الأولى

بقلم
فيصل العش
التجربة الديمقراطيّة العربيةّ: هل سيغلق القوس؟
 مقدّمة ‏
إنّ من يتأمّل الوقائع التي تجري في العديد من الدّول العربيّة وما يحدث فيها من انهيارات ‏سياسيّة واقتصادية واجتماعيّة، يستنتج بسهولة أنّ هذه الدّول لم تعش من قبل وضعا مزريا مثل ‏الذي تعيشه اليوم. وضع ميزته تخلّفٌ على جميع المستويات وتناحرٌ داخليٌّ استعملت فيه مختلف ‏أنواع الأسلحة المادّية ( من اليد  والعصا إلى الصواريخ والطّائرات والبراميل المتفجّرة) والمعنويّة ‏‏(استحضار الانتماءات الطائفيّة والعرقيّة والجهويّة والايديولوجيّة حسب خصوصيّات كل بلد من ‏البلاد العربيّة). وما يميّز هذا التناحر هو التنافس على تدمير ما تملكه البلاد - على قلّته- من بنى ‏تحتيّة ومرافق وآثار، بتمويل وأياد عربيّة صرفة وإن كان حضور الأيادي الأجنبيّة مؤكّدا ولو ‏بشكل غير مباشر. فهل يعني ذلك أنّ الأزمة لدى العرب مزمنة لا حلّ لها وأنّ الدّيمقراطيّة مصطلح ‏لا مكان له في القاموس السّياسي العربي؟ هل يتحمّل الاستعمار القديم والجديد مسؤولية ما تعانيه ‏الشّعوب العربيّة أم تتحمّلها الأنظمة الإستبداديّة التي حكمت تلك الشعوب لمدّة طويلة بمنطق العصا ‏والنّار؟ أم أنّ  ما سمّي بالرّبيع العربي هو أصل الخراب وسبب البليّة؟ وهل نعيش نهاية سريعة لهذا ‏الرّبيع أمّ أنّ الرّبيع في حدّ ذاته كذبة انطلت علينا؟ لنصل في الأخير إلى سؤال في غاية الأهمّية وهو ‏أي مستقبل ينتظر الأجيال العربيّة القادمة؟
أسئلة عديدة متشابكة تدور في ذهن كلّ مراقب للوضع ومتابع لما يحصل في أرجاء الوطن ‏العربي، علينا أن نغوص في أعماقها لنرفع اللّبس عن بعض جوانبها، ونجيب على السّؤال ‏المحوري : لماذا فشلت تجارب الانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي؟ ولأنّ كلّ الحالات ‏العربيّة ليست متشابهة فسنكتفي بالحديث في هذا المقال عن تجارب الدّول التي عاشت لحظات من ‏الديمقراطيّة وأنجزت في فترة ما انتخابات جاءت بنخب جديدة للحكم وهي تونس ومصر وليبيا.‏
الأخطاء القاتلة
الأخطاء كثيرة وعديدة لكنّنا سنركّز على ثلاثة أخطاء استراتيجيّة كانت في تقديري كافية لوأد ‏التّجربة في مصر وتحويلها إلى صراع مسلّح في ليبيا ولتعثّرها في تونس إلى حدّ الشّكّ في إمكانية ‏إنقاذها:‏
‏(1) عدم البحث عن صيغ واقعيّة ذكيّة في التّعامل مع القوى المتحكّمة في أجهزة الدّولة ‏ومؤسّساتها وعدم السّعي إلى الحدّ من تداعيات الاختلاف العميق معها في الرّؤى والأهداف ممّا ‏تسبّب في صدام مباشر معها، كان عنيفا ومكلفا.‏
