الكلمة للخبراء

بقلم
فوزي العبيدي
تطوير تظاهرة «الصّولد» ( 1/2 )‏
 عند تناول أيّ ظاهرة إقتصاديّة نلاحظ أنّها لم تنشأ مصادفة بل مقترنة بزمان ومكان محدّد، ‏وهذا نتاج للظّروف التّاريخيّة للمجتمع وسنن تطوّره حيث يرجع ذلك لعدّة عوامل إقتصاديّة، ‏إجتماعيّة، سياسيّة وإنسانيّة، هذه العوامل متداخلة ومتّصلة الأطوار ونسق تفاعلها ‏يساهم في تطوّر الظّاهرة الإقتصاديّة .‏
هذا التّطور في الظّاهرة الإقتصاديّة يحتّم علينا ليس فقط صياغة وتطبيق قوانين ملائمة ‏للمجتمع بل ضرورة تطوير هذه القوانين لأنّها محدودة بينما الوقائع التي وضعت هذه ‏النّصوص لمواجهتها وتنظيمها في تغيّر وتطوّر دائم .‏
لذا من الحتمي أن نطوّر النّصوص القانونيّة لملاءمة تطوّر المجتمع ليستطيع القانون أن يلعب ‏دوره المناط بعهدته في تنظيم المجتمع منها النّشاط الإقتصادي والتّجاري وهو ما أشار إليه ‏الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو: «إنّ القانون يجب أن يكون ملائما لحاجة الشّعب الذي ‏صُنع من أجله».‏
هذا السّياق التّحليلي يحيلنا إلى ضرورة مراجعة أهمّ ظاهرة إقتصاديّة وتجاريّة التي تعكس ‏مدى تطوّر وفاعليّة العمل الرّقابي للمراقبة الإقتصاديّة وهي ظاهرة التّخفيضات الموسميّة، ‏فنجاح موعدها السّنوي سواء في الموسم الصّيفي أو الشّتوي يعدّ مقياسَ نجاح وتتويج لمدى ‏فاعليّة السّياسات التّجارية والعمل الرّقابي وإرتباط ذلك بواقع المجتمع وتطوّره وحماية ‏المتدخّلين الإقتصادييّن إزاء ذلك. وسنلاحظ من خلال هذه الدّارسة أنّ نجاح هذا الرّهان ‏هو هدف تسعى إليه جميع البلدان التي شملتها الدّراسة حيث أنّ هذه البلدان تعتبر نجاح ‏موسم التّخفيضات بمثابة دليل على نجاح سياساتها التّنظيمية في القطاع التّجاري ‏والإقتصادي.  ‏
(I)تجارب المقارنة : ‏
‏1)‏ التّجربة الإنقليزيّة : ‏
تعتبر المملكة المتّحدة من أوّل الدّول التي تمّ فيها تطبيق البيوعات بالتّخفيض منذ سنة ‏‏1871 من خلال التّظاهرة التّجارية التي يطلق عليها «يوم الصّناديق» أو ما يسمّى ‏بالإنقليزية «‏Boxing Day‏» وهو يوم عطلة رسميّة تحتفل به المملكة المتّحدة وكلّ الدّول ‏النّاطقة بالإنقليزيّة ودول الكومنولث بإستثناء الولايات المتّحدة الأمريكيّة وذلك في 26 ‏ديسمبر من كلّ عام حيث تقوم المحلاّت التّجارية في هذا اليوم ببيع المخزون الفائض ‏بتخفيض كبير في الأسعار.‏
‏بمرور الوقت وترسخ هذا السّلوك الإستهلاكي على نطاق واسع أصبح يوم الصّناديق ‏من الأهمّية بمكان لتجارة التّجزئة أنّه يستمرّ لمدّة أسابيع ونظرا لترسّخ هذه الظّاهرة فإنّ ‏القوانين المنظّمة للتّخفيضات بالمملكة المتّحدة ليست إجباريّة بالنّسبة للتّجار بل مجعولة ‏للإستئناس بها ‏‎.‎وفترات التّخفيض الموسمي التي تشمل جميع المحلاّت محدّدة التّاريخ صيفا و‏شتاء حسب الأعراف التّجارية وليست بنصّ قانوني، من جانب آخر للتّجار الحرّية ‏الكاملة في القيام بالتّخفيضات على منتوجاتهم حسب رغبتهم وحسب الفترة التي يريدونها ‏على مدار العام أمّا بالنّسبة للسّعر المرجعي لعمليّة التّخفيض فهو يخصّ أقلّ ثمن للسّتة أشهر ‏الأخيرة ووقع تطبيقه لمدّة 28 يوم متتالية وهذا بطبيعة الحال منصوح به حسب التّشاريع ‏الإنقليزيّة وليس إجباريّا حيث نجد في الواقع أنّ أغلبية التّجار يطبقون السّعر الأقصى المعمول ‏به .      ‏
