الأولى

بقلم
فيصل العش
آفة الفساد والتّشخيص الخاطئ
 يكاد يكون الفساد والإفساد في عالمنا العربيّ أسلوب حياة وثقافة وحالة ذهنيّة لدى طوائف عديدة من النّاس باختلاف درجات وعيهم وموقعهم في المجتمع، فجميع القطاعات تقريبا قد أصابها هذا الدّاء واستفحل فيها إلى درجة اقتناع عدد كبير من المهتمّين بالشأن العربي باستحالة مقاومته والقضاء عليه، بل ذهب البعض إلى تبريره وتسويقه عبر شرعيّة غيَّرت من مفاهيمه أوعبر الإفتاء (ليس بالمفهوم الدّيني طبعا) بضرورة التأقلم معه وبالتالي الانخراط فيه بطريقة ما. 
ولو انطلقنا من تونس بوصفها أيقونة الثورات العربيّة والبلد الذي يحاول بعض المصلحين فيه الخروج به من نفق التخلّف والأزمات والسّير به في طريق انتقال ديمقراطي يؤدّي إلى نظام يحقّق للشّعب سيادته ويضمن له العيش في سلم وأمان ويسير به نحو التّنمية المرجوّة والتقدّم المأمول. لو انطلقنا من هذا البلد للاحظنا أنّ الفساد انتشر فيه انتشار النّار في الهشيم وتفشّى سرطانه في أعصاب الحياة المجتمعيّة وأصبح قوّة مزعزعة للاستقرار فيه، تُلقي بظلالها على كل المجالات والمستويات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. ففي السّابق كان بن عليّ ومجموعة محدودة من المقرّبين منه ومن أركان حكمه يحتكرون عملية الفساد، وهذا لم يكن غريبا باعتبار أنّ عدم مبالاة النظام بمصالح الشّعب كانت سمته المميّزة. لكنّ آفة الفساد تبدو اليوم منتشرةً أكثر مما كان عليه الحال في العهد السابق بالرّغم من العديد من المبادرات التي أطلقتها بعض الجمعيّات والاجراءات القانونيّة الكثيرة لمكافحة الفساد التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة منذ 2011 إلى اليوم(1). 
ولقد كَثُر الحديث حول الفساد والإفساد في جميع المجالات، وخصّصت له منابر عدّة واتخذ العديد من الأطراف السّياسيّة، سواء كانت في الحكم أو في المعارضة، من مقاومته شعارا لها وهدفا من أهدافها المعلنة دون أن تكون هناك نتائج ملموسة تذكر.. فما هي أسباب تفشّي هذه الآفة وما هي الاستراتيجيّة الأنسب لمقاومتها والقضاء عليها؟ هل يعود السّبب في انتشارها إلى غياب الثقة في كيفيّة تطبيق القوانين أو إلى طبيعة وطرق المعالجة ذاتها الناتجة عن تشخيص خاطئ للظاهرة أو فهم سطحي لها؟ مثل ذلك كالطبيب إذا أخطأ في تشخيص المرض، فلا أمل في العلاج على يديه، ولا خير في الدّواء الذي يصفه للمريض.
ولأنّ الإصلاح هو عدوّ الفساد والإفساد والمصلحون هم على الضفّة المقابلة للمفسدين، فالأحرى بنا ونحن نرفع شعار الإصلاح من خلال هذه المجلّة، أن نفتح هذا الملف ونسلّط الضّوء عليه ونبحثّ في أعماقه لعلّنا نجد إجابة ضافية شافية عن الأسئلة التي سبق طرحها والمتعلّقة بأسباب تفشّي ظاهرة الفساد والعجز المتواصل عن مقاومتها والتصدّى لها. 
 توضيح لابدّ منه
لا يعني الحديث عن تونس أنّ آفة الفساد مرتبطة بهذا البلد لاغير وأنّ أسبابها تتعلّق بطبيعة المجتمع التّونسي وإنّما اعتمدناه مثالا في بحثنا باعتبار انتمائنا إلى هذا البلد وإيماننا بأنّه - كما أضاء بنور ثورته طريق الحرّية والكرامة لبقيّة الشّعوب العربيّة - باستطاعته أن يكون قدوة في مقاومة الفساد ومعالجة آثاره المدمّرة إذا خلصت النيّة ووضعت الاستراتيجيّات المناسبة لذلك على أسس علميّة وموضوعيّة. 