‏(2) عدم إيلاء البعد الثقافي الأولويّة المطلوبة وتبخيس مشروعه الهادف إلى تطوير الحسّ ‏السّيادي لدى أفراد الشّعب وتجديد قيم المجتمع في اتجاه تعميق الثّقة والفاعليّة في مكوّناته وبعث ‏روح المسؤوليّة والعمل فيها، فكانت النّتيجة الفشل في تحويل الطّاقات الشّعبيّة إلى طاقات فاعلة ‏بنّاءة، لها وظيفة تتماشى مع قدراتها ومنسجمة مع اللّحظة التاريخيّة الجديدة التي تعيشها البلاد. ‏والمؤسف حقّا أنّ العديد من الممارسات كانت نتيجتها ارتفاع نسبة استقالة النّاس من المشاركة في ‏الشّأن العام، ففقد مشروع التّغيير أحد الرّكائز الأساسيّة الدّاعمة لنجاحه ألاّ وهي شعب واع متحمّل ‏لمسؤوليته.  ‏
‏(3) عدم الاهتمام الجدّي بملف الجمعيّات والمؤسّسات المدنيّة وغياب استراتيجيّة واضحة ‏المعالم، غايتها بناء مجتمع مدنيّ فاعل ومستقلّ يكون للسّلطة الجديدة ولأجهزة الدّولة سندا في ‏إنجاح الانتقال الديمقراطي والانطلاق في تحقيق التّنمية، فكانت النتيجة «كثرة بلا بركة» ومجتمع ‏مدني عليل لا يقدر على إنجاز مهامه في لحظة مصيريّة للبلاد.  ‏‎
تغيّرت النخبة الحاكمة وبقيت الدولة على حالها
يجب أن يكون الحديث عن أثر الرّبيع العربي بعد سبع سنوات من حدوثه نسبيّا، خاصّة أنّ ‏الوقائع على الأرض تختلف من بلد إلى آخر وأنّ المآلات والنّتائج ليست هي نفسها في هذا البلد أو ‏ذاك، لكنّها تشترك جميعها في كونها مؤشّرا أقرب إلى الأزمة منه إلى الحلّ. هذا الاشتراك يدلّ على ‏أنّ هناك أسبابا بعينها كانت وراء هذا الفشل سواء كان الفشل كاملا كما في الحالة المصريّة أو ‏جزئيّا كما في الحالة التّونسية والليبيّة. ومن بين هذه الأسباب خطأ استراتيجي اشتركت فيه النّخب ‏السّياسيّة الجديدة في البلدان الثّلاث يتمثّل في الفهم الخاطئ لعلاقة السّلطة بالدّولة. حيث اعتقدت هذه ‏النّخب أنّها قادرة على التحكّم في مسار الدّولة وأجهزتها بمجرّد تسلّمها للسّلطة السّياسية، لكنّها ‏سرعان ما اصطدمت بالقوى المتحكّمة في مفاصل الدّولة. وقد تسبّب هذا الخطأ الاستراتيجي في ‏إجهاض التجربة الديمقراطيّة برمّتها في مصر من طرف العسكر (المتحكّم الرئيسي في مفاصل ‏الدولة في مصر) وإدخال التّجربة في ليبيا إلى الانعاش بعد أن  تحوّل الصّراع بين السّلطة السياسيّة ‏الجديدة والدّولة العميقة إلى صراع عسكري استعمل كلّ طرف فيه ميليشياته لحسم الأمر. أمّا في ‏تونس فقد كاد يؤدّي هذا الخطإ إلى نفس المصير لولا أن تدارك جزء من النّخبة الجديدة الحاكمة ‏الأمر بإيجادها نوع من التّوافق مع جزء من القوى المهيمنة على مفاصل الدّولة وإن كان هذا ‏التّوافق في جوهره مغشوشا.‏
كان واضحا أنّ ما حدث في الدّول العربيّة المذكورة انطلاقا من عشيّة 14 جانفي 2011 لم يكن ‏ليحصل لولا المشاركة الموضوعيّة لبعض القوى المتحكّمة في مؤسّسات الدّولة (خاصّة الجيش)، ‏وبالتالي فإنّ التحوّلات السّياسيّة التي حدثت في هذه البلدان لم تكن تغييرا جذريّا وقطعا مع القديم ‏وإنّما شكل من أشكال التّسوية غير المخطط لها بين جزء من قوى الشّعب التي تحركت ضد السّلطة ‏السّياسية القديمة وطالبت بسقوطها وبين بعض مؤسّسات الدّولة التي لم تقف ضدّ مشروع خروج ‏النّخبة القديمة من السّلطة، فرفعت يدها عنها ممّا وفّر بشكل سريع الأرضيّة لانهيارها، وهذا ما ‏حصل في كلّ من مصر وتونس.‏
