دراسات

بقلم
حسن الطرابلسي
هيجل وفلسفة الثورة (2/3) مختصر فلسفة هيجل
 أ ـ المنطق عند هيجل
لا يقتصر مفهوم المنطق عند هيجل على التعريف الكلاسيكي له الذي كان يكتفي بالبحث عن قواعد ‏وقوانين للتفكير. فأشكال وقوانين التفكير عنده لا تمثل إلا جزءا من المنطق وليس المنطق كله، فالمفاهيم، ‏والقواعد المنطقية، والخصائص ليست فقط قوانين تفكير وإنما هي حقيقتها وماهيتها وذلك لأنها لا ‏تحتوي على أسلوب تفكيرنا وإنّما تمثّل هيكل العالم. وأما عملية التطور فهي تتم بشكل جدلي، إذ أن كل ‏مفهوم يؤدّي إلى مفهوم أفضل منه.‏
وهكذا فإننا بتفكيك كل مفهوم نصل إلى مفهوم جديد. فمفهـوم الذّات ‏Sein‏ مثلا‎ ‎لا يعني شيئا وهو لا يعدو ‏أن يكون مجرد فكرة (‏eine Gedanke‏) ولكنها لا تعني شيئـــا، وبذلك نصل من الـــذات إلى اللاذات ‏‏(‏vom Sein zum Nichtsein‏) أي نصل من الفكرة إلى نقيضها. وهنا بالضبط يحدث وضع جديد إنه ‏الصيرورة ‏Das Werden
يقول هيجل في كتاب موسوعة العلوم الفلسفية: «يعتبر اللاشيء هو الخط الذي لا واسطة فيه، إنّه هو ‏ذاته، وهو في نفس الوقت نقيض لذاته. إن حقيقة الذات وكذلك اللاذات هي بالتالي التأليف بينهما، وهذا ‏التأليف هو الصيرورة».‏[1]‏ وهكذا فإننا بإنتاج الفكرة ونقيضها نصل إلى التطور.‏
ويمكننا أن نرمز إلى المنطق الهيجلي بالجدول التالي:‏
ومن هذه الفكرة أو المعادلة تتطور المسارات وتتوسع في شكل سلسلة من المفاهيم المتناقضة لتصل في ‏الختام إلى الروح المطلق‎ Das absulute Geist ‎
ب ـ الديالكتيك
يتأسس الديالكتيك عند هيجل من حركة ضرورية ثلاثية: الفكرة ونقيضها إلى التأليف بينهما، ويشرح لنا ‏هذا الثالوث كالتالي: ‏‎»‎إننا في البداية نتناول فكرة ناقصة، فتؤدي متناقضاتها إلى أن يحل محلها نقيضها، ‏غير أن هذا النقيض تظهر فيه العيوب نفسها، فلا يبقى طريق للخلاص سوى أن ندمج بين محاسن ‏التصورين في تصور ثالث، ومع أن هذا العلاج من شأنه أن يحل المشكلات السابقة ويتقدم بنا خطوة ‏نحو ‏‎»‎الحقيقة»، إلا أنه بدوره يتكشف عن متناقضات، فينشأ من جديد موضوع ونقيضه، ثم يرتفع هذا ‏التناقض بينهما في تآلف جديد، وهكذا دواليك، حتى نصل إلى مقولة‎ ‎‏(الفكرة المطلقة)‏ ‏»[2] ‎وهذا يدل ‏على أن تفكيرنا يتطور بشكل جدلي وأن هدف هذا التطور هو الوصول إلى الفكرة المطلقة أو الروح ‏المطلقة.‏
وبالمثال يتضح الحال فإنّ النبتة تكون في البداية بذرة ثم تتحول إلى زهرة ثم إلى ثمرة وتشكل هذه ‏المراحل الثلاثة من عمر النبتة حقيقتها الكلية. وهي في عملية التحول هذا تمر من مرحلة إلى أخرى ‏وكل مرحلة وإن نفت سابقتها إلاّ أنّها تحفظها بشكل ما. وهذه المراحل الثلاثة التي تمر بها النبتة، هي ‏التي تمثل في النهاية حقيقة النبتة. فالبذرة تتم إزاحتها عندما تتحول إلى زهرة، ولم نعد نرى البذرة ولكنه ‏تم الإحتفاظ بها في صورة متقدمة.  والزهرة بدورها تتحول إلى ثمرة ناضجة وتلغي الزهرة ولكنه يتم ‏الإحتفاظ بها أيضا في شكل أكثر تطورا. ‏
أو مثل الإنسان فإنه يكون طفلا ثم شابا ثم كهلا، وكل مرحلة ترفع ما سبقها ولكنها في نفس الوقت ‏تحفظها في صورة متطورة. وهذا التحول والإختلاف الظاهري بين المراحل الثلاث هو دينامية التحول ‏والصيرورة. ‏
إنها إذا صيرورة ديناميكية تتطور من مرحلة إلى مرحلة أخرى أعلى منها ولكنها تحتفظ بها بشكل ما. ‏وهذه المراحل الثلاث مجتمعة هي التي تشكل حقيقة النبتة أو الإنسان.‏
