بهدوء
بقلم |
د.ناجي حجلاوي |
التَفكير البلاغي والفعل التَفسيري أعطاب الفهم وسيادة الوهم(3/3) |
القراءة السّياسيّة
النّوع الثّالث من أعطاب الثّقافة التّراثيّة هو الرّمزيّة البادية في رفع المصاحف على أسنّة الرّماح وأطراف السّيوف في حادثة صفّين سنة 38هـجريّا. إنّ هذه الحادثة ترمز إلى أنّ القرآن تحوّل من مجال المعرفة الواردة في عبارة «اقرأ» [1] إلى معنى القهر الظّاهر في السيّف [2]. ومن ثمّة قرأ القرآن قراءة سياسيّة، وفُسّر في ضوء هيمنة السّلطان. فضاعت قيم هذا الكتاب الكريم وحُجبت أفكاره ومعانيه وصار الإنسان مجرَد وسيلة لتحقيق مآرب الحكَّام بعد أنْ كان غاية من أجله نزلت الرَّسالات وسخَر الوجود. يقول علي مبروك في هذا الصَدد «ولقد ترافق هذا التَحويل، بدوره، مع تحوَلات مسار السَياسة في الإسلام، وبمعنى أنَه قد انطوى على التَحوَل من القرآن الَذي كان مركزه وقطبه الإنسان، إلى القرآن الَذي استعمره واحتكره السّلطان » [3].
وفي هذا الإطار استبدل الإقناع بواسطة الحجَة بأدوات الإكراه. ولقد سمَّيت الشَّريعة التي جاء بها الرَّسول الخاتم بالشَّريعة السَّمحاء لأنَّها تسمح للمختلفين في العقيدة بالعيش الكريم وإنْ كانوا يعيشون في ظلّها. إلَاّ أنَّ القائمين على الشَّأن الدّيني السّياسي أبوْا إلاّ أنْ يقولوا إنَّ هناك آية تُسمّى بآية السّيف. وهي ناسخة.
إنّ فهم القرآن وفق هذا المنظور ظلّ رازحاً تحت رقابة السّيف وعين السّلطة. وأكثر من ذلك أصبح القرآن أداةً يمكن أن يُكفّر بها المرء أو يُزندَق أو يُقتَل. كما ُقتل الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وسُفك دم جابر بن حيّان وكُفّر الفلاسفة وقُتل المتصوّفة والعلماء والأدباء. وكلّ ذلك يتمّ تحت الغطاء المعروف وهو المُروق عن الدّين، والإساءة إلى القرآن. وانظر إلى نهاية ابن المقفّع حين نصح السّلطان وكتب رسالة الصّحابة. لقد مُزّقت أعضاؤه عضواً بعد عضو. وكانت تُشوى ويُفرض عليه أكلها حتّى مات. وهذا القهر مناف تمام المنافاة للحرّيّة الدّينيّة والفكريّة الواردة في كتاب الله الصّريح إذ «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»[4]. والإكراه يتجلَى في المظاهر القانونيَة والإداريَة والأمنيَة والسَياسيَة والعسكريَة.
إنَّ المتأمّل في بشاعة الاستبداد، وشناعة نتائجه ينتبه إلى أنَّ السّياسة حين احتكرت الدّين وجعلته مسألة رسميَّة، أحدثت التَّماهي بين الدّين والدَّولة. ولمَّعت صورتها بأنْ جعلته دينها الرَّسمي. وهذا التَّماهي موظَّف توظيفا مرعبا لأنَّ المعارض السّياسي سيُصوَّر على أنّه خارج على الدّين ومرتدّ عنه. وقد أصدر الفقهاء السَّائرون في موكب السّياسة أنَّ المرتدَّ يُقتل وهذا حُكم لا يجد له مرتكزا في كتاب الله القائل꞉» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» [5] .
