دراسات

بقلم
هيجل وفلسفة الثورة (3/3) هيجل والثورة
 ‏1.‏ الثورة الفرنسية فتح لعصر جديد
عندما قامت الثورة الفرنسية سنة 1789 كان هيجل في عز شبابه إذ كان عمره تسع عشرة سنة وقد ‏فرح بها كثيرا واستبشر بها خيرا وخاصة بمبادئها الثلاثة (الحرية، الإخاء، المساواة). ‏
ويروى أنه من شدة فرحه ذهب هو وصديقيه هولدرلين وشيلنج إلى مكان ما في حيّهم وزرعوا شجرة ‏سموها شجرة الحرية تيمّنا بالثورة الفرنسية التي كانت الحدث الأكبر الذي هز أوروبا في ذلك العصر. ‏
ولا يخفى علينا التأثير الكبير التي تتركه الأخبار الجيدة التي كانت تصلهم من باريس والتي تبشر ‏بعصر جديد، من مثل اقتحام سجن الباستيل وتحرير مساجين الرأي وما تلاه من إعلان حقوق الإنسان ‏والمواطنة، ثم اعدام الملك وغيرها من الأنباء. ‏
ولما وصل نابليون إلى «يينا» غازيا استبشر به «هيجل» واستقبله ولم ير فيه مستعمرا بل اعتبره المحرّر ‏والبطل الذي يبشر بعصر جديد. ‏وقد كتب عن هذا الحدث ما يلي:‏ ‏«إنه في الحقيقة لإحساس رائع، أن يرى المرء مثل هذا الفرد، متمركزا هنا في بقعة بعينها، ممتطيا ‏حصانا بعينه، ومع هذا فهو منتشر ممتد عبر العالم، ومن هذه البقعة يحكمه.»‏ 
ولم يقتصر التأثير الإيجابي للثورة الفرنسية فقط على هذه العقول الشابة والجبارة الثلاثة وإنما شمل كلّ ‏مثقفي العصر آنذاك. فكانط مثلا الذي كان في أوج شهرته، تحدثنا الروايات أنه كان يخرج يوميا ‏لجولته المسائية في نفس الوقت حتى أن البعض كان يضبط ساعته على خروج كانط. ورغم هذه الدقة ‏فإن الروايات تقول أيضا بأنه لم يخرج لجولته يوم سماعه بقيام الثورة الفرنسية لأنه ذهب لتتبع الأخبار ‏القادمة من باريس [1] ‏. وتمتلك الثورة الفرنسية أهميتها عند كانط لأنه رأى فيها «تحقيق حلم التقدم ‏التنويري في ذاته، وههنا لا فاصل بين التنوير والثورة.» كما يرى فوكوا‏ [2] في قراءته لكانط من خلال ‏كتابه عن الأنوار.‏
وقد كان الأصدقاء الثلاثة (هيجل، شيلنخ، وفيخته) من الجيل الذي يلي كانط وكان له عليهم تأثير كبير ‏كل واحد منهم بشكل معين. غير أن هيجل هو أكثر الثلاثة الذين حرصوا على تجاوز كانط في كثير من ‏المقولات.‏
رأى الفلاسفة الثلاث أن الثورة الفرنسية هي إعلان عن نهاية عصور الإقطاعية والإستبداد ‏المسيحي والأخلاق السائدة. وكان هيجل أكثرهم وعيا بهذه اللحظة التي أحدثتها الثورة الفرنسية والثورة ‏الصناعية في انجلترا واعتبرأن التحول الكبير وضع التقاليد الميتافيزيقية موضع التساؤل ونزع عنها ‏الهالة القدسية فأصبحت الفلسفة تبحث عن الله في الطبيعة كما أنّ الآلة فرضت سيطرتها على الإنسان ‏حتى أصبحت «التغيرات في الجنس البشري تتبع التغيرات في الآلة» كما يقول هيجل في فلسفة التاريخ. ‏ولم يعد بإمكان الفلسفة أن تنكر أو تتجاهل هذا الأمر. ومن هنا وجب على الفلسفة أن تطرح السؤال ‏بشجاعة وتجيب عنه بحرية.‏ [3] ‏ ‏
‏2.‏ فلسفة هيجل هي التعبيرة الفلسفية للثورة الفرنسية
