بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
التَفكير البلاغي والفعل التَفسيري أعطاب الفهم وسيادة الوهم(2/3)
 ‏تحكيم الشّعر في القرآن:‏
وأمّا العطب الثَّاني في منهج قراءة النّصّ القرآنيّ فهو اعتماد الشّعر العربيّ. إنّ هذا ‏الإعتماد يعتبر طريقة تجعل الشّعر حَكماً على القرآن. والحال أنّ القرآن قد جاء بأساليب ‏لم تكن معروفة عند العرب و تحدّاهم بها. ولقد وقف القرآن موقفا مضادّا للشّعر في سورة ‏الشّعراء ممّا يدلّ على أنّ القطيعة ضاربة في أدوات المعرفة بين نوعين من الأنشطة ‏المعرفيّة.‏
إنّ المسألة عكسيّة تماما، ففي القرآن تغيب المبالغات والكذب والتّرادف وفي الشّعر يتمّ ‏الاعتماد الكلّيّ على كلّ ذلك. وفي الشّعر خيال وفي القرآن حقّ. والشّعر أرضيّ والقرآن ‏سماويّ. وقد استعان المفسّرون الأوائل بالمعجم العربيّ الوارد في الشّعر لفهم مجمل ‏الألفاظ الصّعبة في الخطاب القرآني. وهو ما يحيل على صعوبة منهجيّة تتمثل في القدرة ‏على التّمييز بين بعض الإستعمالات الشّعريّة التي هي على الحقيقة وبعضها الآخر الذي ‏هو من قبيل التّوسّع . فالعرب ،على سبيل المثال، تسمّي مولود الدّجاج فرّوجا و ما عداه ‏فرخا. أمّا الشّعراء فيتوسّعون في العبارة ويسمّون كلّ مولود من البيض فرخا. وهو ما ‏يزيد الأمر صعوبة ‏[1] وبالإضافة إلى ذلك كلّه، تجدر الإشارة إلى أنّ الأرضيّة الثّقافيّة ‏التي يقف عليها الشّاعر تتبنّى أطروحة القول بالتّرادف. ‏
إنَ هذا المنظور القائل بالتّرادف نابع من قياس النّص القرآني على ما كان سائدا من ‏النّثر و الشّعر. ولمّا كانت المعارك الأدبيّة قائمة بقوّة على المفاضلة بينهما فإنّ أنصار ‏النّثر رأوا أنّ القرآن ينحاز إليهم أو هو أقرب إليهم. والمهمّ أنّ هذا الفهم جعل الفوارق ‏النَوعيَة بين كلام الله وكلام النَاس ضئيلة أو قل هي غائبَة.‏
و لمّا حصر النّقاد والمفسّرون إعجاز القرآن في الجوانب اللّغويّة، صوّروا المسألة ‏على أنّها فعل شبيه بالمباراة والمبارزة بين الخطاب القرآني والخطاب الأدبي. يقول ‏محمد شحرور في هذا الصّدد꞉«فمعناه أنَّ الله عزّ وجلّ جاء لينافس الشّعراء في ‏أشعارهم، وهذ هراء حاشا لله أن يكون فقط هذا مراده من إنزال الوحي. لهذا نرى، و‏نحن متأكّدون من ذلك، أنّ التنزيل الحكيم قد طوّر اللّغة العربيّة من جوانب أخرى لم يتمّ ‏الانتباه إليها من قبل هؤلاء الباحثين الذين أكثروا من الإطراء على الأسلوب الجمالي الذي ‏جاءت به لغة التّنزيل الحكيم»[2] ‏‏
ولا غرو في أن ينتصر الخطاب القائل بالتّرادف طالما أنّ الشّعر محكّم في تفسير ‏النّص القرآني.. والحال انَ الأمر بعيد كلَّ البعد عن هذا التَّصوّر. ‏
