قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة إبراهيم عليه السلام الحلقة الرابعة
 مشاهد الخلق العظيم
يمكن لك أن تتربع فوق عرش الشجاعة والكرم والعلم وغير ذلك مما تهفو إليه النفوس والمسافة بينك وبين ذلك العرش هي مسافة ‏البلاء والصبر فمن طلب العلا سهر الليالي ولن يطعم إمرؤ الشّهد حتى يذوق مرارة العلقم. ولكن ذلك العرش الذي تعتليه قد يكون ‏عليك نكبة ومحنة قاسية فيقطر دماء ودموعا لا ماء زلالا وذلك بسبب ما تحيط به نفسك من خلق سيئ خبيث. فليس كل من تربع فوق ‏تلك العروش جاد بشهامة فاءت إليه بأفئدة الناس. 
الخلق العظيم الطيب إذن هو مقياس الحياة ومعيار النجاح ولذلك قال عليه الصلاة ‏والسلام «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب» [1]. فمن ملك نفسه عند الغضب أن تجور وعند الفرح أن تبطر ‏فهو المتربع حقا فوق عروش الشجاعة والكرم والعلم وغير ذلك. أما مجرد الظفر فتحسنه السباع والكواسر كذلك.
خلق الكرم وعادة السخاء
دخل عليه الملائكة في صورة رجال وبعد التّحية المتبادلة بين الضّيف وصاحب البيت «فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» [2]. ولم يتردّد ‏في إكرام ضيوفه رغم أنّهم عنده «قوم منكرون» أي لم يألف حضورهم ولا يوحي شيء بأنّهم من أهل هذه البلاد أو التي تجاورها. 
لم ‏يتردّد في نحر عجل سمين ـ ربّما يكون هو رأسماله الوحيد الذي يقاوم به الفقر والحاجة ـ ولم يتردّد في أن يقدّمه إليهم حنيذا أي مشويّا ‏جاهزا للأكل سائغا مريئا. وبعد ما فعل كلّ ذلك إكتشف أنّهم لا يأكلون وهم على صورة آدميين مثله وعندها أخبروه بهويتهم ‏وبرسالتهم. 
من أكثر الأفكار صحّة وغزارة هي أنّ الرّسالة الإسلاميّة نزلت على العرب والرّوم والفرس من حولهم أهل تمدّن ‏وتحضّر وترق ورياش وديباج وأرائك وما كان ذلك سوى لأنّ العرب أهل كرم فطري جبلّي لم تلوثه تكلفات المدنيّة رغم ما في الكرم ‏العربي في تلك الأيام من دسمات كبر وتعال ولكنّها قابلة للمعالجة بسبب جبلّتها الفطريّة، فكان ذلك مناسبا ليحتضن الإسلام ـ دين الكرم ‏والفطريّة ـ رجال يتنافسون في إقراء الضيف تنافسهم على حماية أعراضهم.
الإسلام لا بدّ له من رجال يكون خلق الكرم فيهم سجيّا ‏لا كلفة فيه، أمّا داء الرّياء فله دواء. الإسلام دين لا يحتضنه الذين يضنون بعفو أموالهم عن المحتاجين لأنّه دين يحمل تكاليف البذل ‏والعطاء والإيثار. ألا ترى أنّ النّبي الكريم عليه الصّلاة والسّلام ظلّ يثني على رمز السّخاء في العرب ـ حاتم الطائي ـ ومن ذلك أنّه ‏أضاف إبنه عديّ المتنصر إلى بيته وأكرمه وحاوره حول النّصرانية؟
خلق التّدين الفطري السّليق
في المشهد ذاته يروي لنا القرآن الكريم في سورة «هود» المكية أنّ إمرأة إبراهيم «ضحكت» وكانت قائمة إذ كشف الملائكة ـ ضيوفها ‏وضيوف زوجها ـ عن هويتهم وعن رسالتهم وهي إهلاك قوم لوط. 