إضافة إلى أن هيجل كان معجبا بروسو وخاصة كتابه «العقد الإجتماعي» الذي انتشر بين مثقفي العصر ‏ومنهم صديقيه شلينج وهولدرلين، وقبلهم أيضا كانط. فإن بعض الروايات تحدثنا أن هؤلاء الإصدقاء ‏الثلاثة، أثناء دراستهم في المعهد الديني بتبنغن ‏Tübingenا،(1788ـ1793) كانوا يقرأون العقد ‏الإجتماعي بشكل سري أي تحت الغطاء لأنه كان يمنع تداوله في الأوساط الدينية حينذاك. في هذه الفترة ‏حدثت الثورة الفرنسية وأعجب بها هيجل أشد الإعجاب ومن هذا الإعجاب بدأ كل شيء كما يقول ‏ريتر[4] فهو يعتبر في أحد رسائله لصديقه شلينج أن الثورة «كرمز للعصر، يجب أن تكون الدليل على ‏أن القدسية المحيطة بالطواغيت وآلهة الأرض قد انتهت.» ثم يضيف بإن مهمة «الفلسفة الآن أصبحت ‏تتمحور في الدفاع عن كرامة الشعوب، حتى لا تكتفي فقط بالمطالبة بحقوقها وإنما تفتكها»[5]‏.‏‎ ‎ورغم أن ‏هذا الإعجاب قد تزعزع مع سنوات الإرهاب وعدم الإستقرار السياسي الذي تبع الثورة، فإن هيجل ظل ‏وفيا لروح الثورة الفرنسية ورأى ضرورة الثورة. ففي كتاب محاضرات في تاريخ الفلسفة الذي كتبه ‏هيجل على فترات زمنية مختلفة نجده في سنة 1829/30، أي في آخرحياته يتحدث على ضرورة ‏الثورة على المؤسسات القديمة. وأن ما تدمره الثورة قد سبق أن فقد مبررات وجوده الذاتية [6] ‏. ‏
وقد تواصل هذا الإعجاب والإنبهار مع هيجل إلى آخر حياته فنجده قد كتب عن الثورة الفرنسية بعد ‏أربعين سنة من قيامها  بأسلوب شاعري: «فقد كانت اشراقة رائعة للشمس، رحبت بها جميع العقول ‏المفكرة، واشاعت على الجميع الاحساس بالبهجة والحبور وهزت حماسة الروح في العالم بقشعريرة ‏عميقة جعلتنا نشعر في تلك اللحظة بالذات بأننا توصلنا الى مصالحة حقيقية بين الله والعالم‎.‎‏» [7] ‏ ‏  ‏
إن علاقة هيجل مع الثورة الفرنسية، كما يرى ريتر، ترتكز على الإعجاب والحماس لما أدخلته الثورة ‏على التاريخ. ولما تبعها من تحديات في عدم وجود حلول لمشاكلها وعدم وصول إلى الإستقرار، ثم ‏سيطرة الإستبداد.  إنها بذلك طرحت، حسب هيجل، مشكل العصر.‏
والمشكل الأساسي الذي طرحته الثورة الفرنسية، في نظر هيجل، وفي نفس الوقت عجزت أن تجد له ‏حلا هوالتحقيق السياسي للحرية. فالثورة أعلت مفهوم الحرية ليصبح فكرة أساسية تقوم عليها الدولة ثم ‏ليتحول هذا المفهوم مع «ميثاق حقوق الإنسان» إلى حق طبيعي. ولكن السنوات التي أعقبت الثورة ‏سيطر عليها الإرهاب وفشلت الثورة في تحقيق السلم والأمن وبالتالي أخفقت في تحقيق الحرية على ‏أرض الواقع. وبهذا الفهم جعل هيجل من فكرة الحرية مبدأً مركزيًا ومادة أساسية لفلسفته. فالحرية عنده‎ ‎‏ ‏هي أساس وجود الإنسان، عندما يحقق إنسانيته، ويستطيع قيادة حياته الإنسانية. ويطلق عليها مصطلح ‏Bei-sich-selbst-sein‏ لأنّ الإنسان إذا كان مرتبطا بغيره فإنه لا يكون حرّا... وأمّا أن أكون حرّا ‏فيعني أنّني مالك لنفسي [8] ‏bei-mir-selbst-bin. ‎ ‎(Ph. G. XI, 44)‎
وهو يرى في آخر صفحات كتاب «فلسفة التاريخ» أن الثورة الفرنسية كان لها فضل على ألمانيا فلقد ‏أدخلت إليها القوانين النابليونية المدونة القانونية وألغت الإمتيازات الإقطاعية ووسعت دائرة الحرية ‏وحقوق المواطنين.‏
ولكنه اعتبر خطأ الثورة الفرنسية في أنها عادت الدين الذي يعتبره هيجل ذروة العقل [9].‏ ‏ ولذلك فإنه ‏يمكننا القول أن فلسفة هيجل هي التعبيرة الفلسفية عن الثورة الفرنسية
أ ـ جدل الثورة في مقولة «كل ما هو واقعي معقول وكل ما هو معقول واقعي»‏
