في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
ممنوع السير في طريق الاستقلال
 الثمن الباهظ للاستقلال
إذا ارتفعت قيمة المُثَمَّن ارتفع الثّمن، فلا يوجد ثمّة شيء غال ونفيس بثمن بخس. وبعد عام 1971 م ألغي الذهب كقيمة للمثمّنات وتمّ ربط قيمة العملات المحلّية للدّول بقيمة العملة الأمريكيّة الدولار، في إشارة واضحة أنّ القطب الأوحد في العالم سيلتهم كلّ من يعترض طريقه أو يحاول أن يعترضها. فمن يحاول أن يغرّد خارج السّرب له ذلك بشرط أن يكون التّغريد تافها لا مضمون له ولا قيمة. لكن إن حاولت الإستقلال بتغريدة تخصّك، تلعب أنت فيها دور المايسترو، فسوف نمحو تلك النّغمات من سجلّ الموسيقى بل وسنمحو التّردّدات والموجات من موضوعات الفيزياء.
هذا شأن «الولايات المتّحدة الأمريكيّة» مع الدّول التي تحاول أن تخطّ لها خطا سياسيّا يتميّز بشيء من الاستقلاليّة، فما تقوم به «أمريكا» من حرب تجارية على «تركيا» ليس مرتبطا بالأساس بموضوع احتجاز القسّ الأمريكي «برونسون» في تركيا، بل هو موضوع أكبر من ذلك بكثير، يتمحور أساسا حول سعي «تركيا» للاستقلال في قرارها السّياسي وتحقيق تنمية حقيقيّة تضعها كقوة إقليميّة بحد ذاتها. من هذا المنطلق لن تنسي «الولايات المتّحدة الأمريكيّة» أبدا رفض «تركيا» السّماح للقوى العسكريّة الأميركية بغزو العراق من خلال الأراضي التركيّة في عام 2003 م.
ثمّة أشياء كثيرة تتجاوز التّوتر الظّرفي بين البلدين، إنّه تاريخ العلاقات الأمريكية-التّركية منذ الحرب العالميّة الثانية، طرف يريد الهيمنة المطلقة وطرف آخر يرفض شروط الإذعان المطلق خصوصا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 2002 م، حتى وإن لم يمنع الحزب في توظيف بلاده لخدمة المصالح والسّياسات الأميركيّة في المنطقة، لكن على أساس المقايضة ورعاية المصالح التّركية وليس على طريقة إملاء الشّروط بعد أن نجح الحزب في تنويع دوائر الانتماء مع الخصوم التّاريخيين للولايات المتّحدة (مثل روسيا وإيران) ولكن بحذر شديد وهدوء يصعب إخفاء كل مظاهره، حتّى أعلن وزير الدّفاع التركي «نور الدين جانيكلي» وبدون مواربة، أنّ بلاده تتوقّع أن تتسلّم أوّل دفعة من صواريخ «إس- 400 أرض جو» الرّوسية في عام 2019 م.
نذر يسير من التاريخ الحديث
للعلاقات التركية الأمريكية
تزامن تولّــي «أوبامـــا» رئاســـة الولايات المتحــــدة وجود حزب إسلامـــي في قمّة السّلطة التّركيـــة، فاعتقد الرئيس الأمريكـــي أنّ دعمـــه للتّركيبـــة الإسلاميّـــة «المعتدلـــة» في تركيا قد تقوم بدور «الوكيــل» الأميركـــي في المنطقة.
تعززت هذه الرؤية في ثلاثة ملفّات رئيسيّة:
- تيسير الانسحاب الأميركي التّدريجي من العراق وضمان ألاّ يتحول هذا البلد إلى قاعدة ارتكاز ضدّ المصالح الأميركية في المنطقة.
- إدماج سورية -آنذاك- في حراك إقليمي ملائم للمصالح الأميركيّة وليس في الاستقطاب مع المحورالذي تقوده إيران وروسيا.
- أن تكون تركيا هي الطّرف الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه عند الشّروع في احتواء إيران.
من هنا يتبين الدّور المحوري لتركيا في لعبة التّوازنات الاستراتيجية الأميركيّة في المنطقة . إلاّ أنّ هذه الرؤى تشوهت خصوصا مع توجه «أوباما» نحو إيران والاتفاق التّاريخي النّووي معها. وعندما ظهرت «داعش» وقُطِعَت رؤوس الرّهائن الأميركيين، هرول «أوباما» إلى تركيا لإشراكها في حربه على إرهاب «داعش». ومع أنّ هذا من صلب الأمن القومي لتركيا، إلاّ أنّ هذه الأخيرة أدركت مدى حاجة الولايات المتحدة إليها.