ضحكت ضحكا وليس تبسّما فحسب وهي بحضرة ضيوف رجال ‏منكرين، لا عهد لهذا البيت بهم. لا علينا في النّبش في سبب ضحكها إذ ربّما يكون بسبب تبشيرها بالولد وهي عجوز وبعلها شيخ كما ‏ذكرت هي أو بسبب آخر. أليس التّدين عندنا نحن اليوم ـ وفي البيئات البدويّة التي تتديّن بالعادة والعرف قبل تديّنها بتعليمات الوحي ـ ‏ينكر على إمرأة حضورها مجلس ضيوف غرباء وهم رجال؟ فكيف إذا ضحكت بحضرتهم وزوجها حاضر؟ زوج إبراهيم لم تقصر ‏حضورها على الضّحك والشّهود بل ظلّت تجادل الملائكة بعدما كشفت هويتهم قائلة لهم «قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ » [3]. أي تدين هذا؟ حضور في مجالس الرّجال الضّيوف الغرباء مع بعلها سواء بسواء وضحك له صوت وهيئة وبعد ‏ذلك كلّه حوار مع الملائكة بأسلوب إستنكاري؟ هل أنكر عليها الوحي الذي نقل إلينا ذلك ردّة فعلها؟ أبدا. وهل أنكر عليها بعلها ذلك ؟ أبدا. ‏تديّن من يا ترى هو الأنسب ؟ تديّن البيت الإبراهيمي الذي تربّع صاحبه فوق عرش الخلّة الرّحمانيّة أم تديّننا نحن؟
محترفو التمحّل ‏البليد سيهرعون إلى القول بأنّ هذا شرع من قبلنا. وهل تجد في شرعنا نحن ـ على فرض أنّها شرائع وليس شريعة واحدة ذات جذر ‏خلقي واحد ـ ما يمنع المرأة من حضور هذه المجالس وهي ربّة البيت الذي ظلّ القرآن الكريم ينسبه إليها هي تحديدا في مواضع ‏كثيرة؟ وهل تجد ما يمنع ضحكها؟ وإذا وجدت كل ذلك تمحّلا كاذبا يضرب الشّريعة بعضها ببعض، فأنّى لك أن تتمحّل في أنّ إمرأة ‏تجادل الملائكة؟ هو خلق التديّن الفطري السّليق الذي يأبى التكلّف والتصنّع والكذب بإسم التّقوى التي حدّد عليه الصّلاة والسلام ـ ‏صاحبها الأوّل ـ مكانها : القلب
خلق الرحمة بالمجرم
البيت الإبراهيمي ـ بيت خليل الرّحمان ـ بيت مجادل لا يقبل أيّ شيء إلاّ بعد فهم وإقتناع حتى لو كان ذلك الشّيء مأتاه من عند الله ‏نفسه سبحانه. خليل الرّحمان يجادل الرّحمان. عجب عجاب في التديّن النّبوي نحن عنه غافلون ومتكبّرون، فإذا إكتشفناه تمحّلنا حتّى ‏نحفظ لأنفسنا حدّا من الكبرياء.
في السّياق ذاته في سورة هود قال سبحانه عن خليله «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ» [4]. كانت قبل قليل إمرأته تحضر المشهد وتضحك وتجادل الملائكة وبعد ذلك ينخرط بعلها نفسه في حركة المجادلة ‏للملائكة ولكن في موضوع آخر هو موضوع المهمّة التي لأجلها جاؤوا. أي إهلاك قوم لوط بسبب عدوانهم على الفطرة وليس على ‏الدّين. العدوان على الفطرة البشريّة من خلال تفشّي ظواهر الشّذوذ الجنسي اليوم ـ إقتباسا غبيّا من قوم لوط ـ هو عدوان مضاعف لأنّ ‏الفطرة أعلى من الدّين فهو الذي عليها يستند وبها يكتسب مشروعيته وليس العكس. ما إن ذهبت حالة الرّوع عن إبراهيم في إثر ‏إعتقاده في البداية أنّ ضيفه عابر سبيل ثم إكتشف أنّه ملك منزّل حتى إنخرط هو نفسه في حركة الجدال. كان يجادل الملائكة ولكن ‏التّعبير القرآني نسب جداله في طرفه الثاني إلى الله سبحانه فقال «يجادلنا» أي يجادلنا نحن رب العالمين والأمر معلوم لأنّه هو نفسه ‏من أمر الملائكة بعقاب قوم لوط ولكن نسب المجادلة إليه ليخبرنا أنّ الجدال حتّى مع الله سبحانه ـ ومن لدن خليل الرّحمان نفسه ـ عندما ‏يكون صادرا عن خلق طيب عظيم باعثه الرّحمة بأصحاب جريمة الشّذوذ الجنسي فهو عمل محمود ولم ينكر عليه سبحانه جداله إياه ‏وإقتصر على إخبارنا به ولو كان الفعل منكورا ـ سيّما أنّ صاحبه خليله ـ لما تردّد الوحي في التّعقيب بفاصلة تهديدية مثل قوله «عليم ‏خبير مثلا» بل عقب بفاصلة تزيدنا علما بأنّ الله راض عن ذلك الخلق الذي ظاهره الجدال وباطنه الرّحمة وحبّ المعرفة فقال سبحانه ‏‏«إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ»[5]. وهي ـ على ما أظن ـ الفاصلة الوحيدة التي جمعت خلال الرّحمة واللّطف وخلق الحلم في الخليل ‏إبراهيم. فهو حليم بلام التّأكيد وهو أواه وهو منيب. كل ذلك وهو يجادل الرّحمان سبحانه. 