‎„Was vernünftig ist, das ist wirklich; und was wirklich ist, das ist vernüntig“ ‎
ما هي حقيقة هذه العبارة عند هيجل؟
في تعليقه على هذه المقولة يشير الدكتور حسن حنفي، بعد تأكيده أن مفهوم التطور هو الأصل في النسق ‏الهيجلي «كل شيء خاضع للتطور والتقدم على نحو جدلي، صراع بين الأضداد. فالروح يتطور من ‏الحس إلى العقل إلى المعرفة المطلقة. والمنطق يتطور من المنطق الذاتي إلى المنطق الموضوعي إلى ‏المنطق الذاتي الموضوعي، منطق التصور. والقانون يتطور من القانون الأخلاقي إلى القانون المدني ‏إلى القانون السياسي» [10].‏ بعد ذلك يثير حنفي ثلاثة أنواع من الإشتباه[11]  في فكر هيجل.‏
الإشتباه الأول: هل هيجل فيلسوف الإيمان أم فيلسوف الإلحاد؟ هل هو فيلسوف العقل أم فيلسوف النقل؟
الإشتباه الثاني: هل هيجل فيلسوف الفكر أم فيلسوف الوجود، مثالي أو واقعي، ذاتي أم موضوعي، ‏عقلاني ام وجودي؟
الإشتباه الثالث: متعلق بالسياسة. هل هو يميني أم يساري، محافظ أم ليبرالي؟ رجعي أم تقدمي؟ [12] 
ويعتبر أنه يمكننا وجود هته المضادات في فكر هيجل ويخلص حنفي إلى القول بأن هذا «إشتباه أصيل ‏في فكر كل فيلسوف قادر على اختراق الحواجز والتصنيفات القائمة»‏ [13] ‏  ‏
ولذلك فإن حنفي يعتبر أن «هيجل هو أرسطو العصر الحديث الذي جمع بين الطرفين، المنطق ‏والوجود، الروح والتاريخ، المثال والواقع، العقل والحس، الله والدولة، الدين والفلسفة عن طريق ‏الصيرورة، فالطرفين يمثلان مرحلتين لصيرورة واحدة ضد ثنائيات اليونان، بين شيلنج وفيجته في ‏المثالية الألمانية، بين كانط وديكارت في الفلسفة الغربية، بين الشرق والغرب مثل جوته» [14] ‏ 
وأما عند الدكتور أبو يعرب المرزوقي فإننا لا نجد طرحا لعملية اشتباه بل إنه يتحدث عن أننا مع هيجل ‏وشيلنج نجد «أفضل صياغة لوحدة الوجود المادية المثالية، والفلسفية الدينية التي هيمنت إلى حد الآن ‏إيجابا أو سلبا على الفكر الإنساني»[15] ‏ ويعتبر أن هذه الوحدة مبثوثة في كتاب «ظاهريات الروح» ‏لهيجل ويشرح ذلك في أحد الهوامش بقوله أن هيجل: «يقدم للقضايا الفلسفية عامة نظرِيِّها وعملِيِّها ‏وجمالِيِّها ببعديها التنظيري والتطبيقي من منظار الوحدة بين الإشكاليات الفلسفية بما هي دينية، ‏والإشكاليات الدينية بما هي فلسفية، ومن ثم فهو صريح التوجه نحو تجاوز إشكالية ثنائية الفكر لاستنتاج ‏فلسفة جامعة بين التجربتين الفلسفية ممارسة وتنظيرا، والدينية الصوفية ممارسة وتنظيرا جمعا لم يعد ‏يهتم بإشكالية التوحيد التي اعتبرت محسومة في تطور الفكر، أو في تجربة العقل، أو في ظهور الروح ‏ممارسة وتنظيرا حيث صارت الفروق بين ضروب الفكر مجرد مراحل في صعود العقل لشكله النهائي ‏عند هيجل» [16] ‏ 