‏2)‏ حوصلة لبعض التّجارب الأخرى :‏
‏3)‏ التّجربة الفرنسيّة :‏
‏      عند تناول التّجربة الفرنسيّة في التّعاطي مع أشكال التّخفيضات عموما وخاصّة ‏التّخفيضات الموسميّة نلاحظ تأثّرا واضحا بالعقليّة والمنهجيّة الفرنسيّة التي تميل أكثر إلى ‏التّقنين وتأطير كافّة العمليّات الإقتصاديّة بقوانين وأوامر ترتيبيّة، فمقارنة مع التّجارب ‏الأخرى خاصّة الأنجلوسكسونيّة التي تميل إلى التّحرر من النّصوص القانونيّة والإستئناس ‏بالعرف التّجاري إعتمادا على تطوّر العقليّة لدى جميع المتدخّلين الإقتصادييّن وخاصّة تجذّر ‏ظاهرة الإستهلاك بينما العقليّة الفرنسيّة في التّنظيم تميل إلى التّقيّد بالنّصوص القانونيّة ولكن ‏هذا لم يمنع المشرّع الفرنسي من القيام بالعديد من التّنقيحات القانونيّة لغاية تجاوز العراقيل ‏التي تعترض هذه التّظاهرات التّجارية ولم تكن هذه المراجعات إعتباطيّة بل مبنيّة على ‏دراسات علميّة شارك فيها جميع المتدخّلين الإقتصادييّن الممثّلين للدّولة، المستهلكين ‏والمتدخّلين الإقتصاديّين ومن هذه الدّراسات نذكر على التّوالي: ‏
‏-‏ تقرير لجنة تحرير الإقتصاد الفرنسي برئاسة جاك أتالي (‏Jacques Attali‎‏) ‏ويعتبر الأخير من مهندسي الإصلاحات الجذريّة التي شهدها الإقتصاد الفرنسي في ‏العشريّة الأخيرة ( سنة 2007).‏
‏-‏ تقرير مجموعة عمل متكوّنة من الخبراء حول آليّات التّخفيض في الأسعار تمّ إعدادها ‏للسيّدة ‏Christine Lagarde ‎‏ عندما كانت وزيرة الإقتصاد، الصّناعة والتّشغيل ‏‏(سنة 2008).‏
‏-‏ بحث مجرى من قبل مركز البحث لدراسة ومتابعة شروط الحياة يتعلّق بالتّخفيضات ‏الإختيارية (سنة 2012).‏
‏-‏ ‏ بحث مجرى من قبل مركز البحث لدراسة ومتابعة شروط الحياة يتعلّق بتأثير التّجارة ‏الإلكترونيّة على التّخفيضات الدّورية والبيوعات التّنموية ( سنة 2011).‏
عند دراسة تطوّر مختلف القوانين الفرنسيّة المنظّمة للتّخفيضات الممنوحة من قبل ‏المهنيّين للمستهلك خاصّة التّخفيضات الدّورية، نلاحظ عدّة إيجابيّات نسوق أبرزها :‏
‏-‏ ترسيخ الظّاهرة الدّورية للتّخفيضات الموسميّة بتحديد تواريخ محدّدة سواء للتّخفيضات ‏الصّيفية أو الشّتوية وذلك بالتّنصيص عليها بالمجلة التّجارية بالفصل عدد 310-15 ‏حيث تكوّن لمدّة ستّة أسابيع التّخفيضات الموسميّة لفصل الشّتاء بداية من يوم الإربعاء ‏الثّاني لشهر جانفي من كلّ سنة ويتمّ تقديم هذا التّاريخ ليوم الإربعاء الأول من شهر ‏جانفي إذا تجاوز التّاريخ الأول يوم 12 جانفي من كلّ سنة .‏
أمّا التّخفيضات الموسميّة لفصل الصّيف فتكون محدّدة لآخر يوم إربعاء من شهر جوان ‏من كلّ سنة ويتمّ تقديمها إلى الإربعاء قبل الأخير في صورة تجاوز التّاريخ الأول ‏لــ28 من نفس الشّهر.‏