ولوصف هذا المسار فإنه يستعمل فعل ‏aufheben‏ الذي له في اللغة الألمانية ثلاثة معان:‏
-الأول هو معنى «رفع أو أزاح» ‏beseitigen‏ كأن نقول مثلا: أزاح/رفع الحواجز عن الطريق
-الثاني هو معنى «حفظ»‏aufbewahren ‎‏ مثل أن نقول: حفظ الكتاب من التلف
-الثالث هو «أعلى أو رفع» ‏hinaufheben/emporheben‏ كأن نقول: أعلت الأم شأن أبنها.‏ [3] 
ج ـ فلسفة التاريخ
يعتبر هيجل أن «العقل يحكم التاريخ» فالتاريخ يتحرك وفقا لمبادئ العقل ومهما بدت الأحداث متناقضة ‏إلا أنها تمثل في النهاية خطا يسير باتجاه الحرية. وهكذا  فإن مهمة التاريخ ليست رواية الأحداث ‏لاستنتاج العبر والحكم، لان التاريخ الكلي الحقيقي هو العقل الذي هو جوهر التاريخ. ويشير هيجل إلى ‏فكرة طريفة في قراءته للتاريخ ويطلق عليها  «مكر التاريخ» ويعني بها أن التاريخ قد يستخدم أحيانا ‏بعض الطغاة لتحقيق أهدافه دون أن يشعروا بذلك. وأبرز مثال على ذلك نابليون بونبارت الذي اجتاح ‏أوروبا بجيوشه في عمل مستبد ولكنه في النهاية خدم التاريخ عن طريق نشر مبادئ الثورة الفرنسية ‏الداعية إلى الحرية‎. 
وفي اطار التدليل على سير التاريخ نحو الحرية. يقدم هيجل قراءته لتاريخ البشرية فيميّز بين مراحل ‏تاريخية ثلاثة‎:‎
أولا: مرحلة العالم الشرقي، يعني به الحضارة الصينية والهندية والفارسية والفرعونية، وفي هذا العالم ‏سادت الحرية للسلطان فقط. فهو الإله وأما بقية الشعب فإنهم عبيد، وبالتالي فهذا الحاكم هو الوحيد الذي ‏يتمتع بالحرية‎.‎
ثانيا: مرحلة العالم اليوناني والروماني وفيها اتسع نطاق الحرية نسبيا، ليشمل اليونان والرومان، وأما ‏بقية الأمم كالأفارقة والإسيويين مثلا فإنهم في نظر الرومان برابرة وهمج. وبالنتيجة فإن الحرية يتمتع ‏بها فقط بعض الناس.‏‎ ‎
ثالثا: مرحلة العالم الجرماني حيث سادت الحرية للجميع. ويخلص بذلك إلى أن الروح الألماني هو روح ‏العالم الجديد. لذلك مجّد هيجل ألمانيا تمجيدا مبالغا فيه واعتبر أن التاريخ وصل في ألمانيا، مع الدولة ‏البروسية، إلى الروح المطلق‎‎‎ ‎وبالتالي فإنه اكتمل. وباكتماله يقف التاريخ وينتهي عن التطور‎.‎
وهنا نريد أن نتوقف قصيرا عند هذا التمجيد الهيجلي لألمانيا لنرفع بعض الإلتباس. إن هذه القراءة ‏لمراحل التاريخ وخاصة المرحلة الثالثة جعلت بعض الكتاب يتهمونه بأنّه من الفلاسفة الذين مهّدوا ‏للنّازية. وهي أيضا نفس التّهمة الموجّهة لفيختة ونيتشة، وهذا في اعتقادي مبالغ فيه وغير سليم لأنّه ‏يخرج هذه النّصوص من سياقاتها التّاريخية ويقرأها قراءة خاطئة. أي بروح عصر آخر غير الذي ‏كتبت فيه‎.‎
كيف ذلك؟
‎ إن خطابات فيخته[4] وقراءة هيجل للتاريخ كانت في لحظة عصيبة على ألمانيا إذ انها خسرت الحرب ‏ضد نابليون في يينا سنة 1806م ثم سقطت المدن البروسية الواحدة تلو الأخرى في سورة درامية مخجلة ‏حتى وصل نابليون إلى برلين وتجاوزها. فهيجل نفسه قد تم اقتحام بيته وكان يعتقد أن الفرنسيين ‏سيتعاملون معه كمثقف حر ولكنهم لم يفعلوا ذلك ونهب بيته كسائر البيوت وأما فيختة فإنه اضطر بعد ‏عدة تنقلات إلى الفرار خارج المانيا، في هذه الفترة سيطرت روح الهزيمة والخسارة على الألمان. ‏فهيجل وفيخته نفسيهما عاشا صعوبات مالية وشظفا في الحياة بعد أن كانا يدرسان في جامعة يينا‎.‎
