في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
لماذا يتم إكراه الناس على النفور من العلوم الإنسانية؟
 شئ من الذكريات
كنت قد أحببت القراءة مبكّرا في طفولتي، وأذكر وأنا أخطو ناحية الشّباب وأنا بالصّف الأول الثّانوي قد اخترت القسم الأدبي ‏لأكمّل دراستي فيه، وكان لي صديقان حميمان يعلمان حبّي وولعي بالعلوم الطّبيعية وخصوصا الرّياضيات والفيزياء قدر حبّي ‏للأدب والعلوم الإنسانيّة، وكنّا نتشاور في كلّ شيء وقدّر لي أن أنتقل للدّراسة في القسم العلمي لينتهي بي المطاف كمتخصّص في ‏ديناميكا الفضاء. ولو رجع بي الزّمن إلى الوراء لاخترت علم الاجتماع السّياسي كتخصّص دقيق لأكمّل حياتي فيه، والآن وقد بدأت تتبلور أمام عيني فكرة جريئة وهي أنّه لما كان معظم الفكر الاستعماري مبني على تعليم النّاس الانضباط، والسّير في طابور، ‏والانتظار في طابور، والنّوم بطابور، حتّى أنّهم بنوا المصنع والوحدات العسكريّة والمدرسة والمستشفي بل والوحدات الإداريّة ‏بتراتبيتها علي نسق السّجن حتّى يتحقّق الانضباط من خلال إحكام عمليّة المراقبة والمعاقبة كما يقول فوكوه ‏‎[1]‎. هذا الانضباط ولا ‏شكّ مفيد جدّا وفي غاية الأهمّية لكنّه ينبغي أن يضبط بوسيلة معرفيّة تحفظ على العقل كيانه ولا تحوّله إلى العقل الخانع الذي يؤمن ‏بكلّ مقولات السّلطة، ولابدّ من حماية أدوات المقاومة والتّقويم للسّلطة حين اعوجاجها، وهي لابدّ ستعوّج طالما كان الحاكم ليس ‏نبيّا، فإن لم يوجد من يقوّمها ازداد الاعوجاج. ومن أدوات الحماية والتّقويم تحصيل الوعي وإنتاج المعرفة، والتّكتل في وجه الظّلم ‏وعدم مديح المستبدّين. وبعد الاستقلال في مجتمعات كثيرة، كانت النّخب في معظمها تنادي بفكرة التّحديث بناء على الفكرة ‏الغربيّة الاستعماريّة وذلك بإحداث القطيعة بيننا وبين ثقافتنا الإسلاميّة العربيّة من خلال  التّخويف من قوى الرّجعية، وعدم ‏إرجاع عقارب السّاعة للوراء، لكن كل ذلك في الحقيقة كان يتستّر وراء مقولات ثقافيّة تستند إلى سيادة ثقافة المنتصر وتقليد ‏المغلوب للغالب كما يقول بن خلدون ‏‎[2]‎‏ وهو عين بنية التّسلط الاستعماري ومن بعده سلطويّة النّظم الجديدة المستقلّة النّاشئة‎.‎‏ بناء ‏على هذه المقدمة تأسّست عندي خلاصة أنّ النّظم المستبدّة تحارب العلوم الإنسانيّة لأنّها هي التي تبني الوعي، من خلال عدم فتح ‏المجال أمام خرّيجيها، ولو فتح المجال فتكون الرّواتب متواضعة جدّا حتّى ينفر النّاس من هذه المجالات بل ويسخر النّاس منها، ‏ويظلّ من يعمل في الطّب والهندسة و الفيزياء والرّياضيات وشتّى العلوم الطبيعيّة هو المقدّم في المجتمع، فالحقيقة أنّ ما يتمّ تعليمه ‏في هذه العلوم ليس وعيا بمكانة الإنسان في مجتمعه وبيئته، وإنّما مهنة يتكسّب منها قوت يومه طالما ظلّ بعيدا عن هموم وطنه ‏وأمّته، والحقيقة أنّ معظم من تخصّصوا في هذه المجالات افتقروا