إنّ الأدلّة على النّزعة القهريّة في فهم كتاب الله وفهمه فهما رومانيَّا وتوجيه معانيه توجيها قيصريَّا أدلَّة كثيرة. ونقتصر في هذا المجال على ذكر البعض منها: لقد عمد الخليفة العبّاسيّ المنصور إلى تتبّع المعارضة الشّيعيّة. فبعث إلى محمّد النّفس الزّكيّة رسالة يفرض عليه قياس انتقال الخِلافة كمؤسّسة سياسيّة على الشّكل الذي تنتقل وفقه التّركات. وذلك حسب آيات الفرائض، باعتبار أنّ الرَّسول محمَّدا بن عبد الله قد ترك بعده عمَّه العبَّاس وابنته فاطمة. ولمّا كان العبَّاس ذكرا وفاطمة أنثى فقد صار الذّكر يحجب الأنثى في الفقه السّنّي. وصار العكس في الفقه الشّيعيّ [6] .
وهكذا يتجلّى أنّ تفسير المعاني القرآنيّة ليس بمنأى عن الأهواء السّياسيّة. وقد أقحم العمّ في منظومة الإرث وهو غير مذكور في الآيات الخاصّة بالفرائض، ممّا يدلّ على أن علم الفرائض هو صناعة بشريّة صرفة. والفرق بين آيات الفرائض وعلم الفرائض واضح لكلّ ذي لبّ.
إنَّ الوعي الدّيني، في حياتنا المعاصرة يُعاني انكماشا وغربة وهذه الحالة تعود إلى عاملين إثنين. العامل الأوّل هو التّشبّث بطبيعة الأرضيّة المعرفيّة والذّهنيّة والثّقافيّة التي أنشأها الجيل الأوّل من الأصوليّين والفقهاء والمفسرين. والعامل الثّاني هو اشتداد الصّراعات المذهبيّة بين الأحفاد بالوتيرة ذاتها التي كانت مطروحة بين الأجداد. ومن الأمثلة الدّالة على العمى المذهبي. نذكر أنّ الطّبريّ الملتصق بالمذهب الرّسميّ للدّولة العبّاسيّة، وبتوجّهاتها يتحرّج من ذكر الاسم الكامل لصاحب القراءة في الكوفة وهو عبد الله بن مسعود، فيكتفي بذكر الشّطر الأوّل من الاسم نظرا لأنّ الكوفة معقل للشّيعة والشّيعة تُعَدُّ من المعارضة والمعارضة مغضوب عليها سياسيّاً. وهذا الغضب السّياسي يغلّف بالغطاء المذهبي والعقدي [7] .
وما من شكّ في أنَّ حصر الإعجاز الكامن من كتاب الله في المستوى البلاغي إنَّما يعود إلى التَّأثيرات السَّلبيَّة الَتي ألحقتها السّياسة بالدّين. ولقد رفعت الدَّولة الأمويَّة لواء العروبة والعربيَّة. وأقحمت شرط العروبة والقرشيَّة في الخليفة. وهو تنكَّر صريح إلى مبدإ مهمّ من المبادئ الإسلاميَّة وهو أنَّ أكرم النَّاس عند الله هو الأكثر تقوى. يقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»[8] .
ويبدو أنَّ الانتقال من الاتّساع إلى الضّيق ومن الرّؤية الدّينيَّة المفتوحة إلى الرّؤية السّياسيَّة المنغلقة أمر ضارب في الزَّمن المتقدّم حتَّى على الدَّولة الأمويّة، إذْ بدتْ معالم ذلك جليّة حتَّى في ظبط المقاييس المتعلّقة بكتابة المصحف. ففي الوقت الذي أراد فيه عمر بن الخطاب أن يكتب المصحف الإمام جمع لذلك نفرا من الصَّحابة و قال꞉ «إذا اختلفتم في اللَغة فاكتبوها بلغة مضر، فإنَ القرآن قد نزل على رجل من مضر» [9] . ولمَّا جاء عثمان بن عفَان اختلف الأمر معه إذ يُروى أنَّه قال꞉«إذا اختلفتم في عربيَّة من عربيَّة القرآن، فاكتبوها بلغة قريش، فإنَّ القرآن أنزل بلسانهم» [10]. وليس خافيا أنَّ كلَّ تحوّل في الثَّقافة يُخفي وراءه تحوّلا في السّياسة. وأثر السّياسة يتجلَّى في كلّ اختيار وفي كلَ سلوك. ولا أدلَّ على ذلك من حصر كلَّ الصَّحابة المبشَّرين بالجنَّة في العنصر القرشي. ولو صحَّ هذا الأمر لاحتجَّ الأنصار وثاروا.
