالقرار العالمي في تصريف الثروات واستثمارها.
لقد كان في الواقع فاتحة الاستعمار الثقافي الناعم الذي يحمل الشعوب المغلوبة على الاعتراف بمنزلتها الدنيا في سلم القيم الإنسانية، وإرغامها على طلب العون من الشعوب الغالبة والاستفادة من خبرتها في نشر الثقافة الحقوقية. إن الحقوق الإنسانية لم تكن بحاجة إلى إعلان عالمي يحمل الجماعات البشرية على الالتزام بها بل كانت بحاجة إلى عالم خال من قوى الاستكبار والهيمنة والاستغلال. عالم يشعر فيه الإنسان بمعنى الإنسانية سواء كان مواطنا في بلده أو ضيفا في بلد أجنبي. لكن يبدو أن هذا العالم لن يوجد ما لم يستحضر المستكبر تناهيه ويعي بأن وجوده فيه هو على سبيل الضيافة وحسب، طالما أن العالم بدأ دون إنسان وسينتهي بدونه. |