وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
معالجة أزمة الهويّة ، شرط للانفراج الثقافي
 ترتبط الهويّة والخصوصيّة الثقافيّة بعلاقة ديالكتيّة تتجاوز مجرّد علاقة النّسبي بالكلّي. ذلك أنّ الإشارة إلى الخصوصيّة ‏الثقافيّة تتضمّن تسليما بوجود هويّة محدّدة سواء كانت على أساس المكان أو العرق أو الطّائفة أو الدّيانة أو اللّغة ‏وغيرها(1)، من هنا فإنّ الهويّة الثّقافيّة لمجتمعٍ ما تعتبر القدر الثابت والجوهري والمشترك من الميزات والسّمات العامّة ‏التي تميّز كلّ حضارةٍ أو مجتمعٍ عن الآخر.‏
كلّ فردٍ يستمدّ إحساسه بالانتماء والهويّة، ويشعر بأنّه ليس مجرّد فكرةً نكرة، وإنّما هو شريك في مجموعةٍ كبيرة من ‏الأفراد في عددٍ من المعطيات والأهداف، إضافةً لانتمائه إلى ثقافةٍ مركّبة ( تمتزج فيها الحضارات المتعاقبة على البلاد)  ‏وفي حالة انعدام هذا الشّعور بالانتماء من قبل الفرد نتيجة عددٍ من العوامل سواء كانت داخليّة أو خارجيّة، فإنّه ينشأ في ‏أعماقه ما يطلق عليه اسم أزمة الهويّة والتي ينتج عنها أزمة وعي تؤدي إلى ضياع تلك الهويّة بشكلٍ نهائي معلنةً نهاية ‏وجوده. ‏
تظهر الهويّة على أنّها تتغذّى بالتاريخ لتشكل بعدها استجابةً مرنة متحوّلة مع تحوّل الأوضاع التاريخيّة والاجتماعيّة، ‏فالهويّة نسبيّة متغيرة مع حركة التّاريخ والانعطافات التي تتعرّض لها الدّولة ممّا جعل المفكّر المغربي محمد عابد ‏الجابري يؤكّد على أنّ الهويّة ليست أمرا سرمديّا أو ثابتا بل هي مرتبطة بكافة المؤثّرات الخارجيّة ( سواء كانت علميّة، ‏ثقافيّة، توازنات دوليّة ..)(2)‏
في هذا السياق، تأتي الثّورة كعامل أساسي من عوامل حركة التّاريخ التي تؤدّي بالضّرورة إلى إعادة تشكيل هويّة الشّعب ‏بما يتوافق ورؤية النّخب الفكريّة التي تأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة الشّعب الثقافية والانفتاح على الكونيّة القيميّة التي  ‏تحيل إلى القواسم المشتركة بين البشر على اختلافهم العرقي والثقافي فتكون بذلك هويّة الشّعب متأصّلة في القدم ومعتزّة ‏بالتّاريخ ومنفتحة على الحداثة ومطوّرة للمستقبل. ‏
كانت الثّورة، التي لا تكتفي بإسقاط النّظام السّياسي فقط بل تسقط النّظام الإجتماعي والثّقافي السّائد في المجتمع وتعيد ‏تشكيله بما يتوافق مع رؤية النّخبة الفكريّة والسّياسية من خلال المشاحنات المتداولة والمتتالية، سببا أساسيّا في انبثاق ‏النّقاش حول قيم الشّعب ومرتكزاته ولو أنّ النّخب اعتمدت فكر الحركة الإصلاحيّة وجعلتها مرجعيّة الشّعب وهويته لربحت ‏تونس الكثير من الوقت المهدور في الانتقال الدّيمقراطي. ‏
وقد اكتشف طغيان التّيار العلماني، الدّاعي للتّحديث على الطّريقة الغربيّة ونفي كلّ رواسب الحضارة العربية الشّرقية داخل ‏الذّات العربية، من خلال تحكّمه في أجهزة الدّولة كالقضاء والإدارة والإعلام حيث جعل من هذه المنصّات أداة لضرب ‏التّيارات الأخرى لا أن يتمّ بناء مشروع فكري إصلاحي مشترك بين كافة التّيارات المختلفة. وتأكّد أنّه لا يمكن للمجتمع ‏العربي أن يستأنف دوره الحضاري بدون برنامج ثقافي مشترك واضح المعالم بين النّخب الفكريّة والسّياسيّة.‏
يأتي حديثنا عن أزمة الهويّة بعد أن أقدمت لجنة متكونة من تسعة رهط (3)على تقديم ‏تقرير حول الحرّيات الفرديّة والمساواة وهو عبارة عن مشروع لمجتمع ذي أساسين: المساواة المطلقة والآنية بين ‏الرّجل والمرأة  والحرّية المطلقة والتّامة للأفراد في جميع المجالات.