والحاصل من كلّ هذا هو أنّ الأذهان لم تُركَّز على أنَّ القرآن قد نحا إلى نحت أدوات جديدة في إنتاج المعنى كي تتجدّد أساليب التّعامل معه، ولا سيّما أنّنا نعيش في أرضيّة معرفيّة جديدة. وفي زمن تجدّدت فيه اساليب الفهم و النّظر إلى العالم و قضاياه. وحصر معجزة كتاب الله في البلاغة فقط، يعرّضه إلى سؤال كبير. هو أين الإعجاز حينئذ بالنّسبة إلى الذين لا يفهمون اللّسان العربيّ وقضاياه؟ ويتولد عن هذا السّؤال أمر آخر يتمثّل في احتمال أنّ غير العرب لا يشملهم الإعجاز القرآنيّ. وهم غير معنيين به. وطالما كان الخطاب القرآنيّ موجّها لجميع النّاس، فإنّ الدّارس يتوجّب عليه النّظر في امكانيّات الإعجاز في الزّمن الحاضر لعقل حاضر. أمّا اجترار مقولات الأجداد فإنّها لا تتقدّم بالوعي الدّيني قيد أنملة. وإنّما تجعلنا في أحسن الأحوال نراوح في ذات المكان الذي وقف فيه السّلف قبل سقوط بغداد في القرن السّابع للهجرة، وقبل الحروب الصليبيّة.
الخاتمة:
جنحت هذه المقالة إلى تشخيص أبرز ما يتخبّط فيه الدّرس التّفسيريّ من أعطاب نظريّة ومعايب منهجيّة لعلّ التّنبيه إليها يحيل على ضرورة التّسلّح بوعي منهجيّ جديد يجمع بين أجزاء الموضوع الواحد الموزّع على السُّوَرِ حتّى يتيح للدّارس موضوع نظر موحَّد يجعله يتدبّر موضوعا... وبهذه الطَّريقة يتَّضح أنَّ المفسّر ما عاد باستطاعته أنْ يكون مفسّرا للكتاب كلّه نظرا إلى أنّ هذا الكتاب جامع لمواضيع علميّة تفوق العدّ والحصر وتتجاوز المجهود الفرديّ في زمن تعدَّدت فيه ضروب الاختصاص، وتشعَّبت مجالات العلم والمعرفة. لذلك جاء الرّاسخون في العلم لفظا في صيغة الجمع وهم يستعينون على تدبّره باختلاف اختصاصاتهم ومعارفهم.
إنَّ كلَّ فعل متعلّق بالتَّفسير لا بدَّ له من أن يتأثَّر، إنْ قليلا وإنْ كثيرا، بالسّقف المعرفيّ السّائد والحافّ بكلّ قراءة. وهذا التَّأثّر يجعل الفعل التَّفسيريّ نمطا عابرا من أنماط انتاج المعاني والدَّلالات في التَّاريخ . وهو دليل ارتباط بواقع ثقافي محدود، له من الأجوبة قدر ما يُطرح عليه من الأسئلة. أمّا أن تؤبَّدَ قراءة واحدة لهذا النّصّ، فهو أمر لا يحتمله الوعي البشريّ المتحوّل والدّائم في تغيّره. والمنافي في ذات الوقت لفلسفة الوحي نفسه. وهو الذي يعجّ بالإشارات العديدة إلى الزَّمن وقيمته في تغيير البُنى الثَّقافيَّة والفكريَّة. ومن قبيل هذه الإشارات نذكر الفجر والضّحى واللَّيل والعصر. وقد أشار بصريح العبارة إلى أنَّ بعض المعاني الواردة في بعض الآيات لا تتحقَق ولا تستقرَّ إلَاّ في كنف الصَّيرورة الزَّمانيَّة. قال تعالى: « لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ۚ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» [11]
ومن هذا المنطلق، يلحظ الدّارس أنّه حين يقيم علاقة مع النّصّ الإلهي المطلق، فإنّه يقيمها من حيث هو الدّارس لا من حيث المعطى النّصّيّ. فالنّصّ صامت على حدّ عبارة عليّ بن أبي طالب ولكّنه ناطق بالرّجال. وهو القائل:«هذا القرآن إنّما هو خطّ مستور بين الدّفّتين لا ينطق بلسان ولا بدّ له من ترجمان وإنّما ينطق عنه الرّجال» [12]. فالنّصّ القرآنيّ يمثّل كينونة خاصّة به في ذاته، فهو موجود قد يفصح عن نفسه ضمن آيات مصداقيّة ولا يفصح بصورة جليّة عن جوانب منه في آيات مفهوميّة وهو المطلق في حدّ هذه الكينونة، ولكن فهمه بالنّسبة إلى الذّهن البشريّ يظلّ نسبيّا يتأثّر بالمعارف السّائدة والمتغيّرة من وقت إلى آخر.