إنّ داء الفساد والإفساد ليس وليد اللّحظة بل هو موغل في تاريخنا وفي تاريخ البشريّة كلّها وهو آفة مجتمعيّة عرفتها المجتمعات الانسانية منذ فجر التاريخ، ويعد الفساد ظاهرة عالميّة شديدة الانتشار، ذات جذور عميقة تأخذ أبعادا واسعة تتدخّل ‏فيها عوامل مختلفة يصعب التّمييز بينها، وهو مرض عضال تحمله ‏بنسب متفاوتة كلّ الدول والمجتمعات القويّة والضعيفة، سواء كانت غنيّة أم فقيرة وسواء كان نظامها دكتاتوريّا أو ديمقراطيّا. وحسب العديد من المراقبين والباحثين فإنّ الفساد سيكون «هو التحدّي الأهم والوريث المتوقّع ‏للإرهاب والذي ستجد الحكومات والمجتمعات نفسها في مواجهته، وفي حرب معه، ستكون ‏على الأغلب أكثر شراسة وتكلفة من مكافحة الإرهاب» (2) ‏
فقد كشف «مؤشّر مدركات الفساد»(3) الذي أصدرته منظمة الشّفافية الدّولية عن معلومات تبعث على القلق، فعلى الرّغم من المساعي المعلن عنها لمحاربة الفساد في مختلف أنحاء العالم، فإنّ جهود معظم الدّول تبقى متعثّرة. كما أنّ التّقدم الذي أحرزته عدّة بلدان في هذا المجال خلال السنوات السّت الماضية كان خجولًا، إن لم يكن معدومًا. والأدهى من ذلك أنّ التّحليل المفصّل لنتائج المؤشّر قد كشف أيضا أنّ معظم البلدان التي تتدنّى فيها مستويات حماية الصّحافة والمنظمات غير الحكومية هي التي تتصدّر أعلى معدلات الفساد! وقد تصدّرت نيوزيلاندا المؤشّر لهذه السنة بـ 89 نقطة، تلتها الدانمراك بـ 88 نقطة، بينما جاءت سوريا (14 نقطة) ثمّ جنوب السّودان (12 نقطة) وأخيرًا الصّومال (9 نقاط) في ذيل التّرتيب. ومن اللّافت أيضا في هذا التّقرير أنّ نصف الدّول العشرة الأخيرة في سلّم ترتيب المؤشّر هي دول عربيّة وهي ليبيا والسّودان واليمن وسوريا والصّومال! وقد جاءت الإمارات العربيّة(21) الأولى عربيًا تلتها قطر (29) فالسعوديّة (57) فالأردن (59) فعمان (68) ثمّ تونس في المرتبة 74 من جملة 180دولة. علما وأنّ تونس قد تقدّمت بنقطة واحدة مقارنة بمؤشر سنة 2016 وأربع نقاط كاملة مقارنة بسنة 2015. وهذا الترتيب - وإن كنّا لا نشكّك في نزاهة المنظّمة الدوليّة - يجعلنا نتساءل عن مفهوم الفساد الذي اعتمدته هذه المنظمة في تحديد مؤشّرها. 
 تعريفات محدودة وتشخيص ناقص
تتّفق الأدبيّات الأكاديميّة والمنظّمات المعنيّة بمكافحة الفساد ومنها منظمة الشّفافية الدّولية على أنّ الفساد يعني «إساءة استعمال السّلطة المُوكلة لتحقيق مكاسب خاصّة»(4)‏ ‏ويتبنّى القانون التونسي أيضا هذا التعريف من خلال المادّة الثانية من المرسوم عدد 10 لسنة 2011 حيث  يُحدّد الفساد بأنّه «سوء استخدام السّلطة أو النّفوذ أو الوظيفة للحصول على منفعة شخصيّة»(5)‏.وفي هذه الحالة يشمل الفساد كل جرائم الرّشوة بجميع أشكالها في القطاعين العام والخاصّ، والاختلاس والتّبذير والغشّ، والاستيلاء على الأموال العموميّة، وسوء استخدام السّلطة، وغسل الأموال.
والملاحظ أنّ هذه التّعريفات محدودة، لأنّها حصرت مفهوم الفساد في الجانب المادّي دون غيره (التّورّط في تجاوزات ماليّة، والتّصرف في المال العام بطريقة غير قانونيّة).  صحيح أنّ الفساد في أوله، وفي أحد أهمّ أبعاده، هو مالي بالأساس والاهتمام بمقاومته أمر مفروغ منه لما يلحقه من ضرر بالبلاد وثروتها وبميزانيّة الدّولة ومداخيلها، ومن ثمّ على المجتمع بأكمله، وصحيح أنّ الدّولة قد تعجز على القيام بمهامها والإيفاء بتعهداتها الدّاخلية والخارجيّة نتيجة هذا الفساد المالي، لكنّ الفساد ليس مالياً فقط، فهناك مظاهر وأبعاد أخرى للفساد قد تكون أكثر خطورة.