وبناء على هذا فإنه ينتفي مع قراءة أبو يعرب كل أثر للإشتباه لنجد أن هيجل فتح بابا جديدا يوفق بين ‏الديني والفلسفي، بين السياسي والديني، ليتضح لنا مع هيجل، في كتابه «فلسفة التاريخ» مدى الإرتباط ‏الكبير بين الفلسفة السياسية والفلسفة عموما، فهيجل ربط هنا بين المبدأ الأساسي للثورة الفرنسية مع ‏المبدأ الأساسي للعقل  للفلسفة القديمة. فأناكساجوراس الذي اعتبر أن العقل ‏nous‏ هو الذي يحكم العالم، ‏وأنه فقط أخيرا توصل الإنسان إلى أن الفكر هو الروح الحقيقي الذي يدير العالم. إن عقل الثورة بالنسبة ‏لهيجل متطابق مع العقل الفلسفي، وأن كل ذلك تحقق في بعده السياسي مع الثورة الفرنسية. ولهذا فإن «ريتر» يعتبر أن فصل النظرية السياسية لهيجل عن فلسفة هيجل وأبعادها الميتافيزيقية يفقدها لأبعادها ‏الحقيقية فتتحلل وتفقد جذوتها من أساسها [17].‏ ‏ ‏
ولو حاولنا أن ندفع هذا الفهم للنظرية السياسية للثورة عند هيجل إلى أقصاه. لوجدنا أن هيجل أكثر ‏الفلاسفة راهنية في هذا المستوى. فالمفكر السياسي الأمريكي فوكوياما[18]  رأى أن انهيار الإتحاد ‏السوفياتي أدى إلى انتصار اللبرالية واقتصاد السوق، ولذلك خلص إلى أن التاريخ وصل نهايته بهذه ‏النتيجة كما انتهى التاريخ عند هيجل بوجود الدولة البروسية والحضارة المسيحية التي حققت الحرية ‏لكل الناس. فسقوط حائط برلين عند فوكوياما هو النقطة الفاصلة للإعلان عن نهاية التاريخ. ولكن ‏النتائج التي وصل إليها تختلف عنها عند هيجل. ففي الوقت الذي بقي هيجل وفيا لمبادئ الثورة فإننا ‏بناء على قراءة فوكوياما نصل إلى أن الثورة أصبحت مستحيلة لأن التاريخ أكتمل. فتكون قراءة هيجل، ‏بهذا المعنى، أكثر انفتاحا لأنه يقر بالإيجابية والتناقض وبالتالي التعدد الذي يؤدي إلى الصيرورة في حين ‏أن مع فوكوياما ينغلق التاريخ بسيطرة الرأسمالية وهيمنتها على العالم. وفي هذا المستوى بالضبط نجد ‏فوكوياما يتناقض مع هيجل الذي بنى عليه أصلا نظريته. فهيجل، كما رأينا في شرحه للديالكتيك ‏ولفلسفة التاريخ، يعتبر أن الثابت عنده هو التحول، فالفكرة ونقيضها يؤديان إلى الصيرورة التي تصبح ‏بتحققها نقيضا لما هو سائد وبالتالي تُحدِث صيرورة جديدة. ‏
إننا بهذا الفهم يمكننا أن نعتبر الماركسية التي سادت في القرن الماضي على أكثر من نصف المعمورة ‏تنتهي بسقوط حائط برلين، لا لينتهي التاريخ كما ذهب إلى ذلك فوكوياما، وإنما لتبدأ مرحلة جديدة ‏حرص الفكر السياسي الإمريكي أن يجد لها نقيضا بعد القصور الذي رأيناه في نظرية فوكوياما.‏
وفي خضم هذا الجدل الحائر كانت محاولة «ديك تشيني» أقرب إلى فك هذا اللغز. فديك تشيني، وهو ‏السايسي المحنك، اخترع اسما جديدا لتسويق مرحلة جديدة مع عدو جديد للبرالية أو الرأسمالية. وهذا ‏العدو الجديد أطلق عليه اسم «العدو البديل» الذي هو في نظره الإسلام السياسي. واكتملت فصول ‏وأبواب هذه النظرية مع هانتنغتون بصراع الحضارات ليسقط العالم في حروب ونزاعات لا حدود لها ‏في العراق وافغانستان والشرق الأوسط عموما وغيره من المناطق.. فسيطر العنف والإرهاب والتطرف ‏على العلاقات الدولية.‏
وفي هذ الوضع تصبح الثورة ضرورية لأنها تحقق التوصيف الذي بدأنا به هذا المقال والذي شرحه ‏كتبه كانط بشكل أدق عند قراءته للثورة الفرنسية بقوله «مثل هذه الظاهرة لا يمكن أن تنسى، إذ هي ‏كشفت في الطبيعة الإنسانية عن استعداد للعمل لما هو أفضل لأن هذا الحادث هو من العظمة ومن ‏الإرتباط الوثيق بمصالح الإنسانية ومن سعة التأثير في العالم بكل أجزائه، إلى حد أنه ينبغي أن تذكّر به ‏الشعوب في الظروف المناسبة، وعند المحاولات الجديدة من هذا النوع». ‏ولعلنا بهذا الفهم نخلص إلى القول بأن الربيع العربي الذي اندلع بثورة الحرية والكرامة في تونس يمثل ‏مرحلة جديدة تعتبر صيرورة للتناقضات السابقة. ‏