المشكل أنّ القوى السّياسية التي جاءت بها الانتخابات إلى السّلطة لم تقرأ ما حدث بموضوعيّة ‏ولم تتفاعل مع مجريات الأحداث بواقعيّة، فاعتقدت أنّها حين وصلت إلى السّلطة عبر صندوق ‏الاقتراع أصبحت قادرة على التحكّم في مسار الدّولة وأنّ إخضاع مؤسّساتها - بما فيها الجيش- ‏لنفوذها أمر سهل ومفروغ منه، فكان أن سقطت في خطأ استراتيجي مدمّر.‏
شعوب مغيّبة أو منسحبة
لا تقاس قوّة السّلطة السّياسيّة بجبروتها أوقدرتها على الحفاظ على الاستقرار بالقمع وقوّة ‏السلاح، وإنّما بمدى التحامها من خلال خياراتها ومشاريعها بمطامح شعبها ومساندته لها. لهذا، فإنّ ‏الأنظمة الديمقراطيّة في العالم هي الأنظمة الأكثر استقرارا وتقدّما وقوّة، أمّا الحكّام الذين وصلوا ‏إلى السّلطة عبر الانقلاب أو الوراثة بعيدا عن خيارات شعوبهم، فلا أمل في أن تكون لديهم دولة ‏قويّة، وهذا ينطبق على جلّ السّلطات السّياسيّة العربيّة التي استلمت الحكم بعد الاستعمار المباشر. ‏فقد انتهجت هذه السّلط، طيلة عقود كاملةـ سياسة قمعيّة تعسّفية لفرض خياراتها، من تداعياتها ‏إخفاقٌ للمجتمعات العربيّة في تحقيق نهضتها وتكريسٌ للتبعيّة الاقتصاديّة والثقافيّة، ذلك أن انعدام ‏الثقة بين الحاكم والشّعب دفع الأول إلى الارتماء في أحضان القوى الأجنبيّة من أجل حماية سلطانه ‏من جهة واستهلاك امكانيّات البلاد في تدعيم أجهزته القمعيّة بالعدّة والعتاد وصناعة مجد مزيّف من ‏جهة ثانية .أمّا الثّاني - أي الشّعب- فبعد أن فقد الوعي والإرادة انطوى على ذاته واختار الانزواء ‏وعدم المجازفة بمعارضة الحاكم أو البحث عن دور في الشّأن العام وعاش مكتفيا بالجري وراء ‏لقمة العيش. ولَئن حاولت بعض النّخب المجازفة وتنظيم نفسها في حركات سياسيّة واجتماعيّة، ‏فإنّها لم تجد في أغلب محاولاتها السّند الكافي من الشّعب، فكانت النّتيجة تعرّضها إلى القمع ‏والمطاردات والمحاكمات غير العادلة.‏
لقد تسبّبت أنظمة ما بعد الاستعمار المباشر بممارساتها الفاسدة، في تغييب الشّعب عن المشاركة ‏في الشأن العام وتكريس ثقافة القطيع. وجاء الرّبيع العربي بنخب سياسيّة جديدة كانت بالأمس ‏القريب مطاردة ومعارضة، وكان من المنتظر أن يلتحم هؤلاء بشعوبهم التي جاءت بهم إلى الحكم ‏والاعتماد عليها بصفتها قوّة داعمة، لكنّ شيئا من هذا لم يحدث، فقد وضعت النّخب الحاكمة كلّ ‏جهودها في الصّراع مع قوى الثّورة المضادّة وحاولت بمفردها التحكّم في مسار الأحداث ‏والتّطوّرات، فكانت النتيجة سيادة الفوضى في ليبيا ليتحوّل