وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
علة قرطاج، من حلم الدولة إلى دولة الحلم
 ثماني سنوات عجاف، تلك هي المدّة التي انقضت من عمر الانتقال الدّيمقراطي في تونس وهي ذاتها وصف للحالة التي ‏تعيش فيها الدّولة خاصّة في المجالين السّياسي والاقتصادي ممّا أدّى إلى النّكوص عن أهداف الثّورة التي اتخذت من دولة ‏الحلم (دولة ديمقراطيّة تكون السّيادة فيها للقانون ويكون الحكم فيها ملكا للشّعب)  شعارا يوتوبيّا اتخذها الثّائر الشّاب أمام ‏واقع منتهى الأحلام فيه تكون حلم الدّولة (أو لنقل سيّدة نفسها لا محميّة لدول أجنبيّة) ‏
الغريب في الأمر، أنّ تونس لا يحقّ لها أن تكون فقيرة بأيّ شكل من الأشكال. فقرطاج التي كانت من قبل مطمورا لروما ‏تتميّز بمخزون غذائي، ثقافي، حضاري وسياحي في مختلف ولاياتها من الشّمال إلى الجنوب إضافة لموقعها الاستراتيجي، ‏فهي تطلّ على أوروبا وآسيا من خلال البحر وهي نقطة الوصل بين أوروبا والعمق الإفريقي الغنيّ بالثّروات والذي جعل دولا ‏آسيويّة مثل الصّين تفكّر جديا في استعماره اقتصاديا(1) ‏
كلّ هذه العوامل تجعل من قرطاج منطقة جذب للمال في العالم العربي بأسره، لكنّ علتها في حكامها الذين لم يستثمروا ‏البعد الرّمزي (التّاريخ والجغرافيا) في تطوير الدّولة  من الجوانب الاقتصاديّة والاجتماعيّة على الأقل.يكمن سوء حظ هذه الدّولة - ‏الصغيرة في إقليمها، الكبيرة في تراثها- في الرّؤساء الذين تعاقبوا عليها من زمن الاستقلال إلى اليوم . ولتبيان علل قرطاج اليوم سياسيّا واقتصاديا نشير:  ‏
‏(1) من الناحية السياسية:‏
‏ توجد هوّة أجيال يعسر سدّها بين المسنّين «المكبّشين» تكبيش العجائز والشّباب الذي لم ينتظم بعد ليكون قوّة سياسيّة ‏بديلة. ومن نراهم من الكهول المشاركين في الماراطون أغلبهم يتنافسون على المنازل (المناصب والسّلط) ولا يتسابقون ‏في الخيرات (البرامج التي تصلح حال الدّولة). والدّليل على ذلك أنّه وإلى اليوم رغم كثرة الأحزاب لم يستطع أي حزب أن ‏يقدّم مشروعا متناسقا لعلاج الأوضاع يتجاوز تخريف العجائز.‏
خبر اضمحلال حزب الحراك سياسيّا أمر متوقّع ؛ ذلك أنّ الإبقاء على صنم الزّعامة وعدم إعطاء الفرصة للشّباب ‏‏(كالحرب القائمة بين جناحيّ النّداء) بالإضافة إلى تسارع نمو التّيار الدّيمقراطي الحامل لنفس الفكر الوسطي على الأقل ‏من حيث الأصل ( ورثة المؤتمر من أجل الجمهوريّة ) بالخصوص لدى فئة الشّباب بسبب خطابه الرّاديكالي الثّوري واستحالة ‏وجود حزبين بنفس الفكر والخطاب في المشهد السّياسي الحالي. ‏
كلّ الأحزاب التي تتمحور حول شخص ولا تتمحور حول برنامج ورؤية وعمل جماعي مآلها التشقّق والاضمحلال. لم يعد من ‏المقبول من حيث الجدوى السياسيّة أن ترتهن الأحزاب لأشخاص ملهمين مهما كانت مواهبهم وشرعيّتهم، هذا عصر ‏التّسيير الجماعي والمؤسّسات الدّيمقراطيّة. ينطبق هذا على كلّ الأحزاب حتّى تلك التي تبدو متماسكة وقويّة وعصيّة عن ‏التفكّك، فالوسط اليوم كغيره من القوى السّياسية يحاول إعادة التّنظّم من أجل تكوين جبهة وسطية تمثل بديلا عمليّا ‏في اللّعبة السّياسية.‏
إنّ فرصة من بقي نظيفا من الدّستوريين، حتّى لو اضطرّ بالواقعيّة السّياسيّة إلى العمل مع نظام ابن علي، ومن لم يجرم ‏في حقّ الشّعب ومستعدّ لمراجعة ما في سياسة بورقيبة من «أبوية» مبالغ فيها لعلها كانت مناسبة للظّرف ليحافظ على ‏النّير من تراثه، أن يشرع في الاتجاه إلى الصّلح بين فرعي الحركة الوطنيّة ولذلك شُرّعت العدالة الانتقاليّة.‏
ومبدأ العدالة الانتقالية يفضي إلى تقديم المصالحة على المحاسبة من أجل تحقيق هدفين: أوّلا يلغي الخوف العام ويعزل ‏المجرمين، أمّا ثانيا فهو يحول دونهم والتّخويف بمنطق المسؤوليّة الجماعيّة الذي يقتضيه تقديم المحاسبة على المصالحة، ‏فلو حاسب الرّسول قبل المصالحة لما وجدت دولة الإسلام أصلا ولبقيت الحرب الأهليّة حتّى الباردة بلا نهاية أمّا الحديث ‏عن مبدأ « إذهبوا فأنتم الطّلقاء»(2) فهو ميتولوجي، يوتوبي، لا يرقى إلى منزلة بناء الدّول. ‏