ولكننا لا نريد أن نغرق في التفاؤل فنعود إلى هيجل لنجد أن الشطر الأوّل من مقولته «كل ما هو معقول ‏واقعي» تؤكد على الإمكانية الحتمية لتغيير الواقع، فيغدوا كل ما هو عقلي قابل للتحقق، لأن منطق ‏التاريخ والديالكتيك يؤكد ذلك. فالعقل هو التاريخ. وأما الشطر الثاني للمقولة الهيجلية «كل ما هو واقعي ‏معقول»‎‎‏ فهي النقيض للشطر الأول وتؤكد على امكانيّة فهم الواقع، أو المجتمع والتعاطي معه بل ‏وتغييره. ‏
وبعبارة أخرى فإن مقولة هيجل أعلاه تسمح بتحقق الثورة وبحتميّة تغيير الواقع، أو أنها تحقق شروط ‏النهضة، لأن هذا الواقع هو نتاج للعقل. وتمتلك الفلسفة بذلك موقعا أساسيا لأنها تمنحنا فرصة أفضل ‏لفهم الأحداث وتحليلها. إنها، عند هيجل، تشبه بومة منيرفا التي لا تبدأ بالطيران إلا بعد أن يرخي الليل ‏سدوله.‏
ب ـ الإسلام ـ ثورة الشرق ‏
لا يقتصر النظام الفلسفي الهيجلي على التفاعل مع الثورة الفرنسية ومبادئها فحسب بل إنه يتجاوزها ‏إلى حضارة الإسلام فنجده يستعمل مصطلح الثورة عند حديثه عن الإسلام[19] ‏. فهو يعتبر أن الإسلام، الذي ‏يسميه المحمدية ‏Der Mohammedanismus، ثورة الشرق، التي «كسرت كل خصوصية وكل تبعية ‏مضيئة ومطهرة للفكر ‏Geist‏»  وهو الدين الذي أكد الوحدانية التي «جعلت من الواحد المجرد وحده ‏الشيء المطلق». ويخلص من ذلك إلى أن الإسلام تجاوز الخصوصية التي وجدت في اليهودية. ففي ‏اليهودية «لم يمض الله تحالفه إلا مع اليهود، ولم ينزل وحيه إلا على هذا الشعب».[20] ‏ وأما في الإسلام فإن ‏‏«عبادة الواحد هي الرابطة الوحيدة مع كل شيء. وفي هذا البعد وهذه القوة يزول كل حاجز وكل تمييز ‏قومي وصنفي».[21] ‏ 
‏ ومن ثمة يبرز إعجابه بالفكر الصوفي، خاصة عند جلال الدين الرومي الذي يذكره في محاضراته عن ‏تاريخ الفلسفة، ويتحدث عن التوحد بين الروح الإنسانية والله. كما يبدي إعجابه بسرعة انتشار الإسلام ‏وأن كل من «يعتنق الإسلام يصبح متمتعا بكل الحقوق التي لجميع المسلمين.» وغاية المسلمين كانت «في تقديم العبادة المجردة، وقد سعوا إليها بأكبر قدر من الحماس ‏Begeisterung‏ وهذا الحماس كان ‏عبارة عن تعصب ‏Fanatismus‏.‏ ‏» [22] ‏ولكن ما هو الفرق بين الحماسة والتعصب وكيف يمكن التمييز بينهما؟
وهنا يسعفنا كانط بتحديد هذه المفاهيم بالقول بأن «مفهوم الحماسة في السياسة يناظر مفهوم الاحترام في ‏الأخلاق ، إنها شعور رائع وفرحة قصوى إزاء حدث ما، الحماسة حسب كانط تهب النفس دافعا حيويا ‏من أجل تجاوز التخيل البشري، في حين أن التعصب فيه يتوهم المرء أنه يرى شيئا ما فيما وراء حدود ‏المخيلة، في حين أنه لا يرى غير أوهامه، الحماسة إذن انفعال سياسي في حين أن التعصب انفعال ‏ديني» [23] ‏ 
‏ كما أن هيجل نفسه يتدارك ليشرح معنى هذا التعصب فيقول «إلا أن تعصب المسلمين كان قادرا على ‏كل شيء رفيع» ويفسر ذلك بأن مبدأ المسلمين كان «هو الدين والترهيب كما هو مبدأ روبسبيير في ‏الحرية والترهيب ‏La liberté et la terreur‏»، ويبدو أن هيجل كان حريصا أن يفهم بشكل سليم لأنه ‏اعتمد في نصه الأصلي المفردتين الفرنسيتين ولم يترجمهما إلى الألمانية.‏
