تحت المجهر
بقلم |
امحمد رحماني |
التباس الحديث |
إنّ من الأمور التي يَخْبِرُهَا الطّالب وهو يخوضُ عُبَابَ الأحاديث النّبوية ويُصَفِّي رواياتها ويُقَلِّبُ طرقها وأسباب ورودها ، معانيَ الحديثِ ودلالاتِهِ وما تدُل عليه وترمي إليه ، فإنْ لم يكن له من الفقه والعلم والمَلَكة ما يُقَوِّمُ به اختلاف الأحاديثِ وتَشَعُّبَهَا بل وحتّى ظاهر تعارُضها في بعض الأبواب الفقهية، فإنَّ الطالبَ لا شك سَيَضِلُّ به الأمر ويَصْعُبُ عليه الحالُ وتَلْتَبِسُ عليه معاني الأحاديث باختلاف رواياتها وطرق إيرادها، فإن لم يكن له من الفقه نصيبٌ فإنّه سيأتي بالعجائب .
فكثيراً ما نجدُ بعض طلبة العلم -هداهم الله- لا يملكون من آليات العلم شيئا غير قراءةِ الحديثِ، فيظنون أنّهم مَلَكُوا مفاتيح الإفتاء وإطلاق الأحكام، فهاهي الأدلّة يملكونها ولا حاجة لهم بغيرها – كما يزعمون – فيطلقون الأحكام اعتمادا على ما بين أيديهم من الأدلّةِ والنّصوص، فَيَلُوحُ لهم بعد فترةٍ دليلٌ آخرُ يعارض أو ينسخ ما اعتمدوا عليه، فَيَقَعُونَ في تعارض الأحكام، فَيُلَبِّسُونَ على النّاس دينهم، وما فطنوا أنّ إطلاق الأحكام يحتاج لفقهٍ وعلمٍ وحكمةٍ كما يحتاج لنصٍّ ودليلٍ ، بل إنّه في بعض المرّات يحتاج للفقه أكثرَ من الدّليل ، وذلك لكثرة النّصوص في الباب الواحد وتعارضها، فنحتاج فقهاً وعلماً وذكاءً يرفعُ التّعارضَ ويُمِيطُ لِثَامَ الحرج، فخوفاً من أن تكونَ النّصوص سبباً في التباسِ الأمر على الطّلبة لابدّ من معرفةِ الفقهِ كمعرفةِ الدّليل وأكثر، وقد قال شيخ المحدثين ابن عيينة « الحديث مَضَلَّةٌ إلاّ للفقهاء »(1) والمقصود به الحيرةُ في التعّارض والاختلاف والكثرة والنسخ، لا الضّلال الإيماني، فالحديث هدايةُ لا ضلال وإنّما هو ضلال منهجي وخير شارحٍ لذلك ما أورده القاضي عياض في ترتيب المدارك عن المحدث بن وهب قال « لولا أنّ الله أنقذني بمالك واللّيث لضللت» فقيل له : كيف ذلك؟ قال « أكثرتُ من الحديثِ فحيَّرني فكنتُ أعرض ذلك على مالك واللّيث فيقولان لي: خذ هذا ودع هذا»(2) ونفس ذلك ورد عن أبي نعيم عند قوله: «كنت أعرض الأحاديث على زفر بن الهديل فيقول لي: هذا ناسخٌ وهذا منسوخ، هذا يؤخذُ به وهذا يرفض»(3) .
وقد روي عن الأعمش أنّه قال للإمام أبي حنيفة «يا نعمان، ما تقول في كذا وكذا؟» فقال النّعمان:«كذا وكذا» قال الأعمش «من أين قلت ؟» فقال النعمان «أنت حدّثتنا عن فلان بكذا» قال الأعمش «أنتم يا معشر الفقهاء الأطبّاء ونحن الصّيادلة»(4) وقد ورد ذلك أيضا على لسان الإمام أحمد فقال:«كان الفقهاءُ أطباء والمحدثون صيادلة فجاء محمد بن إدريس الشّافعي طبيبا صيدلانيّا ما مقلت العيون مثله أبدا»(5)
فليست العبرة بكثرة الأحاديث ولكن العبرة بالفهم والفقه، فربّ محدث حامل حديث لمن هو أفقه منه، أو كما قال سيد الخلق: « رُبَّ حاملُ فقهٍ إِلى من هو أفقهُ منه»(6) ولن تعجب إن وجدت من يحفظ من الحديث المئات ويعجز عن الاستنباط منها لما يَعْرِضُ لَه من النّوازل والحالات أو يعجز عن استحضارها وقت السّؤال والمذاكرة، وقد روي عن أحمد بن محمد بن سهيل قال: «وقامت امرأة على مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة وخلف بن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث فسمعتهم يقولون:قال رسول الله وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورواه فلان وما حدث فلان، فسألتهم المرأة عن الحائض تغسل الموتى؟ وكانت غاسلة فلم يجبها أحد منهم وجعل بعضهم ينظر إلى بعض فأقبل الفقيه أبو ثور، فقيل لها عليك بالمقبل، فالتفتت إليه وقد دنا منها فسألته فقال: نعم تغسل الميّت لحديث عثمان بن الأحنف عن القاسم عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «أما إن حيضتك ليست في يدك» ولقولها : «كنت أفرق رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالماء وأنا حائض» قال أبو ثور : فإذا فرقت رأس الحيّ بالماء فالميت أولى به، فقالوا : نعم رواه فلان ونعرفه من طريق كذا وخاضوا في الطّرق والرّويات(7) .