ومن ثمَّ بات إعجاز القرآن لدى البلاغيين ينحصر في أنّ القرآن ارتفع باللّسان ‏العربي وهذّبه وارتقى بمستواه، ولا سيّما في المستوى البلاغي. ومن ثمّ نقّى العربيّة ‏من الألفاظ الغريبة. وهذا التّصوّر قاصر، وإن صحَّ، لأنّ كلام الله يتجاوز العناية باللّفظ ‏إلى مستوى المعنى. وفي هذا الإطار يندرج ما ذهب إليه هشام جعيّط من أنّ꞉«للقرآن ‏معجمه الخاصّ الموحّد الذي لا يقرن بأي نصّ نثري أو شعري من القرن الثّاني، بل أنّ ‏القرآن أسس اللّغة العربيّة إلى حدّ بعيد و ثبّتها وأثراها بمصطلحاته وتعابيره» ‏[3] ‏ ‏.‏
إنّ عذوبة اللّفظ القرآني وأسلوبه أمر لا يختلف فيه إثنان[4]. ومن هذا المنطلق ركّز ‏المفسّرون على الإعجاز البلاغي وقبِل أهل السّنة بتفسير الزّمخشري رغم ما فيه من ‏نزعة اعتزالية لأنّه رأس البلاغيّين في عصره، وفي كشّافه كشف عن عروبة القرآن و‏إبانته واستقامة لسانه . ‏
إنّ حصر الإعجاز التّراثي في المجال البلاغي هو الشّجرة التي غطَّت الواحة بأسرها ‏إذ أنَّ المضمون الذي جاء به كلام الله هو المحتوى المعرفي الخارق لما كان سائدا من ‏المعارف حيث القول الثَّقيل. والأصوات المتضمّنة للمعاني لا ثقل فيها على السَّامع.‏
وإنّما المعاني والدّلالات هي التي تتميّز بالثّقل والاتّساع كمّا وكيفا ومسؤوليّة. قال ‏تعالى: «‎إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا»‏‏[5]‏. ومن ثمّ تغيّرت الرّؤى إلى الله والكون والذّات. وفي هذا الإطار يتنزلّ ما أشار إليه هشام جعيّط من أنّ꞉ «القرآن لم يكن يعكس تطوّرا ثقافيّا لدى العرب، يقدر ‏ما جاء لرفع مستوى ثقافتهم» ‏[6] ‏‏.‏
‏ لقد فرّق الخطاب القرآني بين الحقّ والباطل وقدّم تفسيرا جليّا للوقت والزّمن و‏الخلق، والأرض والسّماء، والدّنيا والآخرة، والجنّة والنّار، والخير والشّر. وأنبأ ‏بالغيب وأفاء بالأخبار.‏‎ ‎ثمّ إنّ حصر الإعجاز القرآني في المستوى والبلاغي واللّغوي، ‏يجعل هذا الإعجاز خاصّا بالعربي وموجّها لمن يفهم هذا اللّسان دون غيره. وهذا الأمر ‏يتعارض رأسا مع عالميّة الرّسالة و كونيَتها وصلاحها لكلّ زمان ومكان.‏
إنّ الرّوايات التي حُبكت في الموروث عامّة والدّيني خاصّة، حادت في كثير من ‏الأحيان عن المعنى المحقّق لقداسة النّص القرآني ومصدره الالهي. فكما تعلّقت بالمعلّقات ‏مرويّات عديدة وجعلت منها سبعا أحيانا وعشرا أحيانا أخرى. فكذلك المرويَات المتعلَقة ‏بالأحرف جعلت منها سبعة حينا وعشرة حينا آخر وأكثر من ذلك أحيانا أخرى. وانظر ‏إلى عبد الصَّبور شاهين كيف يعتبر أنَّ القرآن إنَّما كتب على حرف واحد إذ يقول꞉«ولا ‏ريب أنّ هؤلاء الكتبة للوحي كانوا يكتبون نصَّ القرآن كما يمليه النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم  ‏بلسان قريش أي أنَّ الكتابة لم تكن كالقراءة على سبعة أحرف لسبب بديهي هو أنَّ دلالة ‏الأحرف السَّبعة لا يمكن ضمَّها في رمز خطّي واحد. وقد تمَّت عمليَّة الكتابة في مكَّة بيد ‏كتَّاب قرشيّين وفي المدينة بيد جماعة مختلطة من المهاجرين والأنصار ولم يكن ‏للخطَّين فروق في الرَّسم تُذكر» ‏[7] ‏ ‏.‏
وهكذا يتَّضح أنَّ الأصوب هو أَنَّ الحرف الموحّد للقبائل جميعا والذي كُتب به الوحي ‏هو لسان قريش. وإن استغلَّ بعض المستشرقين هذا الرَّأي لتدعيم الرَّأي القائل꞉ إنَّ ‏الوحي من صنع محمَّد بن عبدالله ‏[8] ‏ .‏
إنَّ الأهمَّ في المسألة الثَّقافيَّة هو أنَّ لسان قريش كان هو الجامع لكلّ اللَّهجات والمفهوم ‏من الجميع وهو لسان الشّعر والنّثر والمنافرة والمفاخرة، بحكم مركزيَّة مكَّة تجاريَّا و‏ثقافيَّا ودينيَّا.‏
ولا غرابة في أن يُكتب القرآن على حرف واحد، إذ أنَّ الرّجل الَذي نزل عليه ‏الوحي إنَّما هو ابن قريش.  وعمليَة التَواصل والتَفاهم إنَما تتمَ باللَسان نفسه التماسا ‏للوضوح والإبانة. ولو تكلَّم النَّبي بلسان مغاير لمَا تمَّ له التَّواصل مع المخاطبين.‏
و لمَا تميَز اللَسان العربي بخصائص محدودة، فإنَّ الوحي إذا اقتصر على الاتّصاف ‏بها فسيكون خطّ التَّباين مع ما هو سائد ضئيلا أو منعدما. ومن هذا المنطلق تجدر الإشارة ‏إلى أنَّ تميّزه يبدو في الارتفاع بالمستوى لهذا اللّسان و تطويره꞉ «فأسلوب التَنزيل الحكيم ‏لا يمكن أن يكون الهدف منه تطوير اللغة العربيَة بلاغيّا فقط، إذ كان بإمكانها بلوغ ذلك ‏دون الاحتياج إليه، ولكن الهدف من نزول الوحي هو تطويرها معرفيَّا، أي الرّقي ‏بالمعارف التي كانت منتشرة وتصحيحها، لأنَّ المعارف هي التي تطوّر اللّغة و تمدّها ‏بزخم معرفي تتمكَّن اللّغة، من خلاله، من الارتقاء بأسلوبها، فالكلمات في نهاية المطاف ‏هي مجرَّد حروف مجتمعة، فإذا لم تكن هذه الحروف ذات معنى عند اجتماعها فاجتماعها ‏أو تفرّقها سيَّان» ‏[9]. ولعلَّ الشَّهادات التي أبداها الوليد بن المغيرة  وغيره، إزاء القرآن، ‏توضّح هذا التَّميّز الذي طُبع به كلام الله. لقد قال الوليد بن المغيرة ꞉ «فو الله ما منكم ‏رجل أعلم منّي بالشّعر ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ والله ما يشبه الذي ‏يقوله شيئا من هذا» ‏[10]‏. ولم يجد وصفا يعبّر عمَّا عجز عن تعبيره أكثر من وصفه بالسّحر ‏لأنَّ السّحر خارق ومعجز لحدود القدرة الإنسانيَّة. ‏