ومع وصول «ترامب» إلى البيت الأبيض حاول «أردوغان» أن يقنعه بأنّ حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي السّوري» هو نسخة أخرى من «حزب العمال الكردستاني الانفصالي التركي » الذي تصنّفه أنقرة وواشنطن بأنّه حزبٌ إرهابيٌّ، لكن وعلى العكس من ذلك تماما، ومع وصول أردوغان إلى واشنطن في مايو 2017 م، كانت الإدارة الأميركية قد ضاعفت الدّعم لـ «وحدات حماية الشّعب الكرديّة ». وبعد ساعات قليلة من قمّة «سوتشي» الرّوسية– الإيرانيّة– التّركية، بدأت تتمظهر حيثيات توجّه أميركي للدّخول على الخطّ وتغيير المسار، حيث أكّد «ترامب» للرئيس التركي، أنّ واشنطن سوف تعلّق الدّعم العسكري لحلفائها الأكراد في سوريّة، وهو ما صرّح به وزير الخارجيّة التركي «مولود جاويش أوغلو» حيث أعلن أنّ الرئيس الأميركي وعد «بوضوح» بعدم تزويد الوحدات الكرديّة بالأسلحة، لكنّ البيت الأبيض نقل عن «ترامب» قوله أنّه أبلغ الرّئيس التركي فعلا بأنّ واشنطن بدأت «تُعدّل الدّعم العسكري لشركائها على الأرض في سوريّة»، لكنّ ذلك لم يتضمن ذكرًا صريحًا لوقف تسليح الوحدات الكردية .
هنا يكمن مربط الفرس، حيث راوغت الإدارة الأمريكيّة تركيا في تسليمها منظومة حديثة من طائرات «F15» شارك العلماء الأتــراك في تطويرهــا ضمن صفقــة اتفق عليهــا الطرفــان وقامت تركيــا بتنفيذ تعهّداتها بدفع 900 مليون دولار والتزمت بدفع باقي الأقساط. وقد غطّت إدارة ترامب على هذه الأزمة بفتح ملف احتجاز القس الأمريكي «روبنسون » في تركيـــا. لا ينسي المتابعــون للشّأن السّياســي التركــي أنّ الأمريكان حاولوا الانقلاب على حكومة حزب العدالــة والتنميــة في 2016 م عسكريّا [1] لكنّهم فشلـــوا في تحقـيق مآربهـــم، فلجؤوا هــذه المرّة لتنفيذ انقلاب اقتصادي ومحاولــة هدم الانجازات الاقتصاديّــة التي تظهر للعدوّ المنصف قبل الصّديق الجاهل. ولا ينفي كلّ ذلك التوتر الظّاهر للعيان حاجة كلّ من البلدين إلى الآخر، فمــن الصّعب تصوّر وجود «تركيا » مثلا بعيدة عن حلف «الناتو » وعن أوروبا وفي نفس الوقت بدون علاقات هامّة أشبه بالتّحالفات غير المعلنة مع روسيا وإيران .
محاولة الافلات من الدوران في الفلك الأمريكي
الكنز الأكبر الذي من الممكن أن تكسبه تركيا من جراء المهاجمة الشّرسة لهذا الفيروس الشّره والمتغطرس هي محاولة الإفلات من الدّوران في الفلك الأمريكي، ودرّة هذا الكنز هي الالتفاف الحقيقي للشّعب التّركي خلف إدارته، حيث عبّرت معظم أحزاب المعارضة والشّخصيات العامّة عن تأييدها للموقف الرّسمي ودعمها لأردوغان وإدارته، وتناسى الجميع مشاعر المرارة التي خرجــوا بها من الانتخابات الأخيرة، وكأنّك تشعر أنّ تركيا كانت على قلب رجل واحد سيّما مع الغطرسة التي بدا عليها «ترامب » عندما أطلق تغريدته التي يشير فيها إلى حزمة إجراءات عقابية «لتأديب » تركيا، ممّا أثار الشّعور القومي الدّفين لدى الأتراك وهم ما زالوا قريبي عهد بأمجادهم الامبراطوريّة التي دامت لسّتة قرون والتي كانت أجزاء كبيرة جدّا من أوروبا وآسيا وإفريقيا تدين لها بالولاء السّياسي.