‎ ‎كان على المثقفين الألمان، إذن، مسؤولية وواجب مهم في إعادة زرع الثقة بين أبناء شعبهم. ومن هنا ‏كانت كتاباتهم تستجيب لمسؤوليتهم كمثقفين واعين بدورهم في زرع الأمل والتفاؤل[5]. ولذلك فإن فلسفة ‏التاريخ عند هيجل هي فلسفة تبشر بالمستقبل، وأما فيخته فإنه خرج مع الجيش عندما بدأت حرب ‏التحرير، وكان يطمح أن يكون خطيبا له، ولكن المنية لم تسعفه فتوفي سنة 1814‏م‎.‎
إننا بهذا الإستطرار المختصر والضروري نريد التاكيد على ضرورة فهم فلسفة هيجل في إطارها ‏الزماني والمكاني وفي لحظتها التاريخية وليس من وجهة نظر لحظتنا التاريخية المعاصرة لأننا عندها ‏سنقع في إسقاط تاريخي خطير‎.‎‏ «فمهمة الفلسفة عند هيجل هي أن نفهم ما هو موجود لأنّ ما هو موجود ‏هو العقل، إنّ مهمة الفلسفة لتنحصر في تصور ما هو كائن لأنّ ما هو كائن ليس إلاّ العقل نفسه ولو أننا ‏نظرنا إلى المسألة من جهة نظر الفرد لرأينا أنّ كلا منا ابن عصره وربيب زمانه، وبالمثل يمكن أن ‏نقول عن الفلسفة إنّها عصرها ملخصا في الفكر وكما أنّ من الحمق أن نتصور إمكان تخطي الفرد ‏لزمانه فإنّه لمن الحماقة أيضا أن نتصور إمكان تجاوز الفلسفة لزمانها الخاص» [6] ‏ 
ولو عدنا إلى موضوعنا لرأينا أن التاريخ عند هيجل يسير باتجاه هدف واحد يسميه الروح المطلقة، أي ‏الوعي بالذات وهذا الوعي هو الذي يجعل الإنسان حرا. وهكذا فالتاريخ يسير في اتجاه المزيد من ‏العقلانية، والأخلاق والنظام والحرية‎.‎
ومسار التاريخ هذا هو الذي يقود في الأخير إلى تأسيس الدولة التي تحقق السعادة للجميع ففي الدولة ‏تتحقق الحرية وهكذا فإن غاية التاريخ هي الدولة وغاية الدولة هي الحرية. والدولة عنده هي أسمى ‏إنجاز بشري لأنها تحقق التوافق بين النظام الإجتماعي من ناحية والنزوع الطبقي من ناحية أخرى. ‏وهذا ما يسمح لها باستعمال القوة [7] ‏.‏
‎ ‎وفي هذا المستوى يطرح تساؤل مهم وهو ما جدوى العنف والحروب والجرائم البشعة التي تحدث في ‏التاريخ؟‎ 
هنا يجب ان نفرق بين التاريخ العميق الذي يكتشفه الفيلسوف ويفهم خيوطه وبين التاريخ الظاهري الذي ‏تتابع فيه الأحداث. إضافة إلى أن العنف والشر ليس هو الأصل عند هيجل وإنما من خلال هذا الشر ‏نفهم الخير ونستطيع البحث عنه والعمل على تحقيقه. وبالتالي فإن الشر ليس إعتباطيا أو هامشيا وإنما ‏هو ضروري في حركة التاريخ عند هيجل. بل إنه ضروري لتقدم حركة التاريخ [8] ‏.‏‎ 
الهوامش
[1] Das Nichts ist als dieses unmittelbare, sich selbst gleiche, ebenso umgekehrt dasselbe, was das Sein ‎ist. Die Wahrheit des Seins sowie des Nichts ist daher die Einheit beider; diese Einheit ist das ‎Werden“ (Hegel, G. W. F.: Enzyklopädie der philosophischen Wissenschaften, Werke 8, Suhrkamp ‎Taschenbuch Wissenschaft, 10. Auflage 2014, § 88, S. 188)‎
‏[2] الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلا عن سلمان علاء الشافعي: فلسفة التاريخ عند الفيلسوف الألماني هيجل، على الرابط التالي: /80280/‏http://www.alukah.net/culture/0/
 [3] Aufheben und das Aufgehobene (das Ideelle) ist einer der wichtigsten Begriffe der Philosophie, ‎eine Grundbestimmung, die schlechthin allenthalben wiederkehrt, deren Sinn bestimmt aufzufassen ‎und besonders vom Nichts zu unterscheiden ist. - Was sich aufhebt, wird dadurch nicht zu Nichts. ‎Nichts ist das Unmittelbare; ein Aufgehobenes dagegen ist ein Vermitteltes, es ist das Nichtseiende, ‎aber als Resultat, das von einem Sein ausgegangen ist; es hat daher die Bestimmtheit, aus der es ‎herkommt, noch an sich.‎