كما أن هيجل اضطر، كما يقول أبو يعرب المروزقي، إلى الاعتراف بسبق الإسلام إلى «بيان دور ‏المجتمع المدني وسعى لتبرير تأخر المسيحية التي لم تفهم ذلك إلا بفضل حركة الإصلاح بموقف فكري ‏يغلب عليه تزييف المعاني ليحط من شأن الثورة الإسلامية ويعلي من شأن الإصلاح البروتستانتي» تلك ‏هي الروحانية والمصالحة الروحانية التي بزغت [24] 
وبنفس السرعة الحربية أو العسكرية التي أسست ممالك كبيرة انتشرت كذلك العلوم عند العرب لتصل ‏أوج تألقها في عصر هارون الرشيد، فأضحى بلاط الخليفة «يشع ليس خارجيا فحسب بلمعان الأحجار ‏الكريمة والأواني، وإنما أيضا وخصوصا بفضل ازدهار الشعر وكل العلوم». ولكنه يستدرك مرة أخرى ‏ليقول بأن الخلفاء الأوائل كانوا «محتفظين ببساطة الصحراء ... معرضين عن فوارق الصنف والثقافة.»‏
ويعتبر هيجل أن دولة العرب الكبرى لم تعمر طويلا و«سقطت بشكل متزامن مع تلاشي إمراطورية ‏الإفرنج، فأطيح بعروش من طرف عبيد وشعوب وغزاة جدد» فكان أن جاء السلاجقة والمغول «حتى ‏جاء العثمانيون فتوفقوا أخيرا في فرض سيطرة متمكنة.» ‏
ويعتبر هيجل أن فضل العرب يتمثل فقط [25] ‏ في نقل المعارف وخصوصا منها الفلسفية إلى الغرب.‏ ويرى في الختام أن شعلة الإسلام انطفأت ودخلت «في فتور الشرق وهدوئه» ‏
ورغم المواقف والإشارات الإيجابية التي رأيناها أثناء هذا العرض إلا أن مساحة الحديث عن الإسلام ‏ضمن المؤلفات الهيجلية تبقى محدودة ومختصرة. ففي مؤلفه ‏‎ ‎محاضرات في تاريخ الفلسفة ‏‏(‏Vorlesung über die Philosophie der Geschichte‏) الذي يحتوي على أكثر من 500 صفحة ‏لم يتحدث هيجل عن الإسلام الا في بعض الصفحات وأما في بقية مؤلفاته فلم يتجاوز سوى بعض ‏الشذرات.‏
خلاصات عامة
رأينا إذن أن نظرية الثورة الهيجلية متفائلة ومنفتحة على المستقبل وتتأسس على قراءة معمقة للثورة ‏الفرنسية وعلى أهمية مبدأ الحرية كهدف أعلى للتاريخ. وأن الفلسفة عليها أن تنطلق من هناك لفهم ‏المستقبل. كما رأينا أن هيجل ليس صاحب فلسفة مثالية مفارقة للواقع بل هو مهتم بالحياة السياسية منذ ‏شبابه ففلسفته متسقة مع روح عصرها الذي كانت الثورة الفرنسية أهم حدث فيه وما تلاها من الحروب ‏النابليونية وعودة الملكية وواقع ألمانيا المتخلف آنذاك. ولقد رأى هيجل في الثورة الفرنسية نقطة تحول ‏ليس فقط في تاريخ فرنسا فحسب وإنما في العالم. ولئن غير رأيه من نابليون بعد حروبه في أوروبا ‏وعدّل موقفه من الثورة الفرنسية عندما لم تتحقق أهدافها فإنه لم يتنكر لمبادئ الثورة ذاتها بل ظلت هذه ‏المباديء ملهمة له طيلة حياته وأشبعت فلسفته تفاؤلا وأملا على النقيض من الفلاسفة من بعده الذين ‏سيطر التشاؤم عليهم وعلى الأخص منهم شوبنهاور.‏
ورغم أنه غير موقفه تجاه الدولة البروسية في فترة شهرته وتدريسه في برلين إلى حد اتهامه بالفيلسوف ‏الرسمي لها فذلك لأنه رأى فيها تحقق الروح المطلقة حيث تتحقق الحرية للجميع وكان ذلك مرتبطا ‏بالسياق التاريخي العام الذي تعيشه ألمانيا من أجل إعادة بناء ذاتها بعد خسارتها الفادحة في الحروب ‏النابليونية.‏