الصّراع على السّلطة إلى صراع ‏عسكرّي مدمّربين كتائب وعصابات احتكرت مصادر القوّة ومارست القمع على النّاس ومنعتهم ‏بلغة السّلاح من التّعبير عن حقوقهم وآمالهم، أمّا في تونس فقد كانت النّتيجة ارتفاع حدّة المناكفات ‏والتناقضات السّياسيّة والايديولوجيّة وهيمنتها على المشهد السّياسي والاجتماعي. في حين استمال ‏الجيش المصري بعض النّخب والتّنظيمات السّياسيّة ليحسم المعركة بانقلاب دموّي راح ضحيته ‏المئات في ساحتي «رابعة» و«النّهضة».‏
ونحن على مشارف السّنة الثّامنة من الرّبيع العربي، لا نرى في الأفق تغييرا يذكر في موقع ‏الشّعوب العربيّة ممّا يحدث، فهي في حالات مغيّبة وفي الأخرى منسحبة باختيارها بعد أن فقدت ‏الأمل في النّخب الحاكمة ولم تلمس فيها عزما على احترام إرادتها وتشريكها إلاّ في العمليّات ‏الانتخابيّة التي شهدت بدورها عزوفا كبيرا ما فتئ يبرز من مناسبة إلى أخرى.‏
والمؤسف في الأمر كلّه والخطير هو أنّ هذه الشّعوب هي من يدفع دائما الفاتورة والحساب بمزيد ‏من الفقر والتّهميش والجهل والجوع وفي حالات أخرى القتل والتشريد.‏
مجتمع مدني فاقد الفاعليّة
من المفروض أن تلعب مؤسّسات المجتمع المدني دورَ الوسيط بين الفرد والدّولة وأن تكون ‏شريكة في تأطير النّاس وتكوينهم والارتقاء بهم من خلال نشر الوعي وثقافة الدّيمقراطية وروح ‏المواطنة والمبادرة ‏والتّطوع وتعبئة الجهود الفرديّة والجماعيّة لتحقيق التّنمية ‏الاجتماعية ‏والاقتصادية والتأثير في السّياسات العّامة وتعميق مفهوم التّضامن الاجتماعي. ولقد ‏لعبت هذه ‏المؤسّسات تاريخيّا دورا أساسيّا في تنظيم حياة النّاس في مختلف المجالات خاصّة في ‏فترات ضعف الدّولة وأثناء ‏الاستعمار المباشر، فقد ساهمت في تونس كما في مصر وليبيا والعديد ‏من الدّول العربيّة الأخرى بشكل مباشر ‏في زرع روح المقاومة ومساعدة المناضلين والمقاومين ‏مادّيا ومعنوّيا، كما كان لها دور فعّال في ‏مقاومة الفقر والجهل. وعوض أن تتمّ الاستفادة من ‏هذا ‏الرّصيد الثّري للعمل الجمعيّاتي الذي يعكس قناعة المجتمعات العربيّة بمفهوم التّعاون ‏واستعدادها للمساهمة ‏التّطوعيّة في التّنمية وفي بناء الدولة، رأت سلط ما بعد الاستعمار في تلك ‏المؤسّسات تهديدا ‏مباشرا لقدرتها على احتكار السّلطة، فعمدت إلى تشويه أنشطتها ومحاصرتها ‏وتحويلها إلى كيان تابع لها. وكان من المفروض بروز «المجتمع المدني» كعنصر فاعل ومؤثر في ‏السّياسات العامّة لبلدان الرّبيع العربي ‏نتيجة التّطوّرات السّياسية المحلّية والإقليميّة والدّوليّة التي ‏حصلت في العقد الأخير، وكان بإمكان مكوّناته قيادة ‏المشاركة الشّعبيّة في صياغة سياسات الدّولة ‏لتصبح شريكا فاعلا لها في عمليّة ترسيخ مقومات الحكم السّليم ‏والارتقاء بالبلاد والعباد وتحقيق ‏الحرّية