دعنا نخوض في موضوع الجدال. موضوع ‏الجدال الإبراهيمي هو أنّ إبراهيم عليه السّلام إذ علم أنّ قوم إبن أخيه ـ لوط ـ مهدّدون بعد دقائق بالعقاب الإلهي الذي لا يذر ظلّ يحاول ‏إثناء الملائكة عن مهمّتهم وهو يعتذر عن أولئك المجرمين. وأيّ جريمة أشدّ في الميزان الفطري الإنساني ـ وليس الدّيني بالمقاوم ‏الأوّل إلاّ بمقام فرعي لا أصلي ـ من أن يأتي الفحلُ الفحلَ متعة جنسيّة أو أن تأتي المرأةُ المرأةَ بمثل ذلك وإن كان الشذوذ الجنسي ‏القديم ـ قوم لوط ـ لم يخبرنا أنّه تجاوز المجال الذّكوري ولم نعلم أنّ النّساء يستمتعن بعضهن ببعض بما يفيد أنّ الشّذوذ النّسوي ـ ‏السّحاق المعاصر الذي لنا فيه أدب وتراث وصوت وحركة وتجربة وحماية ـ لم يكن قد حلّ بهم. السّؤال هو : أنّى للخليل ـ وهو من هو ‏ـ أن يعتذر عن هؤلاء المجرمين الشّذاذ الذين لم يقصروا أنفسهم على عصيان نبيهم لوط بل جاوزوا كلّ المدى إذ يأتون الرّجال شهوة ‏من دون النّساء؟ هل هذا نبيّ رسول صديق خليل؟ الحقيقة إمّا أن نراجع نحن جهازنا العقلي وإمّا أن نتّهم الخليل بغير ما نعلم عنه. أمّا ‏الجمع بين الإنتساب إليه وفي الآن نفسه تفهم هذه الجرعات الرّحمانية التي جعلت منه إنسانا يتعاطف مع مجرمي الشّذوذ الجنسي فهو ‏جمع لا يوحي بأنّنا نفكّر فيما نعتقد وما نؤمن إنّما هي العادات والتّقاليد والأعراف نتبعها دون وعي.
لا أظن أنّ الذي يسأل نفسه ‏متفكّرا متدبّرا جامعا بين الأمرين ينتهي إلى رسالة أخرى عدا أنّ الرّحمة الإبراهيميّة ـ وهو خليل الرّحمان فلا بدّ أن يكون له منه ‏سبب من الرّحمة ـ أشفقت على هؤلاء المجرمين من أهل الشّذوذ لأنّها مدركة لحقيقة العقاب الإلهي ولمعنى سوء الخاتمة ولقيمة العدوان ‏على الفطرة وأنّ فرصة أخرى لهؤلاء ـ مهما بلغ شذوذهم ـ ممكنة لعلّهم يتوبون أو يفيئون ويؤوبون. مثل هذا التّفكير ما حظّنا نحن ‏اليوم منه؟ أليس هذا تفكير شاذ ـ شذوذ المتعة الجنسيّة الشّاذة نفسها ـ عن مجتمع المتديّنين. ألا ترى أنّه كلما كان المرء متديّنا أي ‏بالظّاهر ـ أمّا الباطن فلا سلطان لنا عليه ـ غلبت عليه الشّقوة والفظاظة والغلظة والجفاء والقسوة والتجهّم والإكفهرار في وجوه ‏العصاة؟ خلق من إلى الدّين أقرب ؟ خلقنا نحن المتديّنين اليوم أم خلق الخليل؟ حتّى لما أراد سبحانه أن يخبره بأنّ الأمر مقضي ولا ‏مجال للتّراجع عنه قال له : «يا إبراهيم أعرض عن هذا». ناداه بإسمه ترفّقا وتحبّبا ودعاه بالحلم نفسه إلى الإعراض عنه، فلم ينكر ‏عليه شحناته الرّحمانية ـ نسبة إلى الرّحمة ـ ولا جرعاته الحلميّة ـ نسبة إلى الحلم ـ التي ملأت فؤاده ولكن أخبره بلطف ورفق وحلم ـ ‏من جنس خلقه هو عليه السّلام ـ بأنّ الأمر قضاء ماض وقدر مقضي.