الهوامش:
[1] راجع سورة العلق 96، الآية الأولى
[2] بالرَّغم من أنَّ آيات المصحف من أوَّلها إلى آخرها لا تتضمَّن لفظة السَّيف، فإنَّ المفسَّرين والفقهاء أقحموا هذه اللَّفظة في الفضاء القرآني إذ سمَّوا الآية 5 من سورة التّوبة 9 بآية السَّيف واعتبروها ناسخة للآية 124 وهي مجموع الآيات التي تدعو إلى العفو والسَّلام و السَّماحة وعلى رأس هذه الآيات «لا إكراه في الدَين» البقرة 2 الآية 256 .أورد السّيوطي أنّ ابن العربي قال: «كلّ ما في القرآن من الصّفح عن الكفّار والتّولّي والإعراض والكفّ عنهم منسوخ بآية السّيف نسخت مائة وأربع وعشرين آية » انظر السَيوطي ، الاتقان في علوم القرآن ، ج2، النوع السابع و الأربعون꞉ في ناسخه و منسوخه، ص31
[3] علي مبروك ،نصوص حول القرآن ꞉في السَعي وراء القرآن الحيَ، المركز الثَقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1 ،سنة 2015، ص ص 19-20
[4] البقرة 2، الآية 256
[5] المائدة 5، الآية 54
[6] ردّ أبو جعفر المنصور على اعتراض محمّد النّفس الزّكيّة سياسيّا ودينيّا على السّياسة العبّاسيّة بقوله: « وأمّا ما ذكرت من أنّك ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ الله جلّ ثناؤه أبى ذلك فقال « مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا « (الأحزاب33, الآية 40) ولكنّكم بنو بنته وإنّها لقرابة قريبة غير أنّها امرأة لا تحوز الميراث ولا يجوز أن تؤمَّ. فكيف تورث الإمامة من قبَلها وقد طلبها أبوك بكلّ وجه فأخرجها تخاصم على ميراثها فلم يحصل لها شيء...» ابن حمدون بن الحسن بن محمد بن عليّ، التّذكرة الحمدونيّة، تحقيق إحسان عبّاس و بكر عبّاس، ج3، دار صادر، بيروت، ط1 ،1966، ص 416
[7]انظر الطّبري في تفسيره، مج 10، ص 8385. ولم يحدّد من هو المقصود بعبد الله من جملة العبادلة: عبد الله بن مسعود أو ابن عبّاس أو عبد الله بن ذكوان أو عبد الله بن كثير، أمّا ابن حيّان فقد حدّد أنّه عبد الله بن مسعود. انظر البحر المحيط، ج8، ص393. ويبدو أنّ هذا الاقتصاد في ذكر الاسم الكامل ليس عملا مجانيّا وإنّما يُخفي موقف الطّبري من ابن مسعود.
[8] الحجرات 49، الآية 13
[9] أبو داود السجستاني، كتاب المصاحف، مؤسسة قرطبة للنشر و التوزيع، القاهرة ، د.ت، ص 11
[10] نفس المصدر، ص 19
[11] سورة الأنعام 6 ، الآية 67
|