تهميش المبدعين وعدم الاستثمار في العقول المنتجة للعلم والفكر 
من بين مظاهر الفساد التي لها تأثير خطير على الدّولة وعلى المجتمع بأسره، إهدار الطّاقات وعدم الاستثمار في العقول المنتجة للعلم والفكر والإبداع. الجميع يعلم أنّ البلاد العربيّة تزخر بالطّاقات الشّابة المبدعة في كلّ المجالات وأنّ الجامعات تشهد كلّ سنة تخرّج عدد كبير من المهندسيين والمختصّين في مختلف المجالات العلميّة والأدبيّة، لكنّ المتميّزين من هؤلاء لا يجدون التأطير اللاّزم للاستفادة من طاقاتهم حسب اختصاصهم ويتمّ تجاهلهم ممّا يدفعهم دفعا إمّا إلى قبول أبسط الوظائف لضمان لقمة العيش أو مغادرة البلاد في اتجاه أوروبّا وأمريكا وكندا أين يجدون القبول الحسن والاهتمام المناسب، فيبدعون ويخترعون ويساهمون في مزيد من رقّي الآخرين. أليس لدينا في هذه الحالة فساد ذو وجهين، الأول إهدار للثّروة الماليّة بما أنّ الدولة أنفقت عشرات الملايين على هؤلاء خلال فترة دراستهم انطلاقا من المرحلة الابتدائيّة إلى غاية تخرّجهم ثمّ قدّمتهم بدون مقابل إلى دول أخرى، والثاني إهدار للثّروة الرّمزيّة باعتبار أنّ عدم الاهتمام بهؤلاء وعدم إحتضانهم والمراهنة عليهم في مشاريع التّنمية حرمان لبلدهم من الطاقات اللاّزمة للخروج من نفق التخلّف والتّبعيّة، فعدم الاستفادة الكاملة من المواهب والعقول والكفاءات الجامعيّة والمبدعين هو تفويت فرص تنمية فكرية وعلمية كبيرة على بلداننا.
يظهر هذا النوع من الفساد أيضا في تجميد عدد لابأس به من الطّاقات المبدعة والكفاءات داخل أسوار المؤسّسات العموميّة وهو ما نطلق عليه في تونس «الوضع في الثّلاجة». ويتمثّل هذا التّجميد في عدم تكليف هؤلاء بأيّ نشاط أو بحث إمّا نتيجة عدم توافق القائمين على تلك المؤسّسات مع هذه الطّاقات أو خوفا من نتائج بحوثهم التي قد لا تخدم مصلحة الجهات النّافذة في المؤسّسة أو الوزارة التي ترجع إليها بالنّظر. وهذا أيضا فساد ماليّ ومعرفيّ في الوقت نفسه، إذ يتقاضى هؤلاء أجورا دون القيام بأيّ جهد أو تقديم مقابل من خبرتهم ومعارفهم لفائدة المؤسّسة، ومعرفيّ لأنّ المؤسّسات ومن ورائها الدّولة لا تستفيد إطلاقا من خبرة هؤلاء ومعارفهم وذكائهم في إدارة الملفّات الصّعبة التي تستعين الدّولة في بعض الأحيان بخبراء دوليّين من الخارج لدراستها وتقديم الحلول.   
التربية والتعليم 
من مظاهر الفساد الخطيرة التي من المفروض الاهتمام بها التلاعب بالمنظومة التّربويّة للبلاد بمعنى الارتجال في وضع البرامج الدّراسيّة ومحتوياتها واختيار القائمين على تنفيذها بطريقة غير مدروسة وهو ما يعني الاستهتار بعقول أجيال كاملة من أبناء الوطن وهذا ما نلمسه اليوم في تونس وفي دول عربيّة أخرى. حيث يختلط السّياسي بالايديولوجي في اختيار الأطراف المسؤولة على قطاع التّربية والتّعليم، المكلّفة بوضع البرامج والخطط، ويغيب الاهتمام الضّروري بالمعلّم والأستاذ بصفتهم مكلّفين ميدانيّا بالتربية والتعليم. أليس من الفساد تبنّي منظومة تربويّة تنتج أجيالا من التّلاميذ محدودي المدارك والمعارف؟
.... ومظاهر أخرى
والفساد الثّقافي هو أحد مظاهر الفساد الهدّامة للمجتمعات، فالسّعي إلى تغيير ثقافة المجتمع وتبديلها بثقافة مستوردة لا تتماشى مع هويّته بل معادية لها، هو فساد تشترك فيه مؤسسات الدّولة والنّخب المعادية للهويّة. فأمّا فساد مؤسّسات الدّولة فيتمثّل في الدّعم المالي والإعلامي الذي تقدّمه لمشاريع بعينها من دون أن تتمتّع مشاريع أخرى بنفس الدّعم، وأمّا فساد النّخب التي تعمل على مشاريع فنّية وثقافيّة معاديّة لهويّة الشّعب فيتمثّل في خلخلة التّوازن الاجتماعي وضرب القيم الأخلاقيّة التي تحكمه، وهذا لعمري فساد ما بعده فساد. 