يدرك «أردوغان » أنّ الولايات المتّحدة لا تزال بحاجة إلى تركيا ويرجع ذلك للموقع الجيوستراتيجي لهذا البلد، حيث تتقاطع عندها مصالح الدول الكبرى بل وتقع تركيا في صلب المصالح الأمريكيّة حيث تتشابك ثقافيّا واقتصاديّا وقوميّا وعرقيّا مع مناطق الشّرق الأوسط، والبلقان، والقوقاز، والبحر الأسود، وآسيا الوسطى. إلى جانب تحكّمها في الممرّات البحريّة في بحر مرمرة «البوسفور والدّردنيل»، وتتنازع السّيطرة على بحر إيجة، وكونها معبرًا لخطوط النّفط والغاز من آسيا الوسطى، وبحر قزوين إلى أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة. فقد وعت أمريكا مبكّرا موقع تركيا، فسعت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية بمدّ يد المساعدة إليها في عام 1947 تحت «مبدأ ترومان » وانضوائها تحت «خطّة مارشال » لإعادة بناء أوروبا، إلى جانب انضمامها إلى حلف شمال الأطلنطي (ناتو) عام 1952 .
وخلال الحرب الباردة شكّلت تركيا الأساس الوطيد للأمن الأوروبي بحكم موقعها الجيوستراتيجي المهم وثقلها العسكري وحمايتها الضّفة الجنوبيّة الشّرقية للقارّة من الاتحاد السّوفياتي السّابق (حليف اليوم)، ولاحقًا تجاه إيران بعد ثورة الخميني عام 1979 ، ومن ثمّ الحرب على أفغانستان بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 م .
الخيارات المتاحة
في الأزمات المالية والاقتصاديّة الكبرى، تكون الخيارات المتاحة السّلاح الرئيسي لللاعبين. فقد عمدت الحكومة التركيّة لحلّ أزمتها الاقتصاديّة إلى اتّخاذ بعض الإجراءات قصيرة الأجل، مثل المحافظة على وضع العملة المحلّية من خلال تعظيم مساحة الوعي بأهمّية الإنتاج وعدم الهرولة نحو تحويل الودائع إلى الدولار فيما يسمّي بـ «الدولرة»، ووضع قيود مناسبة على السّحب والتّحويل بالدولار، وتفعيل نظام الرّقابة النّقدية لا سيّما في منافذ الخروج من البلد مثل المطارات والموانئ البحريّة والبريّة، ورفع سعر الفائدة مؤقتا، ووضع حدود سعريّة للعملة لا يتمّ تجاوزها، واستخدام ما تيسر من الاحتياطي لزيادة عرض الدّولار، وتفعيل نظام المدفوعات المتبادلة بعيدا عن الدّولار وفتح المجال وتذليل العقبات الإداريّة لبث الطمأنينة في نفوس المستثمرين في كلّ القطاعات الهامّة قدر المستطاع .
ومن الإجراءات الهامّة التي اتخذها البنك المركزي التّركي والتي دعّمت فعاليّة الأسواق الماليّة وخلقت مرونة أكبر للجهاز المصرفي في إدارة السّيولة، هي توفير نحو 10 مليارات ليرة، و6 مليارات دولار، و3 مليار دولار من الذّهب. وخفض نسب متطلّبات احتياطي اللّيرة التركيّة بمقدار 250 نقطة أساس، لجميع فترات الاستحقاق دون استثناء. وكذلك تخفيض نسب الاحتياطي لمتطلبات «الفوركس» غير الأساسية، بمقدار 400 نقطة أساس لاستحقاقات عام وحتّى ثلاثة أعوام، واستخدام اليورو الأوروبي، كعملة مقابلة لاحتياطات اللّيرة التركيّة، بموجب آليّة خيارات الاحتياطي .