‏ فمواصلة الفرع التأصيلي استوجبت الكثير من المراجعات. ولا بأس من أن يقدم الفرع التحديثي على مراجعات أخلاقية ‏وفكرية. حينها سيتمّ الصّلح بين المؤسّس الأول للحركة الوطنية (الثعالبي) والمؤسّس الثّاني (بورقيبة)، ويصبح لتونس ‏قوّتان سياسيّتان تعملان معا لعلاج شروط استقلال تونس التّام بتحرير الإنسان والوطن، وخلاف ذلك فهو وهم ‏وحتّى كلمة «التّوافق» لا تصحّ لكونها غير نابعة من منظومة كاملة بقدر أنّها نابعة من شخصين ‹توافق الشّيخين»‏
حين يأتيك من يدّعي أنّه يمثّل ثورة الشّعب ثمّ يقف موقف القيم الكونيّة المطلقة، فأنت أمام عقليّة العجل الذّهبي وهي ‏الحرب على قيم الشّعب. وليس المشكل مع هذا الموقف -لأنّ تعدّد المواقف من جوهر الدّيموقراطية- بل المشكل من يعارض قيم ‏شعبه يمكن أن يحكمه بالاستبداد والفساد ولا يمكن أن يحكمه بالدّيموقراطية والأنكى من ذلك أنّ هؤلاء هم النّخبة الفكريّة ‏والسّياسية التي كشفت الثورة عجزها وخروجها عن التّاريخ والتي لا تزال تبحث في قضايا التّأصيل والتّحديث بينما نجد شباب ‏اليوم يتحدثون عن قضايا معاصرة أعمق وأنفع من صراعات النّخبة التّافهة.‏
‏(2) من الناحية الاقتصادية: ‏
لا يمكن أن تحلّ معضلة الاقتصاد في تونس إلاّ إذا توفّر في شخص المنقذ شرط الوطنيّة وعدم الاكتراث لأيّ شقّ سياسي ‏في الحكم بالأصل (أحزاب) أو الحكم بالشّكل (المنظّمات الشغيلة) أو المعارضة والإلتفات إلى الملفّات الحارقة ومن ‏أهمّها ؛ محاربة الفساد ولوبيّات التّجارة الموازية، دعم المقدرة التّنافسية بين الشّركات والمقدرة الشّرائية لدى المستهلك، ‏تعديل السّياسة الجبائيّة لتتلاءم مع جميع الأصناف المهنية للحدّ من خطر التّهرب الضّريبي، وخلاف هذا فهي وعود زائفة ‏لا ترقى لمستوى الإصلاحات الضرورية والجذرية التي تنتظر من النّخب السّياسية والاقتصادية.‏
بلغ عجز الميزان التّجاري طيلة الثمانية أشهر الأولى لـ 2018 بالتمام والكمال 14362.2 مليون دينار، متجاوزا بذلك ‏مخزون العملة الصّعبة وذلك قبل نهاية السّنة بأربعة أشهر كاملة(3). لست واثقا من أن 2019 ستكون سنة التعافي ‏الإقتصادي لا لشيء إلاّ لكون حكومة الشّاهد ستكون إمّا حكومة تصريف أعمال أو أنّه سيستقيل صارفا كلّ جهده في ‏الحملة الانتخابية لرئاسيات 2019 تاركا لمن بعده وضعية اقتصادية صعبة.‏
أمّا دوليّا، فمعلوم أنّ سعر البترول (البرنت) تجاوز الـ 80 دولار وتوقعات بمزيد الإرتفاع في الأيام والأسابيع القادمة ‏خاصة بدخول العقوبات الأمريكية على إيران حيّز التنفيذ بداية نوفمبر، تبعات ذلك ستكون صعبة على ميزانية الدولة و ‏الميزان التجاري الذي تشهد فيه الطاقة عجزا كبيرا. ‏
تونس في حاجة إلى إستراتيجية وطنية و تخطيط على المدى المتوسط والبعيد في قطاع الطاقة لتركيز حلول بديلة ودائمة ‏‏(كالإعتماد على الطاقات المتجددة والحيوية مثل الشمس والرياح) حتى لا يبقى إقتصاد البلد في مهب رياح الصراعات ‏الجيوسياسية.‏
عموما ، يمكن القول أنّ تونس، على عكس الدّول العربيّة الأخرى، تمتلك حظوظا وافرة لنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي، ‏ولعلّ دستور الجمهوريّة الثانية أحدث ثورة قانونيّة حين كرّس اللاّمركزية وأسند لها بابا أطلق عليه «السّلطة المحلّية»، ‏كما كرّس عديد الحقوق والحرّيات التي يُغبط عليها الشعب التونسي ولكنّها تحتاج لتطبيق فعلي حتّى نصل إلى دولة الحلم.‏
المراجع
‏(1) نمت التجارة الثنائية بين الصّين وأفريقيا من 10.6 مليار دولار عام 2000 إلى 160 مليار دولار في عام 2011 وبحسب تقرير للبنك الدولي ‏أصبحت الصين منذ عام 2009 الشريك الاقتصادي الأكبر والأهم لقارة أفريقيا؛ حيث ارتفع التبادل التجاري بينهما من 12 مليون دولار عام 1955 ‏إلى 166 مليار دولار في عام 2005 وإلى 210 مليار دولار في عام 2013، وحسب خبراء يتوقعون أن يتجاوز حجم التجارة الثنائية حاجز ‏الثلاثمائة مليار دولار نهاية العام 2015 وهو ما يزيد عن حجم التجارة بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية‎.‎
‏(2) حديث ضعيف، ليس له إسناد ثابت، وهذا مرسل أو معضل، مع جهالة المرسل ‏
‏(3) موزاييك أف أم وعديد الوسائل الإعلامية في تونس وخارج تونس‏