ومن مظاهر الفساد الأخرى الفساد الدّيني وهو أيضا فساد تساهم فيه مؤسّسات الدّولة من جهة وجماعات انحرفت بالدّين عن غايته الإصلاحيّة النبيلة من جهة أخرى. فأمّا فساد مؤسّسات الدّولة فتتمثّل في هيمنتها على المساجد وتقديمها خطابا لا فائدة ترجى منه، لا علاقة له بهموم النّاس ومشاغلهم الأمر الذي يدفعهم إلى البحث عن مضمون ديني آخر، فيكونون صيدا سهلا للجماعات الدّينيّة المتطرّفة التي يتمثّل فسادها في التّسويق لفكر بعيد عن جوهر الإسلام يدعو إلى الموت أكثر من دعوته للحياة إلى درجة تحويله إلى عنوان للإرهاب والدّمار.
وننهي هذا العرض المقتضب لمظاهر الفساد المتعدّدة بمظهر لايقلق الجميع بالرغم من خطورته ونتائجه المدمّرة وهو إضاعة الوقت، أو ما يسمّى عندنا بـ «قتل الوقت»، فالوقت المخصّص للعمل لا يقارن بالوقت المخصّص لإضاعة الوقت، وكأنّنا في لحظة استرخاء حضاري، والحال أنّ المجتمعات العربيّة تعيش أسوأ لحظة تاريخيّة حضاريّة وفي أمسّ الحاجة إلى جميع مكوّناتها للاستفادة من كلّ دقيقة في العمل والاجتهاد.
الخلاصة
هذه بعض أمثلة من مظاهر الفساد الممكنة والتي تكون في بعض الأحيان أخطر بكثير من الفساد المالي، ولهذا فمن المهمّ جدّا أن تكون لدينا رؤية واسعة وعميقة لمفهوم الفساد وعدم الاقتصار على المعنى المالي فقط. فالفساد عمومًا ظاهرة مركبة ومعقّدة، تشمل الاختلالات التي تمسّ الجانب السّياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي (الأخلاقي). وفي تقديري، فإنّ النجاح في بلورة هذه الرؤية لمفهوم الفساد يجب أن يمرّ عبر الانطلاق من المبدأ الأساسي الذي يعتبر أن الإنسان في مجتمعاتنا هو الثروة الحقيقية، وأي ممارسات تنتهي إلى هدر طاقاته أو حرمانه من حقوقه المادّية والمعنويّة هي الفساد بعينه. ولانّ القرآن جاء هاديا للإنسان ومساعدا له في سعيه للظّفر بالدّنيا والآخرة، فالأولى أن ننطلق منه، نستنطق آياته ونلتمس منه معرفة مفهوم الفساد والمفسدين ومعرفة المنهج الرّباني في معالجة هذه الآفة وكيف أرشد الإنسان ليكون مصلحا عدوّا للمفسدين «... وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» (6)‏
هذا ما سنحاول الحديث عنه والتطرق إليه في مقال آخر إن شاء الله.
  الهوامش
(1)  منذ الأيام الأولى بعد سقوط بن علي اعتبرت معضلة الفساد من أهمّ القضايا التي يتعيّن معالجتها خلال مرحلة مابعد الثورة. ففي 15 جانفي 2011، وبعد يوم واحد فقط من هروب بن علي، شكّلت الحكومة المؤقتة لجنة تقصّي الحقائق عن الفساد والرّشوة برئاسة عبد الفتاح عمر. ومنذ ذلك الحين، تمّ استحداث العديد من الآليات القضائية أو الرسمية.
(2) ابراهيم غرابية «الفساد والتحدي القادم لا محالة» مقال متاح على موقع «‏islamtoday.net‏»
معجم الغنيّ - موقع «www.almaany.com»
(3)  مؤشّر مدركات الفساد لسنة 2017 صدر في فيفري 2018 وهو مؤشرأطلقته منظّمة الشفافيّة الدوليّة سنة 1995 ليصبح أحد أهم إصداراتها وأبرز المؤشّرات العالميّة لتقييم انتشار الفساد في القطاع العام. 
(4) منظمة الشفافية الدولية – تقرير الفساد العالمي لعام 2007 .‏
(5) المادّة الثانية من المرسوم عدد 10 لسنة 2011
(6) سورة الأعراف -الآية 142.