فشأن الفقهِ عظيمٌ إذْ هو من يرفع التباس الحديث عند التعارض والاختلاف ولذلك من أراد الله به خيرا فقهه في الدين ، وهؤلاء الأنبياء وهم درجةٌ واحدةٌ في تلقي الوحي من الله ولكنّهم درجات في الفهم ﴿ ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ﴾(8) «والعلماء من بعدهم كذلك يتفاوتون في العلم والفهم ، وهذا لا ينقص من قدرهم ولا يغض من فضلهم»(9)
فالفتوى أو إصدار الحكم في المسألة والنازلة يقوم على قاعدتين اثنتين :
• الدليل الصحيح
• الفهم السليم
ولا شك فالأحاديث الصحيحة أكثر من أن تعد وتحصى وقد خدمت وحققت وضبطت ولا إشكال في أمرها وجزى الله خيرا المعلمي وأحمد شاكر والألباني وغيرهم عليهم رحمة الله ، ولكن الصعب في القاعدة الثانية في الفهم السليم الذي لا يزال بحاجة إلى تعب وتحصيل وخدمة وضبط واجتهاد ، فالتعامل السليم مع النصوص لا شك مهمة صعبة لا يحسنها كثير من الناس ، فيكون من الأنفع لهذه الأمة في هذه الآونة أن نهتم بما يخدم الفهم السليم وينميه عند طلبة العلم ولو أن غالبه ملكة وتوفيق من الله لكن لا ينزع بنا العجز أن نترك هذا الباب لجمع الدليل وتقيده – وقد خدمه من سبقنا بأحسن منا – على حساب فهمه والتعامل الصحيح معه
وهذا أمر وجب علينا أن نعمل به في مناهجنا الدّراسية والتّعليمية في كل أطوار ومراحل التّحصيل والمعرفة، أن نعلّم التّلاميذ والطّلبة فهم النّصوص وتدبّرها والطّريقة الصّحيحة في التّعامل معها، أمّا أن نحفظهم إياها ثمّ نبعث بهم إلى المساجد أئمة وإلى المراكز مدراء وإلى المدارس معلمين، ظانّين أنّنا قد أتينا بالمطلوب وأنّنا قد قدّمنا للإسلام خدمة قلّ أن تقدّم، فهو محض سراب وتلبيس من الملعـــون لا غيــر، فـ«الاقتصار على حفظ بعض نصوص العلوم الشّرعية أو ترتيل بعض السّور القرآنيّة والسّعي للمهارة في أحكام التّجويد ومخارج الحروف، دون تزويد الأبناء بالقدرة على التدبّر والاعتبار والامتداد بالرّؤية القرآنيّة لصناعة الحياة، فذلك يعكس عقليّة الاهتمام بالوسيلة والاستغراق فيها مع نسيان أو تناسي الهدف والمقصد(10)
وهذا بعينه هو مشكل الجامعات والمعاهد والمراكز حيث أصبحت تركّز على إخراج دفعات من الطّلبة الذين يحفظون ولا يفكّرون بل لا يعون ما يحفظون، فحصرت الغاية في حفظ المطلوب وجعله هو المقصد السّامي لإنشاء مراكز تطلب أمر بنائها أموالا ضخمة، فصار الحفظ هو هاجس الطّلبة وتخوّفهم الكبير في الامتحانات والإشهادات فنزعوا إلى كلّ وسيلة تمكّنهم من نسخ المحفوظ على ورقة الامتحان ولو تطلّب ذلك فعل المحرّم وانتهاك المشروع ، وبدل أن تخرج المدرسة طالبا مفكّرا أصبحت تخرج إنسانا غشّاشا قد يزهق روحا ليحصل على درجة علميّة يكذب بها على واقعه المرير، فصارت هذه الجامعات والمراكز بمنهجها وطريقة عملها عقبة من عقبات إصلاح الفكر الإسلامي في وقت كنّا ننتظر منها أن تكون حلاّ لما نرزخ فيه من المشاكل العلميّة والأخلاقيّة بعكس ما هي عند الغرب» وسيلة كبرى لتوليد الفكر الغربي وحمايته وتصحيحه وأداة لبناء النّسق الثّقافي الغربي وتدعيمه ومختبر لدراسة وتحليل المشكلات الاجتماعية وتقديم الحلول لها، ومصانع للفكر والثّقافة وقنوات لتوصيلها إلى الأمة»(11).
فنحن حاليّا في حاجة ماسّة إلى رؤية منهجيّة تصحّح لنا واقع التّعامل مع النّصوص حفظا وفهما وتدبّرا حتّى يكون منهجنا العلمي وسيلة من وسائل البناء لا معولا من معاول الهدم .
الهوامش
(1) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص 283 . الجامع لابن أبي زيد القيرواني ص 118 .
(2) ترتيب المدارك (1/462 ) .
(3) سير أعلام النبلاء ( 5/283)
(4) ثقات ابن حبان (8/467) .
(5) تاريخ دمشق لابن عساكر (51/334)
(6) أخرجه الترمذي في سننه 2658 .
(7) رواه الخطيب في تاريخه ( 6/67 ) .
(8) سورة الأنبياء الآية 79 .
(9) التفكير الفقهي في المعاملات المعاصرة لعبد الله بن مرزوق القرشي ص 10 .
(10) إصلاح الفكر الإسلامي لطه جابر العلواني ص 34 .
(11) إصلاح الفكر الإسلامي لطه جابر العلواني ص 154 . |