جدّا إلى أهمّية العلوم الإنسانيّة  بقدر ما أدهشهم التّقدم في تلك ‏العلوم، لكن لا تبني نهضة الأمّة على أصحاب مهن وإنّما تبنى على نخبة نوعيّة من علماء من الأوزان الفكريّة الثّقيلة يقدّرون ‏معنى الوعي ويشعّونه في المجتمع، يقودونه نحو الإصلاح ويكونون في مقدّمته. لقد اشتهر نيوتن كعالم في الرّياضيات والطّبيعة ‏لكن غير المشهور عنه أنّه كان لاهوتيّا مرموقا وكتب «ثلاث رسائل في اللاّهوت» بل ربّما اشتهر في عصره أكثر ممّا اشتهر به ‏في الفلسفة الرّياضيّة للعلوم الطبيعيّة،‎ ‎يقول دافيد بروستر: «لم يشتهر السّير إسحق نيوتن كعالم رياضيات وفيلسوف طبيعي، بل ‏اشتهر كلاهوتي مرموق» ‏‎ [3]‎. حتّى إنّ ما أسّسه في العلوم الطّبيعية لم يكن أبجدياّت مهنة بقدر ما كان فلسفة للكون «إكتشاف لغة ‏جديدة للكون وهي الرّياضيات». وايفارست جالوا أحد مؤسّسي علم الجبر الحديث مات وهو في العشرين من عمره منافحا ومدافعا ‏عن شرف إمرأة في مبارزة مع الشّرطة و يعتقد البعض أنّ الشّرطة السّرية هي التي دبّرت موته في المبارزة‎.‎‏ حيث كان جمهوريّا ‏راديكاليّا خلال ملك‎ ‎لويس فيليب‎.‎‏ ‏
الإنسان كترس
ينتهي الإغراق في دراسة العلوم الطّبيعيّة وحدها دون قيم مرجعيّة، وبدون دراسة العلوم الإنسانيّة، إلى فقد الاتجاه ‏الإنساني، وبفعل القانون الطّبيعي الذي يكشف عن المجهول تبنّي أصحاب المذهب العلماني أنّ كلّ مجهول سيصبح معلوما بمرور ‏الزّمن، وعندها يصير القانون الطّبيعي هو السّيد حتّى على الإنسان الذي اكتشفه. تصبح القصّة الصّغيرة الجزئيّة جدّا «القانون» ‏حتّى داخل العلم الواحد التي كشفها سردية كبرى، وهنا تكمن المصيبة، فبعد أن ظهرت تجليات القوانين الطّبيعية في عالم المادّة  ‏تبنّى أصحاب هذا المذهب مبدأ تطبيق القانون الطّبيعي على الإنسان أيضا، منطلقين من إرادة هدم الرّوح داخل الإنسان، تلك ‏الرّوح التي تجعل من الإنسان إنسانا وحين خروجها منه يصير جثّة. يريدون إماتة المجهول لأنّ «الخوف من المجهول» هو جوهر أساسي في الحضارة ‏الغربيّة الحديثة ومحاولة هدمه أو جعله نسبيّا يعرف بمرور الزمن، لا غيب فيها مطلق، فلا شيء يوجد خارج ‏الزّمان والمكان الفيزيائييّن. وقد كنت ألمس وأنا أدرس العلوم الطبيعيّة الخوف الشّديد لدى علماء النّهضة الأوروبيّة من أي شيء لا ‏يستطيعون قياسه، لا يستطيعون الإمساك به في معاملهم، وإن استطعت أن ألخّص منجزات الحضارة الغربيّة الحديثة بعبارة ‏موجزة جدّا «فهي حضارة إرادة قياس كلّ شيء»، ترجمة كلّ شيء إلى عدد، وهي بالفعل قاست أشياء كثيرة جدّا في عالم المادّة وهو ‏منجز جبّار بمقاييس الحضارات ومقارنتها ببعضها. والخوف من المجهول إحساس فطري بامتياز، فإن كان في عالم المادّة فالسّعي وراء ‏المجهول و كشفه شيء مرغوب فيه وإبداع رائع لتبنى حضارة، وإن كان في عالم الرّوح حيث اللّطيفة الرّبانية التي تجعل الإنسان