Aufheben hat in der Sprache den gedoppelten Sinn, daß es soviel als aufbewahren, erhalten ‎bedeutet und zugleich soviel als aufhören lassen, ein Ende machen. Das Aufbewahren selbst ‎schließt schon das Negative in sich, daß etwas seiner Unmittelbarkeit und damit einem den ‎äußerlichen Einwirkungen offenen Dasein entnommen wird, um es zu erhalten. ‎
‎- So ist das Aufgehobene ein zugleich Aufbewahrtes, das nur seine Unmittelbarkeit verloren hat, aber ‎darum nicht vernichtet ist. ‎
‎- Die angegebenen zwei Bestimmungen des Aufhebens können lexikalisch als zwei Bedeutungen ‎dieses Wortes aufgeführt werden. Auffallend müßte es aber dabei sein, daß eine Sprache dazu ‎gekommen ist, ein und dasselbe Wort für zwei entgegengesetzte Bestimmungen zu gebrauchen. Für ‎das spekulative Denken ist es erfreulich, in der Sprache Wörter zu finden, welche eine spekulative ‎Bedeutung an ihnen selbst haben; die deutsche Sprache hat mehrere dergleichen.” (G.W.F. Hegel, Die ‎Wissenschaft der Logik, Erster Teil. Die objektive Logik, Erstes Buch. Die Lehre vom Sein, Werke 5, S. ‎‎114)‎
‏[4] فيخته، خطابات إلى الشعب الألماني 
‏‎ Fichte, J. G.: Reden an die Deutsche Nation; Meinerverlag, Hamburg 2008 ‎
‏[5] لا مجال للمقارنة بين المثقفين الألمان في تلك الفترة وقطاع كبير من مثقفينا العرب اليوم. فبعض مثقفينا أنبرى يخذّل الأمة ويسفه أحلامها وأشواقها ‏للحرية ويحاول أن يثبت لنا أن العرب غير مأهلين للحرية وللتبادل الديمقراطي على السلطة. فوقف قطاع هام من نخبنا إلى جانب الديكتاتورية قبل ‏اندلاع الربيع العربي وساند الكثير منهم الظلمة بعد الربيع العربي وبرروا جرائمهم‎.‎
‏[6] ‎د. إمام عبد الفتاح إمام، دراسات هيجلية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، مصر 1985، ص: 59‏
‏[7] توجد كثير من الدراسات التي تثبت أن هيجل قد استفاد في نظرية الدولة وفي فلسفة التاريخ‎ ‎من كل من المؤرخين صاعد الإندلسي (1029م ـ ‏‏1070م) في كتابه «طبقات الأمم»، وابن خلدون  (1332 ـ 1406م) في موسوعته «المقدمة» (نذكر على سبيل المثال الكتّاب: وليد نويهض، ‏أبويعرب المرزوقي، وحسن حنفي)‏
‏[8] هاشم صالح، الإنتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ، دار الساقي، الطبعة الأولى 2013‏‎  ‎‏ (يمكن العودة إلى دراسة نقدية لهذا الكتاب قمنا ‏بها تحت عنوان: عندما تتحول الفلسفة إلى حمار قصير يركبه المغامرون، وتوجد على الرابط التالي: ‏https://www.alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=24972‎‏)‏
 ‏ ‏«Es ist in der Tat ein wunderbare Empfindung, ein solches Individuum zu sehen, das hier,‎‏ ‏auf einen ‎Punkt konzentriert, auf einem Pferd sitzend, über die Welt übergreift und sie beherrscht.»‏‎ (Hegel; Brief ‎an seinem Freund Niethammer)‎