اللّوبي الاقتصادي: تركيا - ألمانيا نموذجا
من الخيارات الهامّة جدّا لعبور مثل هذه الأزمات هي تكوين لوبيّات اقتصاديّة وبنكيّة جيّدة وتفعيل الشّراكات التّجارية الاستراتيجية من خلال التّصدير والاستيراد والتّعاون الدّولي وتبادل الخبرات وفتح الأسواق بدون قيود تقريبا مع شركاء دولييّن كبار مثل ألمانيا وروسيا وفرنسا وانجلترا وإيران، فقد كشفت الأزمة أنّ اقتصاد تركيا ليس ريعيّا وليس هشّا وليس ذا مدخول واحد، بل هو اقتصاد مبنيّ على أسس متينة من قواعد صناعيّة جبّارة، فيكفي أن تعرف أنّ ألمانيا وحدها تملك ستّة آلاف وخمسمائة مصنع في تركيا، فما بالك بالدول الأخرى بل وما تملكة تركيا نفسها. كما اتضح أيضا أن الاقتصاد التركي متشابك ماليّا مع عمالقة المال في البنوك الأوروبيّة الكبيرة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وعندما تعرّضت اللّيرة التّركية للأزمة المفاجئة وقع اضطراب حقيقي كبير في أسواق المال الأوروبيّة، وهبطت الأسهم بشكل حاد، بل هبطت أسعار العملات الأوروبيّة الرئيسية: «اليورو» و«الاسترليني»، وهذا ما جعل الدّفاع عن تركيا واقتصادها يأتي من ألمانيا وإيطاليا وغيرهما.
يكشف هذا الزلزال عن قوّة الاقتصاد التّركي وامتداداته، بل ويجعل للأزمة بعدا إيجابيّا على المدى البعيد لصالح سمعة تركيا واقتصادها. في سياق هذه الحرب التّجارية علقت «أنجيلا ميركل» المستشارة الألمانية قائلة أنّ ألمانيا تريد أن ترى تركيا تزدهر اقتصاديا، لأنّ ازدهارها يصبّ في مصلحة برلين، مشدّدة على أنّه لا أحد لديه مصلحة بزعزعة الاستقرار الاقتصادي التركي. وأكّدت «ميركل » على أهمّية استقلال البنك المركزي التركي، وقالت «لا توجد مصلحة لأي أحد في عدم استقرار اقتصادي في تركيا. لكن يجب بذل كلّ شيء لضمان بنك مركزي مستقل». إذ تعتبر تركيا على رأس الدول المستوردة للسّلع الألمانية بالإضافة إلى ذلك فهي تربة خصبة للاستثمارات الألمانية المباشرة. فهناك عدد من شركات صناعة السّيارات والأنسجة وصناعات الأدوية ومستحضرات التّجميل تملك خطوط انتاج في المدن التّركية وتقوم بتسويق منتجاتها في تركيا والدّول المجاورة إضافة الى دول شرق أوروبا. بل وكشفت مجلة «شتيرن » الألمانيّة عن الصّفقات التي تعقد بين الشّركة الألمانية «راينميتال » والجانب التركي بشأن صناعة الدبابات. ولا يقتصر الوجود الألماني على الشّركات الضّخمة والبنوك، بل أنّ الشّركات المتوسّطة الحجم التي تشكّل عماد ومصدر قوّة الاقتصاد الألماني اتجهت في السّنوات الأخيرة الى فتح خطوط انتاجيّة لها في تركيا. وليست هذه الشّراكة من جانب واحد، إذ لم يتأخر رجال الأعمال الأتراك في التغلغل في السّوق الألمانية في الوقت المناسب واكتشاف جاذبيتها ومواطن قوتها، لا سيما وأن أكثر من 2.5 مليون تركي يعيشون في ألمانيا وتربطهم علاقات اقتصاديّة وطيدة بوطنهم الأمّ، الأمر الذي يفسر وجود مؤسسات خدميّة تركيّة بشكل كبير في معظم المدن الألمانية الكبرى. ولا يقتصر ذلك على قطاع المطاعم السّريعة كما يزعم البعض، فنسبة 23 % فقط من الشّركات التّركية هي التي تعمل في هذا المجال، في حين أنّ 77 % منها هي شركات خدمات متنوّعة مثل شركات التأمين والمحاماة والعيادات الطّبية والاستيراد والتّصدير. يكفي أن نعلم فقط أنّ هناك 60 ألف شركة تركيّة مسجّلة في ألمانيا، تمّ إنشاء معظمها من قبل العمالة التّركية الوافدة الى ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثّانية .
المراجع
[1] فوزي أحمد عبد السلام، «الانقلابات سنة العسكرالمؤكدة - تركيا كلاكيت 2016 م »، مجلة الإصلاح،
العدد 57 ، تونس.