ورغم أن نقد كل من فيورباخ وكيركيكارد وخاصة ماركس كان قويا وعنيفا أحيانا وحكم على فلسفة ‏هيجل السياسية بالإنزواء في إطار التبرير للدولة البروسية، وبالتالي صنفت لفترة طويلة ضمن ‏الفلسفات المحافظة، بل الرجعية أحيانا، إلا أن هيجل استطاع أن يفتك مكانته في التاريخ وفي الفلسفة ‏كواحد من أكبر الفلاسفة التي تصل المواقف تجاهه حد التضارب والتناقض.‏
الهوامش
‏[1] ‎‏نود أن ننبه في هذا المستوى إلى ضرورة تنسيب هذه الروايات التي تحيط كانط بهالة من القدسية. نعم من الثابت أن كانط عقل جبار ومنظم ‏ومنظبط جدا في مواعيده. ولكن يجب أن نتوقف هنا ونعتمد أساسا على  إنتاجه فهذا أهم وهو كاف بنظرنا لمعرفة أهمية هذا الفيلسوف.‏‎ ‎‏ هذا مع ‏العلم أن كانط كتب سنة 1798 مقالة قصيرة ومهمة أجاب فيها عن ماهية الثورة ‏‎„Was ist Revolition?“‎‏  ‏
‏[2]  قراءة فوكو لموقف كانط من الثورة الفرنسية، حسن بتغراصا، على الرابط التالي: ‏
http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=300491&r=0‎
‏[3]  ‎‏ يمكن العودة إلى:‏
‏ ‏Enzyklopädie (1817) §7, §8 (VI, 25); Philosophie der Geschichte XI, 557; Geschichte der Philosophie, XVII, 69‎
[4] Joachim Ritter: Hegel und die französische Revolution, Suhrkamp Verlag, Frankfurt am Main 1965, p. 20‎
‎ [5]‎‏رسالة إلى شيلنج بتاريخ  16.02.1795‏‎ (Brief an Schelling, Br. 11 vom 16.02.1795) ‎
[6] Hegel, G. W. F.: Vorlesung über die Philosophie der Geschichte, Werke 12, Suhrkamp Taschenbuch-‎Wissenschaft, 11 Auflage 2015, S.517‎
[7] Es war dieses somit ein herrlicher Sonnenaufgang. Alle denkenden Wesen haben diese Epoche mitgefeiert. ‎Eine erhabene Rührung hat in jener Zeit geherrscht, ein Enthusiasmus des Geistes hat die Welt durchschauert, ‎als sei es zur wirklichen Versöhnung des Göttlichen mit der Welt nun erst gekommen.“ (Hegel, G. W. F.: ‎Vorlesung über die Philosophie der Geschichte, Werke 12, Suhrkamp Taschenbuch-Wissenschaft, 11 Auflage ‎‎2015, S. 529)‎
[8] في تحديد مفهوم الحرية يتجاهل هيجل كل التطورات التي عرفها هذا المفهوم ويعود إلى المفهوم الكلاسيكي لها الذي عرف عند أرسطو ‏والذي نجده في كتاب الميتافيزيقا. ‏Aristoteles; Met., I, 2; 982 b 25‎
[9] في فلسفة التاريخ نجد تشابها كبيرا بين هيجل وابن خلدون. وهذا التشابه يمتد ليشمل كل المكونات الرئيسية الخاصة بهما في فهم التاريخ.‏
[10] الدكتور حسن حنفي، مقدمة في علم الإستغراب، الدار الفنية ، القاهرة 1411 هـ/1991م، ص 341‏
[11] الإشتباه «يعني،عند حنفي، توترا بين قطبين، كلاهما صحيح، تناقضا بين طرفين، كلاهما ضروري... لذلك لا يوجد في الإشتباه صواب أو ‏خطأ، حق أو باطل، صحيح أو فاسد. فكلا الطرفين، وكلا القطبين صواب. إنما يكون الميل لأحد القطبين أكثر من الأخر، والإنحياز إلى أحد ‏الطرفين طبقا للتربية والمزاج وتقدير الموقف.» الدكتور حسن حنفي: الإشتباه في فكر ابن رشد، مجلة عالم الفكر، المجلد السابع والعشرون، العدد ‏الرابع أبريل/يونيو 1999 ص 119، 120‏