كذبة المتصوّفة وخلق التّأوه الإبراهيمي
لست متصوّفا بأيّ معنى ولست سلفيّا بأي معنى ولولا أنّ التّفكير الإسلامي ينفتح على إنتماءات لا حصر لها تقترب وتبتعد من ‏الإسلام بقدر بلائها وكسبها لظلّت تلك العناوين لغوا ملغوّا. وكفى بالصّفة الإسلامية الوسطيّة المعتدلة المتوازنة خلقا إلى الإسلام أدنى ‏وألصق.
الإنتماء مشروع ولكنّه قارب يمكن أن تعصف به رياح الأهواء والتّعصبات والضّلالات، فيستحيل إنتماء طائفيّا مذهبيّا ‏عرقيّا عنصريّا بغيضا يفرّق ولا يجمع وذلك هو النتن الذي حذر منه عليه الصّلاة والسّلام وطلب تركه. من أمثلة تلك الضّلالات التي ‏درج عليها غلاة المتصوّفة إعتقادهم أنّ صفة الأوّه الإبراهيميّة هيئة صوتيّة يهزّ فيه الرّأس بقوّة في حركة شعوذة وشذوذ وتصاحبها ‏تأوّهات تصنعها الحبال الصّوتية كمن يندب حظّه العاثر أو يتخبّطه الشّيطان مسّا. تلك مشاهد من الدّجل مألوفة عند غلاة المتصوّفة ‏وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا ويحيلونك لفرط جهلهم إلى الخلّة الإبراهيميّة أي خلق الأوّه. 
أوّهة إبراهيم الخليل التي مدحها فيه ‏القرآن الكريم هي العودة والتّوبة والأوبة والثّوبة إلى الله سبحانه فيما يلمّ به من لمم لا يعفى منه بشر. هي من : آه يؤوّه أوها أي عاد ‏وآب وثاب وتاب إذ جاء مبدؤها همزا يعلن المجيء والقوّة والعزم من لدن العائد كسبا مكسوبا لا صدفة أو تردّدا، وجاء منتهاها هاء ‏يحطّ رحاله عند الله سبحانه، فكان لا يليق بحطّ الرّحال إلاّ أن يكون بحرف حلقي هوائي ومن ينشد اللّطف والرّفق والرّحمة يهوي في ‏محطّه بلطف. فهو عليه السّلام جامع بين الحلم حتّى على المجرمين كما مرّ بنا أي أصحاب الشّذوذ الجنسي وهو أوّاه توّاب بعزم ‏ولطف إلى ربّه سبحانه ـ وجاءت بصيغة المبالغة على وزن فعّال ـ وهو منيب بقلب حبيب والخلال الثّلاث تشترك في معنى الرّحمة ‏بالنّفس أوها والرّحمة بالنّاس حلما والإنابة العمليّة وليس خواطر نفسيّة سرعان ما تغشاها الغواشي. أين كلّ هذه المعاني من ‏الخزعبلات الصّوفية والضّلالات الفاسدة؟
خلق إبراهيمي متوازن متكامل
فهو خلق مع النّاس حلما ورفقا دفعه لأن يجادل ربّه سبحانه سائلا إيّاه أن يمنح قوم لوط المجرمين شذوذا جنسيّا فرصة أخرى لعلّهم ‏يثوبون. وهو خلق مع النّفس أوها بها إلى الله في كلّ لمم جديد حتّى لو كان خاطرة نفسيّة سرعان ما تغمرها المشاعر الدفّاقة وهو خلق ‏مع الله سبحانه إنابة عمليّة وليس أملا باللّيل تغشاه غاشيات النّهار، فتجعله سرابا كذابا.
الهوامش
[1] حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (5/2267)، رقم: (5763)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب (4/2014)، رقم: (2609).
[2] سورة الذاريات، الآية 26
[3] سورة هود، الآية 73
[4] سورة هود، الآية 74
[5] سورة هود، الآية 75