والكرامة والعدالة الاجتماعيّة على أرض الواقع بصفتها مطامح شعبيّة. ‏لكن ذلك لم يحصل، ‏ففي تونس مثلا، لم نر للجمعيّات التي تكاثرت بشكل لافت للنظر سوى دورا محتشما في بعض ‏المجالات المتعلقة بحرّية التّعبير ومراقبة العمليّة الانتخابيّة، أو في تقديم ‏بعض المعونات وتوزيع ‏الصدقات هنا وهناك، وإذا ما استثنينا الاتحاد العام التّونسي للشّغل، فإنّنا لم نسمع لبقية ‏مكوّنات ‏المجتمع المدني ركزا. ‏
والخطير في الأمــر أنّ أغلب تلك المؤسّســات لم تقـدر على تحقيق إستقلاليتها ‏والإفلات من تأثير ‏الأحزاب السّياسيّة والجماعات الايديولوجيّة في الدّاخل أوأجندات بعض القوى الخارجيّة بما ‏فيها ‏المخابراتية لبعض الدّول والجماعات الدّولية. فأغلب الجمعيات مرتهنة لجهات مانحة لديها أجندات ‏خاصّة ‏تختلف عن مطامح مكوّنات المجتمع، فباتت أنشطتها خاضعة للوصاية موجّهة في مجالات ‏لا تستهدف الاستجابة إلى حاجيّات الواقع الملحّة ‏التي تتطلبها المرحلة.‏‎‏ ‏‎لذلك فقد كانت عاجزة عن ‏القيام بالدّور المنوط بعهدتها في هذه الفترة الحرجة التي تمرّ بها البلاد والتي ‏تتميّز بعدم الاستقرار ‏وكثرة الأزمات. كما فشلت تلك الجمعيّات في استقطاب الشّباب ولم تنجح في جلب الأنظار ‏إلى ‏أنشطتها التي صُرفت من أجلها أموال كثيرة، ولعلّ سبب ذلك راجع إلى ‏طبيعة الأنشطة نفسها التي ‏لا تعني المواطن العادي ولا تمسّه في حياته اليوميّة وثقافته وعاداته.‏‎
والغريب في الأمر أنّ سبع سنوات كاملة لم تكن كافية لتقوم النّخب الحاكمة الجديدة بفتح ملف ‏هذه الجمعيّات ووضع استراتيجيّة واضحة المعالم تكون غايتها بناء مجتمع مدنيّ فاعل ومستقلّ ‏يكون لها سندا في إنجاح الانتقال الديمقراطي والانطلاق في تحقيق التنمية.  ‏‎
إنّ مجتمعا مدنيّا يفتقر إلى أهداف بيّنة تتماشى مع متطلبات المرحلة وتخطيطا استراتيجيّا واضحا ‏يضمن ‏استدامة النّشاط وتراكمه، لا يستطيع أن يكون عنصر توازن في المجتمع يتكامل مع ‏مؤسّسات الدّولة ولا فاعلا ‏في عمليّة الإصلاح. فليس المطلوب تضخّم عدد الجمعيّات وتنوّعها بل ‏المطلوب ‏أن تكون هناك جمعيّات لديها إمكانية الفعل في الواقع والالتحام بمختلف مكوّنات المجتمع ‏والعمل ضمن أجندة ‏قوامها تلبية حاجيّاتها الثّقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.‏ فلا خير في نسيج ‏جمعياتي ضخم الجثّة عديم الفائدة مرتهن في أغلبه للخارج لا يعرف النّشاط إلاّ داخل قاعات ‏مغلقة ‏بالنّزل والمنتجعات الفاخرة. ولا خير في «مجتمع مدنيّ» يصبح ميدانا تنتظم فيه «الهيمنة» بأدوات ‏جديدة ‏ومختلفة‎‏.‏‎
خاتمة
