قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
مواطن مطحون
 بين اهتمامات النّخبة واهتمامات المواطن العادي بون شاسع يزداد اتساعا يوما بعد آخر، ففي حين يقيم بعض النّخبة الدّنيا ولا يقعدونها من أجل المساواة في الإرث لا يكاد المواطن العربي يلاحق القضايا الحياتيّة الملحّة فهو في شقاء دائم يكابد مشقّة الحياة ولا يكاد يخرج من أزمة حتى يدخل أخرى.
لطالما تحدّثنا قي مقالات سابقة عن انحراف النّخبة أو بعضها على الأقل ومردّ هذا الانحراف ليس في انبتات هذه النّخبة فقط وإنّما في إصرارها على هذا الإنبتات وفي تعاليها على واقع النّاس رغم ما تدّعيه من دعاوي التّحديث والدّفاع عن حقوق النّاس.
يكفي المرء أن يتصفّح مواقع التّواصل الاجتماعي ليلاحظ أمرين في غاية الوضوح، أولهما عزوف الشّباب عن الاهتمام بقضايا الوطن الملّحة وهي قضايا في معظمها تتعلّق بمستقبل الشّباب نفسه وهذا أمر محير إلى حدّ بعيد. أمّا ثانيهما، فيتمثّل في كمّ الشكوى والسّخرية من الأوضاع القائمة وكأنّ الكتابة على الجدار الأزرق أصبحت ملاذا للنّاس من أجل تفريغ الهموم. ونحن لسنا إزاء قضايا عابرة أو بصدد مشاكل لا يحتاج حلّها إلاّ إلى قليل من الوقت، بل نحن إزاء أمور ملحّة تراكمت على مدى سنين طويلة ووضع متأزم ينبئ بالانفجار.
أولى القضايا الملحّة للمواطن والتي لا تجد صدى في اهتمام النّخبة هي قضايا الأسعار وارتفاعها المشطّ، فلقد بلغت أسعار كلّ المواد تقريبا مستويات مشطّة لم يعد بإمكان المواطن استيعابها أو التّعامل معها إلاّ من خلال ثقافة الحرمان التي بدأت تسري فى عقول النّاس الذين أصبح شعارهم الدّائم «احم نفسك لتستطيع البقاء». ونحن حين نسمّي ذلك ثقافة، فليس إلاّ على سبيل المجاز، إذ لا معنى لحرمان المواطن نفسه من الحاجات الدّنيا أو الأساسيّة لولا أنّ الظّرف اقتضى ذلك.
ندرك جيدا أن ثقافتنا العربية الإسلاميّة شجّعت على الاقتصاد في النّفقة ونبذت التّبذير وعدّته من أخوة الشّيطان وجعلت من الإسراف مدخلا للحسرة والنّدامة ولكنّ ذلك لم يكن بدافع الحرمان وإنّما كان بدافع التّشجيع على إنفاق المال في ما ينفع دون تبديده في ما لا يفيد، وشتان بين هذا وبين حرمان النّفس والعيال من ضروريّات الحياة لأنّ اليد قصيرة كما يُقال.
إنّ تواصل ارتفاع الأسعار بهذا النّسق الجنوني مع جمود الأجور وتدنّيها خاصّة فى القطاع الخاصّ سوف يؤدّي إلى مشاكل اجتماعيّة لا حصر لها ومشاكل سياسيّة أيضا، والمشكلة الكبرى أنّنا ندرك ذلك جيّدا ولكنّنا لا نبحث عن حلول حقيقيّة لهذه المشكلات بل نهتم بقضايا أخرى بعضها غير ملحّ وبعضها الآخر أقلّ إلحاحا في إصرار منّا على تدمير طاقاتنا وممارسة مزيد من الانحراف. 
لن يكون بمقدورنا إزاء وضع راهــن يزداد تعفّنا سوى انتظــار كارثــة تحلّ بالمجتمــع، تهــدّده بالتّفكك لا قدر الله أو تنخر داخلــه نخرا بارتفــاع معدّلات البطالة والجريمـــة والطّلاق وتفاقم مشكلات أخرى كالعنوسة والانحــراف والأمراض النّفسية وتدهور القيم وغير ذلك من المشكلات التي نعانيها الآن دون أن نجد لها حلولا.
أمــــا ثانــي هــذه القضايــا فهـــي قضيّــة التّعليــم التي باتت تؤرّق كلّ مواطن يلامــس هــــذا المرفــق من قريب أو من بعيـــد. ولا شكّ أنّنـــا لا نأتي بجديـــد حين نشير إلى وجود أزمة في التّعليــم بجميـــع مستوياتــه وتلك بحدّ ذاتها مشكلة إذ لا معنى لإدراك شيء دون الاستفادة من هذا الإدراك. وإذا عدنـــا إلى النّخبة من جديد، فإنّنا سوف نلاحظ أنّ هذه النّخبة قد جعلت من قضايا التّعليم سببا للصّراع والانقســـام، إذ يدعوا الجميع إلى ضـــرورة إصلاح المنظومة التّعليميّة ولكنّهم يختلفون فى كيفية الإصلاح بل يتركون هذه المهمّة لمنظّمــات أجنبيّـــة ودوليّـــة ويحاول بعض النّخب المتغرّبـــة والمؤدلجة فرض إصـــلاح لا يتناسب مع ميول المجتمع وواقعه وهويته غير عابئين بخطورة ذلك ولا همّ لهم سوى إرضاء غرورهم السّياسي والفكري ولو أدّى ذلك إلى مزيد من المشكلات ومزيد من الفشل.