ولو كان الأمر مقتصرا على البيان لجيء بمثله من الشّعراء والبلغاء. ولكنَّ الحمولة ‏المعرفيَّة الجديدة هي التي حيَّرت الألباب بما فيها من رقيّ عن المعارف السَّائدة. ومن ثمَّ ‏يتسنَّى للدَّارس أن يلاحظ أنَّ الأداة اللغويَّة دقيقة إلى حدّ إلغاء التَّرادف. والمحتوى المعرفي ‏يتجاوز المنظور الشّعري ورؤاه وبدائله الثَّقافيَّة. إذْ المضمون الخارق يتطلَّب شكلا ‏خارقا. وإعجاز الوحي كامن في مصدره وفي شكله وفي مضمونه. ولمَّا قرأه السَّلف ‏من منظور شعري وثقافي سائد ثمَّ من منظور سياسي، فإنَّ مقاصد الوحي قد ضاعت و‏خصائصه لم تتجلَّى للعيان. والغريب أنَّ الخلف ظنَّ أنَّ ما فهمه السَّلف هو جزء من ‏الدّين. فتمَّ تحنيطه وتقديسه. ولمَّا كان هذا الفهم من السَّلف جزءا من التَّاريخ، فإنَّ النَّتيجة ‏قد تمثَّلت في أنّ الخلف قد قدَّسوا التَّاريخ. وهو ما فوَت على الوعي الدّيني أنَّ مكمن ‏الإعجاز يتمثَّل في أنَّ  النّبؤة  تحتوي على تطوّر معرفي وأنّ الرّسالة  تحتوي على ‏تطوَّر تشريعي وأنَّ أسلوب الوحي يحتوي على تطوّر لغوي. ولمَّا وضعت السّياسة ‏يدها، منذ وقت مبكّر على المسائل الدّينيَّة، فقد وظَّفتها واستعملتها لخدمة مصالح فئويَّة و‏النَّتيجة المنطقيَّة هي أنَّ القرآن لم يُقرأ لذاته وإنَّما قُرئ قراءة سياسيَّة.   
‏ ‏الهوامش‏
[1] ‏ الجاحظ،  الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون،ج1، ط3, 1969، ص 199.‏
[2] ‏محمد شحرور أمّ الكتاب وتفصيلها، قراءة معاصرة للحاكميَّة الإنسانيَّة تهافت الفقهاء والمعصومين، دار السَّاقي ، بيروت، ط ،3 سنة ،2018 ‏،ص 94‏
[3] ‏هشام جعيط، تاريخيَّة الدَّعوة المحمَّديَة في مكَّة، دار الطَّليعة، بيروت، ط1 ، 2007 ،ص  25‏
[4] انظر محمد صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب، دار الكتاب العربي، بيروت،  ج 2، سنة 1974، ص 74 و ما بعدها ‎ ‎‏ ‏
[5] ‏ سورة المزمل 73، الآية 5 ‏
[6] ‏هشام جعيط ،  م. ن ، ص 157‏
[7] ‏عبد الصَبور شاهين تاريخ القرآن، مصر للطَباعة و انَشر و التَوزيع، القاهرة، 2007، ص97 ‏ ‎ ‎‏ ‏
[8] ‏ذكر تيودور نولدكه، في كتابه تاريخ القرآن، ج1 ꞉ في أصل القرآن ، بتعديل فريديريش شفالي، و تعريب جورج تامر، منشورات جورج المز،  ‏ط 2 ،سنة ،2000 ص 3 ما يلي꞉«جوهر النَّبي يقوم على تشبّع روحه من فكرة دينيَّة ما، تسيطر عليه أخيرا، فيتراءى له أنَّه مدفوع بقوَّة إلهيَّة ‏ليبلّغ من حوله من النَّاس تلك الفكرة على أنَّها حقيقة آتية من الله».‏
[9] ‏محمد شحرور ، م ن ،ص 99‏
[10] ‏ انظر عبد القاهر الجرجاني، الرّسالة الشّافية وهي رسالة ضمن كتاب ثلاث رسائل في إعجاز القرآن،  نسخة حسين حلبي، ‏مخطوطات الجامعة العربية، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع المنصورة القاهرة، ط 3،1992 ص 123 ‏