إنسانا ‏فليس إلاّ الوحي الذي يبعث الطمأنينة بداخلك أنّ ما تفعله من تضحية وكرم وشجاعة ... إلى آخره دون الحصول على شيء من الدّنيا ومن ‏النّاس، من فعلها لن يضيع سدى وأنّ له قيمة مقاسة وبدقّة لانهائيّة يعجز عنها البشر أصلا، لكن بعد البعث من القبور. إنّ تطبيق ‏القانون الطّبيعي علي المادّة يبني حضارة لكنّ تطبيقه على الإنسان يهدّم عقائد، هناك نوع من المجاهيل لن يعلم أصلا، والوحي ‏هو الذي يأتيك بأنباء عن هذه المجاهيل بطريقة المجاز والمجاز فقط عن طريق مختلف تماما لتحصيل المعرفة العلميّة المكتسبة ‏والمقيسة. فليس الوحي كسبا علميّا. إذا تنتهي دراسة العلوم الطبيعية وحدها بعيدا عن القيم بالتّعامل مع الإنسان كمركّب معقّد ‏لمجموعة من العناصر الكيميائيّة، فلا فرق بين الإنسان وثاني أكسيد الكربون مثلا كلاهما «شيء» يخضع لقوانين وصيرورات ‏العلوم الطبيعية وإذا كنّا نستكشف الطبيعة بالتّجربة الطّبيعية بالتّكسير والتّفتيت والتّسخين والشدّ والسّحب والطّرق والضّغط، فلماذا ‏لا نستكشف الإنسان بمثل هذه الوسائل؟ فالنازيّون مثلا كانوا يجرون التّجارب على التّوائم دون رحمة ولا هوادة ولا ‏شفقة، يأخذون أحدهم (من أولاد الغجر ومن أولاد اليهود) ويحبسونه بعيدا عن توأمه الآخر، ثم يقومون بتعذيب أحدهم حتّى الموت ‏ويرصدون ما يحدث للآخر، يسجلون، يستنبطون ويحلّلون. وفي الحرب العراقية كان الأمريكان يرمون القنابل الثّقيلة والعنقوديّة لتفتك بحيّ ‏بكامله‎‏ من العراقيين، ثمّ يحتفلون بذلك مردّدين «‏like christmas ‎‏»‏‎، ‎‏ يتعاملون مع جماجم العراقيين كما يتعاملون ‏مع الألعاب النّارية التي يتلهّون بها في أعياد الميلاد.‏
سببيّة الاحتمال أم احتماليّة السّبب
‏ تعدّ مصطلحات العلوم الإنسانيّة ضمن دائرة المفاهيم النّسبية جدّا، ولا يمكن ضمن مستوى تطوّر العلم الحالي تأكيد ‏صحّة علاقة سببيّة بين متغيّرين في العلوم الإنسانيّة، فما بالنا بالظّواهر الاجتماعيّة المعقّدة والمركّبة، وبالرّغم من محاولات جادّة ‏في تفسير سلوك الجماهير سلوكا معتمدا علي نماذج مستوحاة من الفيزياء الإحصائيّة إذ الفرد في المجتمع هو بمثابة الذّرة في الغاز ‏تحت الدّراسة، فإنّ إدخال المعتقدات الفرديّة والجماعيّة يبدوعسيرا جدّا على النمذجة الرّياضية لأنّها في الغالب تنبع من ‏الغيب وعصيّة على التفسير والتّبرير، ولكن لمّا كانت الفيزياء الكلاسيكيّة تستطيع تحديد مسارات الأشياء الماكروسكوبيّة بدقّة إلاّ ‏أنّها تفشل فشلا ذريعا في التّنبؤ بمسارات الأجسام الميكروسكوبيّة، بل تفقد كلمة المسار معناها أصلا، فلا يبدو أنّ هنالك مفهوما ‏واضحا لكلمة مسار، ويبدو الفضاء كلّه محمّلا بسحب مختلفة الكثافة من الاحتمال. فلماذا لا تطبّق مثل هذه النماذج على العلوم ‏الإنسانية ونكون معنيين حينئذ بسببيّة الاحتمال النّاتج عن احتماليّة السّبب؟ ولما سُئل اينشتاين لماذا لا تكون السّياسة مثل الفيزياء ‏في استنباط القوانين، ردّ قائلا: لأنّ السّياسة أصعب من الفيزياء، ذلك لأنّ أينشتين كان يرفض فكرة الاحتمال كآداة تحليليّة ‏للظواهر الطّبيعية معلّلا أنّ الله لا يلعب النّرد. الله فعلا لا يلعب النّرد وهو يعلم كلّ شيء على وجه اليقين، أمّا نحن فمعرفتنا عن الأشياء كلّها تقريبيّة. والغريبب أن تجد منّا من ينظر إلى العلوم الطّبيعية وكأنّها هي المخرج من الهاوية التي نحن ‏فيها، ويتناسى أنّ العلوم الطّبيعية وحدها ساقت الغرب إلى مستنقع آسن من السّيولة في كلّ شيء حتّى في أخصّ ‏خصوصيات العلاقة الحميميّة. فينظر إلى خرّيجي كلّيات الطّب مثلا بعين تختلف عن خريجي الكلّيات الأخرى ونسوا أنّها مهنة ‏مثل باقي المهن، وهي في أعين وأفئدة الكثيرين مهرب من الفقر، وذلك خلاف للعين التي ترقب خرّيجي التخصّصات الإنسانيّة، ‏فهؤلاء العاطلون المعطّلون الرجعيّون، فهل ذلك صحيح؟ ‏
لماذا تخاف الأنظمة الديكتاتورية من العلوم الإنسانية    ‏
في إحدى البلدان العربيّة التي بها مدرسة متميّزة في علم الاجتماع، أمر الزّعيم بإغلاق معهد السّوسيولوجيا ولم تفلح ‏تدخلات الشّخصيات الكبيرة بهذا البلد في إثناء الزعيم عن رأيه بحجّة أن هذا المعهد جامعْ المُلحدينْ والحقّ أنّه كان تجمّعا ‏للمعارضين اليسارييّن. كان ذلك المعهد يتبنّى الدّفاع عن فئات عريضة، مُهمَّشة اجتماعيّا واقتصاديّا أو مجاليّا، ومن ذلك ما قاله ‏بول باسكون «إنّ المعرفة وُجدت لتغيير العالم».. وإنّ «الدّفاع عن المُزارعين والجماهير يجب أن يحرّك الباعث البحثي لدى ‏علماء الاجتماع». وبالرّغم من امتلاك الزّعيم لأدوات إعلاميّة واسعة إلاّ أنّه فضّل اعتقال الرّأي داخل حناجر هؤلاء على ‏مناقشتهم حجّة بحجّة في ساحات الإعلام ومنابر الرّأي. العلوم الإنسانيّة تهتمّ بالإنسان من حيث كونه إنسان على خلاف من يتبنّى ‏المنهج المادّي في التعامل مع الإنسان كشيء. لذلك فالعلوم الإنسانيّة تبني إنسانا واعيا مستعدّا للتّضحية بجسده في سبيل مبادئة ‏‏كخبيب بن عدي، وجيوردانو برونو. أمّا المنهج المادّي فلا إنسان به أصلا وإن وجدت ثمّة بقايا إنسان بمبادئ إنسانيّة، فهو ‏مستعدّ لبيعها في سوق النّخاسة لمن يدفع أكثر. ليس هذا تعميما لكنّه اتجاه جارف حتّى إنّ «نيتشه» قالها بصراحة إذا كنّا قد ‏قضينا «بموت الإله» إلاّ أنّ ظلاله لم تزل على الأرض وعليه فلابدّ من تطهير العالم من الميتافيزيقا ومن ظلال الإله .‏
المراجع
‎[1]‎‏ ميشيل فوكو. (‏‎1990‎‏). المراقبة والمعاقبة ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان.‏
‎[2] ‎‏  ابن خلدون، المقدمة، الدار التونسية للنشر - المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر،  ‏‎1984)‎‏).‏
‎[3] David Brewster, «Memoirs of the Life, Writings, and Discoveries of Sir Isaac Newton», ‎Edinburgh , (1855). ‎