يعاني التّعليم فـــي أوطاننـــا من اهتراء في البنية التّحتية وشحّ في الإنفاق على المــدارس والمعاهـــد والكليـــات حتى غدت فى حالـــة يرثى لهـــا من حيث المعمار أو من حيث التّجهيـــزات وطاقة الاستيعاب، ولا غرابـــة حينئذ أنّ نجد فصولا يزيد عدد التّلاميذ فيها عن الأربعين تلميذا قي قاعة بعيدة عن المواصفات، قديمة الأثاث لا تتوفر فيها ظروف الرّاحة بحدّها الأدني لا للمعلّم ولا للتّلميذ. وليست البنية التّحتية وحدها مبعث الحيرة بل الشّأن نفسه بالنّسبـــة للبرامج التّعليميّـــة التـــي لم تعد تفي بالغرض منهـــا مثقلة بالحشــــو والاجترار ومسيّسة إلى حدّ بعيـــد ومعدّة أصلا ضمن منظومة استبداد سياسي وقيمي لا يمكن الفكاك منه بسهولة خاصّة مع نخبة متواطئـــة ولا أدلّ على ذلك من المثال التّونسي، حيث عجز الجميع إلى الآن عن إعداد مشروع لإصلاح المنظومة التّربوية رغم مرور سنوات على الثّورة ورغم يقين الجميع بضرورة هدا الإصلاح، لا لشيء سوى صراع النّخب في ما بينها والتّدخل الخارجي فى مسألة من المفترض أن تكون مسألة سياديّة ولكن هيهات.
إنّ إصـــلاح الشّـــأن التّربوي ليس ترفـــا أو شيئـــا تتفضّــل به الدّولـــة أو نخبهـــا على النّاس ولكنّه شأن في غايـــة الخطـــورة، وإذا لم يقع هذا الإصلاح في القريب العاجــــل، فسنظلّ نعاني مزيدا من التّخلّف والانحدار.
أمّا ثالث المشكـــلات الملحّــة والتي يتوجّب علـــى المجتمع مواجهتهـــا هي مشكلة الصّحة وما أدراك ما الصّحة، ونحن لا نضعها في هذه المرتبة المتأخّرة إلاّ مضطرّين بسبب إلحاح ما سبقها وانعكاسه المباشر عليها إذ الصّحة تاج الإنســان كما يقال. لا يحتاج المرء سوى جولة بسيطة في أيّ مستشفى في أيّ مدينة ليدرك حجم الكارثة التي يعانيهـــا النّاس. اهتراء  في البنية التّحتيّـــة وانعدام للتّجهيزات وتكدس للأوساخ واكتظاظ للغرف والعيـــادات وغياب كلّي للانضباط لدى بعض العاملين بل وفساد بدأت مظاهره تتفاقم يوما بعد آخر. وإذا كانت منظومة الصّحة العموميّـــة بهذا التّدهور فإنّ المنظومـــة الخاصّة على عكسها تماما. فهذه المنظومة من السّهل أن نلاحظ فيهــــا أناقة في البناء وسرعــــة فى الخدمات وتطـــوّرا فى التّجهيـــزات ولباقـــة فـــى المعامـــلات بل وانظباطـا تامّــا عند العامليـــن والعاملات يجعلك تعجب من هذا التّناقـــض بين المنظومتين. 
ولكن الفـــارق لا يكمن فى ما ذكرنـــاه آنفا فقط ولكن الاختلاف الجوهري والحقيقي يتمثّل في كلفة الخدمات حيث أنّ المنظومــة الخاصّة مشطّــة الأسعــار لا يقدر على خدماتها إلاّ من كان ثريّا قادرا على الإنفاق بل إنّ بعضا من الأثرياء يعجز هو الآخـــر أمام غلاء الخدمـــات إذا طالت مدّة العلاج أو تطلّب ذلك إقامة طويلة للاستشفاء.
إنّ المنظومة الصّحية في بلادنا فى حالة يرثى لها ومن ثمّ صار من الواجب والملحّ إصلاحها إصلاحا جذريّا يجعل من الحقّ في الرّعاية الصّحية حقّا فعليّا لا شعارا فضفاضا، فهل يتحقق ذلك يوما؟ .
إن ما ذكرناه من مشكلات ليس إلاّ غيضا من فيض، إذ أنّ المواطن العربي يعاني من ضنك فى العيش يجعله أقرب إلى الكفر بهذه الأوطان التى تطحنه طحنا وبهذه النّخب التى تعيش منبتّة عنه وتحتكر الكلام فى قضاياه بشكل يدعوه إلى القرف من هذه النّخب، أمّا السياسة فيكاد هذاالمواطن أن يطلقها ثلاثا وتلك أكبر المشكلات.