يستند التّقرير إلى التّحولات الهامّة التي حصلت منذ إصدار مجلة الأحوال الشّخصية في الوضعيّة القانونيّة والأدوار التي ‏يمكن للمرأة التّونسية الرّائدة أن تلعبها في المجتمع المتحضّر في القرن الواحد والعشرين، وإن كان يبالغ في تقدير مدى ‏غلبة الأسرة النوويّة ( الفرديّة )على حساب العائلة الموسّعة (الجماعيّة ) ومدى بروز الفرد المستقل عن الجماعة ‏التّقليدية بما يتيح إعادة بناء نمط مجتمعي قائم على الفرديّة وكسر مفهوم الجماعة (3).‏
‎ ‎يدافع التّقرير عن تمكين المرأة ومساواتها بالرّجل ودعم مكانتها داخل العائلة، وهو هدف لا يمكن لكل تونسي مستنير إلاّ ‏أن يتبنّاه. ولكن تبقى مطروحة كيفيّة تجسيم هذه الغاية المشروعة مع الحفاظ على تماسك المجتمع وتوازنه وجعله ‏يقبل بالتّغيير مع الإطمئنان على هويته وثوابته. وهنا يكمن الإشكال.‏
‎فعلى سبيل المثال، فإنّ التّقرير يأخذ بالإعتبار دور العوامل الإقتصاديّة والإجتماعيّة متمثلة في تنامي دور المرأة في ‏الإنفاق على العائلة وإرتفاع مستواها التّعليمي، ولكنه تجاهل وزن ودور الإنتماء الدّيني والموروث الثّقافي والأخلاقي. ‏هو يبحث لامحالة عن شرعيّة لمقاربته ومقترحاته في رؤية دينيّة مقاصديّة، لكن قارئه يكتشف أنّ المحتوى الأساسي ‏لتأويله المقاصدي عبارة عن قيم تعتبرها النّخب الحداثيّة عموما ذات طابع كوني.‏
إذ يذهب المتطرّفون في هذا المنحى، ومنهم أبرز عناصر اللّجنة التي وضعت التّقرير إلى إعتبار منظومة الحرّيات الفرديّة ‏والمساواة كما تجسّدها المواثيق الدّوليّة أسمى وأعلى من أيّ مرجعيّة دستوريّة وقانونيّة وطنيّة. هو تعسّف يتناسى كون ‏هذه القيم نتاج التّطور التّاريخي للغرب وثقافته، وأنّ من حقّ البلدان والمجالات الحضارية الأخرى أن توفق بينها وبين ما ‏تعتبره ثوابت وخصوصيات ثقافية ودينية.‏‎ ‎
إنّ المقترحات التي تتميّز بتغيير جذري في نمط عيش معيّن لا ينبغي لها أن تناقش وراء جدران البرلمان لكونه صاحب ‏الشّرعيّة، بل وجب رفع الأمر لمن يعطي الشّرعيّة نفسه، فهو الذي يقرّر إن كان يريد تغيير نمط عيشه أم لا، فمن ‏النّاحية القانونية لا يمكن لا لرئيس الدّولة ولا للجنة الرّهط التّسعة أن يلزموا شعبا بأكمله على اتباع قانون لا يتماشى ‏ومرجعياته الفكريّة والدّينية وثقافته.‏
الأمر الذي يطرح موضوع المحكمة الدّستورية التي ترفض بعض النّقاط الجوهرية في تقرير اللّجنة (مشروع القانون ‏المستقبلي) أمّا الحلّ العملي الدّيمقراطي فلن يقبل به أعضاء اللّجنة التي تدّعي الحداثة والقيم الكونية، لا لشيء ‏إلاّ لأنّهم يدركون أنّه لا قيمة لهم في سوق الصّناديق الانتخابيّة فهم أقلّية الأقليّة وهو مشروع يخلّ بالنّظامين السّياسي ‏والقانوني وحتّى بالنّظامين الاقتصادي الأسري المباشر والتّعاقدي.‏
من الجانب السياسيّ؛ فإنّ وظيفة رئيس الدولة هي قبل كلّ شيء، وبالنّص الدّستوري، الحرص على حفظ النّظام القانوني بتوسّط ‏الرّقابة الدّستورية التي يمكن أن يدعوها لذلك (المحكمة عند إيجادها) وحفظ النّظام السّياسي بالرّقابة السّياسية.. والغريب في الأمر ‏أنّ هذا التقرير قُدّم بوصفه مبادرة من رئيس الدولة، هادفة لتحقيق التّناسق التّشريعي مع مبدأي المساواة والحرّية ‏الواردين في الدّستور الحالي، وفي نفس الوقت، مواصلة جهد الإصلاح التّشريعي البورقيبي الذي لو أنّ بورقيبة نفسه ما ‏يزال حيّا لتبرأ من هذا التقرير وذلك لمألاته السّلبية على المجتمع التونسي.‏