[12] المصدر السابق، ص 341،342‏
[13] نفس المصدر السابق، ص 342‏
[14] الدكتور حسن حنفي: الإشتباه في فكر ابن رشد، مجلة عالم الفكر، المجلد السابع والعشرون، العدد الرابع أبريل/يونيو 1999 ص 121‏
[15] أبو يعرب المرزوقي، وحدة الفكرين الديني والفلسفي، دار الفكر، دمشق 2001 ص 13  ‏
[16] المصدر السابق، هامش ص 16‏
[17] Joachim Ritter: Hegel und die französische Revolution, Suhrkamp Verlag, Frankfurt am Main 1965, p. 85-86‎
[18] Fukuyama; Francis: End of History and the Last Man, 1992‎
[19] تناول هيجل الإسلام بتفصيل في فقرة خاصة من كتابه: ‏
Hegel, G. W. F.: Vorlesung über die Philosophie der Geschichte, Werke 12, Suhrkamp Taschenbuch-‎Wissenschaft, 11 Auflage 2015‎
وقد استعنا بالتعريب الذي قام به الدكتور بن سالم حميش تحت عنوان: المحمدية، رؤية هيجل عن الإسلام، وتوجد عل الرابط التالي:‏ المحمدية: رؤية هيجل عن الإسلام:  ‏http://www.arabicmagazine.com/arabic/ArticleDetails.aspx?Id=2881‎
[20] يمكن العودة هنا إلى كتاب للفيلسوف روجيه غارودي الذي شرح الأبعاد السياسية للدين القومي كما فُهم عند اليهود.‏
Roger Garaudy: Les Mythes fondateurs de la politique israélienne; Samiszdat 1996‎
[21] نريد أن نلفت الإنتباه إلى أن هيجل عندما يذكر هذه الخصوصية الإسلامية فإنه «في تصنيفه للأديان يعتبر الإسلام استمرارا لليهودية... وهذه ‏الفكرة عن الإسلام تنبع من وجهة نظر مسيحية. وذهب شبنجلر في «سقوط الغرب» إلى رأي يشبه هذا عندما قال: إن كتاب أيوب كتابة إسلامية. ‏وفي كتابها «أنماط من الأديان المقارنة» وضعت ميرسيا إليادي النبي محمد على مفترق طريق التحول من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة ‏‏(والأخيرة) من مراحل التحول الروحي للجنس البشري. ومن ثمة فالمرحلة الثالثة ـ التي لم تنته بعد ـ بدأت بمحمد، حيث تذهب إليادي إلى أن ‏تاريخ العقل الإنساني هو عملية علمَنَة عامة، وبهذه الرؤية يقف محمد على حافة سيادة المسيحية وبداية العصر العلماني الحديث. بمعنى أنه يقف في ‏النقطة البؤرية للتوازن التاريخي.» علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مؤسسة بافاريا، 1414 هـ/1994 م، ص 278‏
[22] يمكن العودة إلى المقال التالي باللغة الألمانية ففيه بعض الشرح لهذه القضايا. «مكانة الأسلام في فلسفة هيجل»:‏Die Stellung des Islam ‎in Hegels System der Weltgeschichte; in: http://kud-logos.si/2012/die-stellung-des-islam-in-hegels-‎system-der-weltgeschichte‏/‏
[23] «قراءة فوكو لموقف كانط من الثورة الفرنسية»، حسن بتغراصا
على الرابط التالي: ‏http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=300491&r=0‎
[24] «دور الفكر العربي في مفهوم المجتمع المدني الحديث»، أبو يعرب المرزوقي، الجزيرة، المعرفة، 2006‏
على الرابط التالي:
 https://www.facebook.com/Prof.Yoreb/posts/201502/ 849736935087349
[25] في هذا المستوى بقي هيجل أسيرا للدراسات الإستشراقية التي تعتبر أن دور العرب يقتصر فقط على نقل للمعارف اليونانية. ‏