قد يكون في ما ذكرنا آنفا بعض القسوة على النّخب الجديدة التي تسلّمت السّلطة إبّان الرّبيع ‏العربي، فهي ليست مسؤولة لوحدها على تأزّم الوضع، إذ هناك جوانب أخرى كان لها تأثير أكيد ‏على نتائج ومآلات الأحداث بالدّول العربيّة وأهمّها الإرث الضخم من الاستبداد الذي تركته السلط ‏السياسيّة السابقة، ففي بلدان عاشت تصحّرا سّياسيّا لعقود عديدة غابت فيها الحرّية وحضر فيها ‏القمع والتسلّط والمهانة، يكون التّحوّل فيها من الدّيكتاتورية إلى الدّيمقراطية صعبا ومحفوفا ‏بالمخاطر. كما أنّ البعدين الإقليمي والدّولى ومصالح القوى المهيمنة عالميّا لها نسبة مهمّة في تأزم ‏الوضع وتوجيهه بعيدا عن الاستقرار والتنمية.‏
لكنّنا أردنا من خلال هذا المقال تسليط الضّوء على بعض الأخطاء التي حدثت في دول الرّبيع ‏العربي وقد كان بالإمكان تجاوزها لو اتّسمت مواقف وقرارات النّخب الحاكمة التي تسلّمت السّلطة ‏بشيء من الواقعيّة السّياسيّة. أخطاء جعلت من الانتقال الدّيمقراطي أمرا صعبا وبعيد المنال. ‏
صحيح أنّ إنجاز مشروع الديمقراطيّة في العالم العربي لا يمكن أن يكون دفعة واحدة وأنّ تراكم ‏التّجارب سيؤدّي حتما إلى اكتشاف أفضل السّبل لتحقيق هذا المشروع، لكنّه من المؤكّد أنّ جميع ‏السّبل تتقاطع منذ بداياتها مع احترام إرادة الشّعب والالتحام به والعمل على غرس ثقافة المواطنة ‏لدى كلّ أطياف المجتمع. ‏
وصحيح أنّ الوقوع في الأخطاء أمر طبيعي بحكم ما ذكرنا من طبيعة المرحلة، لكنّ الخطر ‏يكمن في عدم تجاوزها والاستمرار في تكرارها، الأمر الذي يزيد في تعقيد الوضع ويفتح الطّريق ‏واسعا أمام من يقف في وجه كلّ تغيير ليحتلّ مزيدا من المواقع تساعده على تسديد الطّعنات في ‏خصر التّحول الدّيمقراطي النّاشئ ومن ثمّ وأده والنّكوص إلى الدّيكتاتوريّة وما يتبعها من قمع ‏وتخلّف وانحطاط. ‏
لا نرجو أن نستفيق ذات يوم على إعلان نهاية ما يسمّى بالتجربة الديمقراطيّة الناشئة في تونس ‏لتلتحق بأخواتها الموؤودة في مصر واليمن وليبيا، لكنّ ذلك قد يحصل رغم سعي العديد من الأطراف ‏الدّاخليّة والخارجيّة إلى إنجاح التجربة التونسيّة أو على الأقل إبقائها على قيد الحياة ولو بصفة ‏شكليّة. لكنّ المؤكّد أنّ الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه قبل 14 جانفي 2011، وستولد من رحم ‏التّجربة الأولى تجارب أخرى ستكون أكثر نضجا وأكثر أملا في النّجاح شرط أن تغيّر النّخب ‏مفاهيمها وتجدّد خياراتها السّياسيّة وتطوّر وعيها بالظّروف الموضوعيّة المحيطة بها وقوانين ‏حركتها من أجل الاستفادة منها وتوظيفها بما يخدم عمليّة الإصلاح المرجوّة، بالإضافة إلى تغيير ‏أسلوب تعاملها مع العناصر الفاعلة والمؤثرة في الواقع وأهمّها القوى الشعبيّة. فلن تكون هناك ثورة ‏حقيقيّة من دون الالتحام بهذه القوى والانصات لمطالبها وتبنّي مطامحها والتّعبير عنها ولن تنجح ‏أيّ محاولة للتغيير في ظلّ تباعد الهموم والاهتمامات بين فصائل المجتمع والنخب السياسيّة ‏والثقافيّة.‏