أما خيانة الأمانة القانونيّة، فلا تحتاج للتّدليل، لأنّ مجرد قفزه على البند الأول من الدستور كاف، فضلا عن التوطئة التي تعتبر أحد عناصره التّشريعية. ومعلوم أنّ اللإصلاح القانوني -التّشريعي-يعتبر من الضّرورات الدّائمة في كلّ ‏المجتمعات الحيّة، إلا أنّ التقرير المقدّم لا يمتّ بالإصلاح القانوني في شيء ذلك أنّ مرجعيته لا تمثل أغلبية الشّعب بل ‏تجنح بصفة واضحة إلى الأقليّة .(4)‏
أمّا من الجانب الاقتصادي الأسري؛ فإن توسيع التّزاوج في هذه الحالة سيتوقّف، إذا كانت الأسرة المالكة ستصبح متساوية مع أسرة ‏النّسيب الذي سيدخل في الشّراكة ندّا وليس بسهم لا يلغي أولويّة الأسرة المالكة التي منها البنت والتّركة. ‎ومن ثمّ، فما ‏سيحصل حتما هو أحد أمرين؛ ‏‎ ‎إمّا مضاعفة العنوسة لئلاّ تتفتّت الملكيّة‎ ‎أو تفتّت الشّركات الأسريّة، لأنّ الصّهر الذي سيصبح ‏مساويا لصهره في رأس المال – في مثال أخ وأخت ورثا أبا – يفضل أن يشارك أخوته بدل مشاركة صهره، فينفرط عقد ‏الأسرة لأنّ زوجته تريد العكس وتزداد الخلافات‎.‎‏(5)‏
عموما ، من الضروري أن ندرك ما مقصد رئيس الدولة من إثارة موضوع كهذا يعد من ثوابت الدين أن يجعله من ‏المواضيع المثارة في وقت عصيب تمر به البلاد التونسية فالكل يعلم أن تونس تعاني من أزمة اقتصادية خانقة حيث بلغت ‏نسبة المديونية إلى الـ 70 في المائة وعديد الإحصائيات التي تنبئ عن خطر يتهدد تونس في المجال الاقتصادي ‏
لذلك يقول نعوم تشومسكي : «استراتيجية الإلهاء هي عنصر أساسي في التحكم بالمجتمعات، تتمثل في تحويل انتباه الرأي ‏العام عن المشاكل الهامة والتغييرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، يتمّ ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات ‏والمعلومات التافهة». ‏
كشفت لنا الثّورة عقم النّخب الفكرية عن إدراك اللّحظة التاريخية مما أدى إلى تجاوز الشباب الثائر هذه النخبة المتكلّسة ‏برواسب الماضي وأصنام الأفكار والإيديولوجيات وقام بثورته لنيل حريته المكدّسة للثروة المادية (اقتصاد) والرمزية ‏‏(الفن) أما اليوم فالرهان الحضاري لدى النخب يتمثل في تحديد هوية للشعب مما جعل جدلية الأصالة والمعاصرة تطفح على ‏السطح كاشفة بذلك حمق النخب وعدم فهمها لدرس الثورة.‏
الهوامش
‏(1) مسألة تغيير الوعي في الفكر الإسلامي المعاصر والراهن، عبد الباسط الغابري صفحة 21 ‏
‏(2) موضوع، موقع إلكتروني، مفهوم الهوية‏
‏(3) ليس من باب التّجني أو القدح فيهم بل من باب ‏التّطاول على من لا يمتلكون في ما يخوضون فيه الكفاءة اللاّزمة التي تمكّنهم من البحث في مجالات معقّدة. 
‏(4) مفهوم الجماعة؛ وحدة اجتماعيّة تتكوّن من مجموعة من الأفراد (اثنين فما فوق) يربط بينهم تفاعل اجتماعي متبادل، وعلاقات صريحة، ‏بحيث يتحدّد فيها دور الأفراد، وتحكمها مجموعة من المعايير، والقيم الخاصّة التي تحدّد سلوك أفرادها، سعياً لتحقيق هدف مشترك، وبصورة ‏يكون فيها وجود الأفراد مشبعاً لبعض حاجات كلّ منهم.‏‎ 
‏(5) مبادرة الرئيس تخلّ بالنّظامين القانوني والسّياسي، أبو يعرب المرزوقي ‏
‏(6) مبادرة الرئيس تخلّ بالنظامين الإقتصادي الأسري المباشر والتّعاقدي، أبو يعرب المرزوقي 
‏https://abouyaarebmarzouki.wordpress.com/‎