‏-‏ بالنّسبة للبضاعة المعنيّة بالتّخفيضات الموسميّة تطرق المشرّع لذلك في الفصل 310-16 حيث يتوجب أن تكون فترة مسك المنتوجات المعنيّة لمدّة شهر فقط وذلك لصالح ‏المستهلك حيث يضمن حدّ أدنى من جودة المنتوجات وكذلك لصالح التّاجر حيث ‏يستطيع التّفويت في بضاعته لهذا الموسم لأنّه بحكم التّطور في نمط الإستهلاك سيصعب ‏عليه التّفويت فيها الموسم القادم .         ‏
(II) تشخيص التّجربة التّونسيّة :‏
‏بصفة عامّة التّجربة التونسيّة في مجال التّخفيضات في الأسعار بأنواعها كان لها تأثّر ‏واضح منذ بدايتها بالتّجربة الفرنسيّة المبنيّة على عقليّة التّقنين لأغلب تفاصيل عمليّات ‏التّخفيض في الأسعار مهما كان السّبب والدّافع لذلك. لعلّنا نجد له تبرير بحكم عدم تجذّر ‏ظاهرة الإستهلاك في المجتمع التّونسي وإقتصاد ناشئ كالإقتصاد التّونسي يتطلّب تأطير ‏قانوني لهذه العمليّات التّجارية حتّى يتسنّى حماية جميع الأطراف الإقتصاديّة المتدخّلة لكن هذا ‏لا يمنع وجود خصائص وفوارق بين التّجربتين خاصّة على مستوى تطوّر القوانين المنظّمة لهذا ‏المجال .‏
‏أمّا بالنّسبة لتشخيص واقع التّجرية التّونسية فنلاحظ عدم تطوّر الرّؤية تجاه هذا المجال ‏بالتّوازي مع تطوّر أساليب التّسويق التّجاري ممّا خلق عديد الإشكاليّات وكذلك عدم نضج ‏وعي المستهلك والمهني تجاه هذا الحدث، من جهة أخرى عدم ترسيخ ظاهرة التّخفيضات ‏الموسميّة في السّلوك الإستهلاكي للمواطن التّونسي وكذلك ضعف إستعداد المهنيّين لهذا ‏الموسم يرجع بالأساس إلى عدم إعتماد موعد محدّد وثابت للتّخفيضات الصّيفية والشّتوية ‏يرضي جميع الأطراف المعنيّة ممّا سبّب إرباكا خاصّة للمهني للتّحضير لهذه التّظاهرة التّجارية ‏وكذلك بالنّسبة للمستهلك حيث أنّ تذبذب التّاريخ المحدّد كلّ سنة يمنعه من برمجة ميزانيته ‏الإستهلاكيّة مسبّقا ممّا يحدّ من تجذّر هذا السّلوك الإستهلاكي لدى المواطن التّونسي .‏
‏من جانب آخر نلاحظ أن النسق المتسارع لتطور نمط الإستهلاك أثر بصورة واضحة ‏على موسم التّخفيضات السّنوية بشكله الحالي خاصّة فيما يتعلّق بنوعيّة وجودة المنتوج ممّا ‏يمثّله من عائق يسبّب عزوفا في إقبال المستهلكين وعدم قدرة التّاجر على التّفويت في ‏منتوجاته لهذا الموسم بحكم أنّ الفترة الإجباريّة لمسك المنتوجات المعنيّة أصبحت غير واقعيّة ‏حيث حدّدها الفصل السّادس من القانون عدد40 لسنة 1998 المؤرّخ في 02 جوان ‏‏1998 المتعلّق بطرق البيع والإشهار التّجاري وذلك بأن تكون المدّة لا تقلّ عن ثلاثة ‏أشهر.‏
‏من حيث المشاركة القطاعيّة يرتكز موسم التّخفيضات الموسميّة أساسا على قطاع الملابس ‏الجاهزة وهو ما مثّل محدوديّة لهذه التّظاهرة، فالقطاعات الأخرى شهدت مشاركة محتشمة ‏كقطاع الأثاث، العطور، الصّحة البدنيّة، النّظارات بأنواعها وقطاعات أخرى مازالت لم ‏تستوعب موسم التّخفيضات الموسميّة ضمن تقاليدها التّجارية كقطاع المواد الكهرومنزليّة ‏بالمقارنة مع البلدان التي سبقتنا لهذه التّقاليد نلاحظ أنّها تعتمد بالأساس على المشاركة ‏القطاعيّة لقطاع الملابس الجاهزة ولكن امتدّت أيضا لجميع القطاعات الأخرى خاصّة ‏القطاعات التّصنيعيّة وكذلك الخدمات.